برحيل حافظ محفوظ، تفقد مجلة "الحصاد" اللندنية رئيس التحرير الذي رافق ولادتها ونموها حتى آخر يوم من حياته. كان أبو بسام زميلنا في المهنة، وكان صديقاً وفياً وأخاً حبيباً، وقليلونفي ميدان الصحافة اللبنانية والعربية من كان مثله في الوداعة والخلق الطيب. قرأت نبأ رحيله في رسالة على هاتفي، وأنا أبحث عن مقهى دافىء في حي من أحياء بروكسل الباردة. جعلني الخبر أعدو إلى حيث أسكن، واتصل بالمرسلة، السيدة إبتسام أوجي، وإذا بي أحسُ في صوتها حزناً كالذي انتابني. جلست أفكر في الراحل حافظ، وأستعيد الأيام التي جمعتنا، والمرة الأولى التي التقينا. كان ذلك مطلع السبعينات، في أول عهدي بالصحافة. كنت يومها صبياً يتدرًج في مهنة المتاعب، وكانت مهمتي مراجعة البروفات المنضًدة، في مجلة "الصياد"، التي كان يرأس تحريرها أستاذنا جان عبيد، الذي أصبح في ما بعد، في وزيراً للخارجية في حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري. كان حافظ على ما أذكر، يعمل في جريدة "الأنوار" التي كانت تصدر عن دار "الصياد"،. أمضيت في تلك الدار أشهراً قليلة، كانت كافية لتوقد في نفسي جذوة التعلق بالصحافة كهواية، وكمهنة في ما بعد. في أوخر السبعينات، كنت أدرس في لندن، وكان حافظ قد ترك لبنان الحرب الأهلية وسافر إلى الكويت، ومن هناك بدأت علاقي المباشرة معه، بعد تسلمه إدارة تحرير مجلة "اليقظة"، إذ كنت أرسل إليه مقالاتي كمراسل غير متفرغ.

الحق أني لا أجد من كلمات أعبر فيها عن حزني على حافظ الطيب الودود، المنصف، المؤمن الذي لم يعرف قلبه ضغينة تجاه أحد من الناس، الهادىء الطبع، حتى في الوقت الذي لم يكن أحد من حوله هادئاً. لا أذكر في كل السنوات الطويلة التي عرفت فيها حافظ محفوظ أن رأيته يوماً تفوه بكلمة نابية، أو قال كلمة سيئة بأحد، لذلك أحبه الناس، كل الناس، فقيرهم وغنيهم، وضيعهم وسريهم، لأنه كان خلقاٌ وأدباً كله. المرة الأخيرة التي سمعت صوته، كانت قبل رحيله بأربعة أيام. سألني إذا كانت لدي مادة جديدة لمجلة "الحصاد"! لم يدرك هو ولا أنا أدركت، أن المادة الجديدة التي سوف أكتبها وأرسلها ستكون هذه السطور! لكنها الأقدار الغدّارة وما أقساها، تأخذ من حياتنا أحبة، ما أكثر ما نكون في حاجة إليهم. أعرف أني واحد من مئات، وربما الآلاف من الناس الذين حزنوا على الصديق الراحل، من أهل له ومقربين، وأصدقاء كثر في لبنان ودنيا العرب والمهاجر، وأخص بالذكر الصديق الكبير نظمي أوجي، والعزيزة القديرة إبتسام أوجي، ومن كانوا على صلة قريبة منه في سنواته الأخيرة.

جاء حافظ محفوظ من بلدة مرجعيون الجنوبية في لبنان، وقد سميت هذه البلدة بهذا الاسم، لكثرة ما فيها من المروج وعيون الماء. ترك البلدة إلى بيروت في ستينات القرن الماضي، وعمل معلماً للغة العربية في مدرسة "لبنان" بمنطقة عين الرمانة، وكان يسكن في فندق متواضع بمنطقة باب ادريس. بعد سنوات من التعليم، يكتشف أن الصحافة هي المهنة الأقرب إلى قلبه، وكانت دار " الصياد" بداية المشوار. من بيروت انتقل إلى الكويت، ثم إلى لندن، ليعمل في مجلة "الحوادث" التي توقفت في ما بعد، بعد توقف قلب صاحبها ملحم كرم، ثم كانت "الحصاد"محطته الأخيرة.

لم تنل الصحافة من تواضع حافظ محفوظ، وخصاله القروية، وبقي يحتفظ بلهجته المرجعيونية المحبًبة، كأنه قادم للتو من الجنوب. كان صحافياً كلاسيكياً، لم يأنس للحداثة، وبقي حريصاً على رسالة الصحافة بأنماطها القديمة وأصالتها، وهي صحافة تبقى برغم قدمها، أفضل بما لا يقاس، من صحافة حديثة متلونة، ويديرها كتاب "اشتروا أقلاماُ من الدكاكين، وصاروا حملة أقلام"!

هل كان حافظ محفوظ يتوقع رحيله ويشعر بأن أن ساعته قد دنت؟ أقطع بذلك، ومن يقرأ القصيدة التي نشرها في الصفحة الأخيرة من عدد "الحصاد" الأخير، يصل إلى هذه النتيجة.هي قصيدة تعبر كلماتها عن مشاعر رجل أسيف، عنوانها "إرهاب العمر" ومطلعها يقول:

إرهاب العمر يعرًيني / من ثوب شبابي ويكويني

بلهيب الخيبة من أمس/ كالحلم مضى لا يرويني

ودعت الصيف ونكهته / ودخلت ضباب السبعين

وخريفي أطلق موسمه/ تشرين يغص بتشرين

ويليه شتاء آخره/ موت حتمي يطويني

كتب حافظ محفوظ تلك القصيدة، ليقول لنا وداعاَ. لكنني لن أبادله تحية الوداع هذه، فأنا لم أره منذ ثلاث سنوات تقريباً، وأريد أن أقنع نفسي بأنه لا يزال حياً يُرزق، وأجدني في ذلك مصطنعاً حيلة كان الأديب اللبناني سعيد تقي الدين، لجأ إليها عندما كان مهاجراً في الفيليبين، في ثلاثينات القرن الماضي، بعدما بلغه نبأ من لبنان، بأن عمه الشاعر أمين تقي الدين قد وافته المنيًة. لم يبك الأديب المهاجر في الشرق البعيد، ولم يتفجع، على موت عم كان يحبه حباً جماً، بل كتب فيه مقالاً عنوانه "أمين تقي الدين موته اغتراب". تذكرت الحكمة من ذلك المقال، وأنا أفكر بالغائب حافظ. حاولت أن أقنع نفسي بأن هذا الذي جاءني نعيه من لندن، لا يزال حياً، وأن موته ليس فناء، وإنما اغتراب. 

قد يكون ذلك ضرب من الخداع العقلي يلجأ إليه الضعفاء، ليدفعوا الحزن عن أنفسهم ساعة تصيبهم النائبات. لكن من يدري، قد يكون حيلة ناجحة أيضاً.