&يقول فضيلة "الشيخ محمد الغزالي" رحمه الله في كتابه "الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية": " الإسلام يمنحنا حرية الرأي، ولكنه لا يسمح لفريق منا أن يفرض إرادته على فريق، أو يفرض زعامته على أمة على الرغم منها، أو يحول المسلمين إلى أغنام يسوقهم أمامه كأنه الراعي الوحيد. شرط الإسلام الأكبر أن يكون المسلمون أحرارا ولا مكان فيهم للطغاة ولا للعبيد، فلا تزجوا بالإسلام في خلافاتكم، وحاولوا أن ترتفعوا إليه بدل أن تنزلوه إليكم".

مناسبة الحديث عن القمع الفكري المستتر بعباءة الدين هو ما ذكره الأكاديمي في جامعة الملك سعود "الدكتور معجب الزهراني" خلال أيام معرض الكتاب الذي أقيم في العاصمة السعودية الرياض قبل أسابيع، حيث ذكر أنه تعرض خلال حديثه في ندوة (الشباب والفنون... دعوة للتعايش) لمقاطعة من مجموعة من المحتسبين على خلفية تعبيره عن أسفه الشديد لتدمير الآثار الحضارية في بعض البلدان العربية، في إشارة إلى تنظيم داعش الإرهابي، حيث أكد المتشددون حينها إن هذا فعل الرسول محمد (ص) الذي هدم الأصنام، وعطل المتشددون الندوة قبل أن يقيموا الصلاة جماعة بجانب منصة المحاضرات. كما ذكر "الزهراني" أنه تعرض للنصح والتجمهر بعد الندوة، وأنه كان محظوظا بسبب تواجد رجال الأمن وإلا ربما تعرض لأذى جسدي مباشر، حيث أنه سبق له التعرض للأذى الجسدي في مرات سابقة، هو والعديد من زملائه.

حوادث القمع الفكري بإسم الدين تحدث في أكثر من بلد عربي وإسلامي، ففي شهر يوليو من عام 2007م، أصدر أكثر من 100 إسلامي مصري بيانا طالبوا فيه بإستتابة المرحوم الشاعر المصري "حلمي سالم" صاحب قصيدة "شرفة ليلى مراد" التي أعتبرت من وجهة نظرهم مسيئة إلى الذات الإلهية. ودعا البيان المرفق بتواقيع شخصيات مهنية بين محام وطبيب ومهندس وشيخ دين، الشاعر إلى التوبة والرجوع عما كتب والتبرؤ منه على الملأ والندم الشديد عليه وكثرة الإستغفار والتذلل بين يدي الله (جل شأنه) وطلب المغفرة.&

وفي شهر يوليو من عام 2005م، أعلن الكاتب والباحث المصري البارز "الدكتور سيد القمني" بشكل مفاجئ براءته من كل كتاباته السابقة التي تتمحور حول قراءة التراث الإسلامي من منظور تاريخي نقدي، واعتبار كل ما كتبه من "الكفريات" وعزمه إعتزال الكتابه والفكر نهائيا بعد أن تلقى تهديدا بالقتل عبر رسالة وردت إليه على بريده الإلكتروني تحمل توقيع جماعة الجهاد في مصر. وقبل هذا – أي في شهر أغسطس من عام 1996م صدر حكم قضائي شرعي على أستاذ الفلسفة السابق في جامعة القاهرة المرحوم "الدكتور نصر حامد أبو زيد" الذي قضت محكمة شرعية بالتفريق بينه وبين زوجته بإعتباره كافرا مما إضطره إلى ترك بلاده والهجرة قسرا إلى الخارج.

في ظل مناخ معاد لحرية الفكر والإبداع، تعتبر دعوات التوبة والإستتابة بمثابة تحريض على القتل ما لم يعلن الأشخاص المستتابون توبتهم على الملأ. وهنا يجب التذكير بحادثة إغتيال المرحوم المفكر والكاتب "فرج فوده" في شهر يونيو من عام 1992م بسبب التحريض الشنيع الذي شنته عليه جبهة علماء الأزهر. وكذلك محاولة إغتيال الأديب الكبير "نجيب محفوظ" رحمه الله في شهر أكتوبر من عام 1995م لإتهامه من قبل هيئات دينية بالتطاول على الذات الإلهية.&

إن هذه الحالات المشار إليها أعلاه، تندرج ضمن هذا القمع الفكري بحجة الدفاع عن الدين الإسلامي والدين منها براء، حيث بعث الله الأنبياء والرسل يدعون الناس إلى الإيمان بالله وعبادته وحده بالتي هي أحسن، تاركا لهم حريه الإختيار، لقوله تعالى في محكم كتابه: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". وقوله جلت قدرته: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". والقراءة الواعية والتفسير الصحيح لآيات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يؤكدان حرية الإنسان وحقه في الإختيار من دون وصاية عليه من أحد، حتى من الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم جميعا، لقوله تعالى مخاطبا رسوله الكريم: "إنما أنت مبشر لست عليهم بمسيطر".

يؤكد أغلب العلماء المتخصصين في علم التاريخ الطبيعي للأديان على أن القمع السياسي متولد من القمع الديني. والبعض يقول: "إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرئاسة، أو هما صنوان قويان تربطهما الحاجة إلى التعاون على ذل الإنسان. والمفارقة بينهما أنهما متسلطان أحدهما على الأجسام والأخر على العقول والقلوب والنفوس. وهذا القول لا يعني أن القمع من صلب الأديان وطبيعتها، إنما هو من طبيعة الإنسان الذي إستغل الأديان وحرفها وحور معانيها الإنسانية السامية لخدمة مصالحه على مدى التاريخ. منذ قديم الزمان وحتى وقتنا الحاضر، تحالف الملوك والأمراء والكهنة – أي رجال الدين في كل الأديان – وأرباب المال، لتسخير الأديان لخدمة مصالحهم وتكفير ومحاربة كل من تسول له نفسه كشف جرائمهم وإستغلالهم البشع للبسطاء من الناس بإسم الأديان.

لقد تطورت الدول المتحضرة بسبب إحترامهم للإنسان ووضعه في المرتبة الأولى من حيث الأهمية، وإيمانهم بحرية التفكير كوسيلة للإبداع والتطوير وإعمار الكون، وحق الإختلاف كضرورة طبيعية. بينما تخلف العالمين العربي والإسلامي بسبب ضيق نفوسهم من هذه المبادئ الربانية السامية. وفي العالمين العربي والإسلامي هناك حكومات وأحزاب سياسية (دينية وآيديولوجية) تغتال مواطنيها من المفكرين والمثقفين والمبدعين والكتاب، وتنكل بهم بحجة الدفاع عن الدين والقيم الإسلامية أو لإختلاف الآيديولوجيا.

إننا بحاجة ماسة إلى إشاعة وتكريس ثقافتي التسامح والتفكير القائمتين على مبادئ تعدد الأفكار وحق الإختلاف والنقد البناء وقبول الآخر، ومقارعة الفكر بالفكر والحجة بالحجة والكتاب بالكتاب، ونبذ ثقافة التكفير واللجوء إلى العنف والتصفيات الجسدية. وهذا يتطلب تكاتف مؤسسات المجتمع المدني في العالمين العربي والإسلامي للوقوف بشجاعة وحزم في وجه هذه القوى الأصولية المتطرفة التي تحاول إحتكار الدين الإسلامي، وتحرض على القتل وإراقة الدماء وتعتبرها أقصر الطرق إلى الجنة والحور العين.

يقول الشيخ الغزالي في موضع آخر من الكتاب نفسه: "إننا في هذه المنطقة يجب أن نتعلم كيف نختلف، فنحترم من يخالفنا أو يعارضنا كما نحترم أنفسنا، لا أن نبادر بإلقاء تهم الخيانة على كل من لا يتفق معنا في رأي أو يختلف معنا في طريق".

آخر الكلام: كيف تتقدم وتتطور أمة تخنق الفكر وتقتل الإبداع وتزدري التراث والفنون، وتغتال وتنكل بالمفكرين والمبدعين والفنانين؟&

&