مرة أخرى ، وهي لن تكون المرة الأخيرة قطعاً، التي تثير الولايات المتحدة العالم من خلال تهديداتها بتوجيه ضربة عسكرية مؤثرة ضد سوريا ، وكان آخر تداعيات هذا التصعيد هو تصريح ممثلة الولايات المتحدة الأمريكية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والتي صرحت " أننا سنذهب نحو تنفيذ العقوبات العسكرية ضد نظام بشار السد سواء من داخل مجلس الأمن أو من خارجه" ، لأنها توقعت استخدام روسيا لحق النقض الفيتو في مجلس الأمن الدولي ضد أي قرار دولي بالسماح لمهاجمة سوريا بذريعة استخدامها للسلاح الكيميائي، وهو ماحدث بالفعل مما أثار غضب الدول الغربية صاحبة مشروع القرار . افتتحت إسرائيل حملة التصعيد العسكري وقامت بشن هجوم جوي بأربع طائرات أف 15 و أف 16 تحمل ثمانية صواريخ ضد مطار عسكري سوري مهم تصدى لها سلاح الجو السوري وأسقط خمسة صواريخ منها قبل اصابتها لأهدافها ولكن تمكنت ثلاث صواريخ من بلوغ أهدافها مما ادى إلى مقتل أربعة عشر شخصا سبعة سوريين وسبعة مستشارين عسكريين إيرانيين ولقد حذرت روسيا من مغبة توجيه ضربة عسكرية واستعدادها للرد عليها بكل السبل بما فيها العسكرية ما يعني انتقال مستوى التصعيد إلى درجة خطيرة تقرب من احتمالات المواجهة العسكرية المباشرة بين القوى العظمى كما وجهت الصين بدورها تحذيرا مشابها للدول الغربية حيال أية مغامرة عسكرية غير محمودة العواقب في هذه المنطقة الحساسة.
في حقيقة الأمر تتجاوز الأوضاع المتفجرة في المنطقة إطار سوريا ومايدور على أراضيها. فالمطلوب حالياً من وجهة نظر الغرب هو إعادة توزيع الأوراق وتعديل الحدود والتقسيمات الدولية التي نجمت عن اتفاقية سايكس بيكو قبل قرن من الآن ولقد بدأ السيناريو التدميري منذ سنة 2001 في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول وضرب برجي التجارة العالمية في نيويورك ، وهو الحدث الذي ينطوي على الكثير من الألغاز والأسرار ولم تكن الإدارة الأمريكية وأجهزتها الاستخباراتية بعيدة عنها . تدخلت أمريكا على نحو مباشر في إسقاط نظام طالبان في أفغانستان الداعم لتنظيم القاعدة الإرهابي المتهم بجريمة ضرب برجي التجارة بالطائرات المدنية ، وفي نفس السياق شنت الولايات المتحدة الأمريكية غزوها للعراق سنة 2003 وإطاحة نظام صدام حسين بحجة منعه من استخدام أسلحة الدمار الشامل ونجحت في تدمير كل شيء في العراق وعلى رأس قائمة التدمير هو الشعب العراقي والبنية التحتية العراقية وإخراج العراق من معادلة الشرق الأوسط وتحويله إلى دولة فاشلة بكل معنى الكلمة. ثم التفت الغرب إلى بقية الدول الشرق أوسطية المناهضة للمشروع الغربي والسايكس البيكو الجديد وذلك من خلال إشاعة الفوضى الخلاقة وإطلاق ماسمي بالربيع العربية سنة 2011 وقامت بتدمير ليبيا واليمن وإلى حد ما تونس وتتربص بالجزائر واستمرارها بتدمير العراق ، إلا أن حصة الأسد كانت من نصيب سوريا ، مع استمرارها في التخطيط لتركيع إيران بالرغم من انصياع هذه الأخيرة لإملاءات الغرب وإراغمها على التفاوض بغية توقيعها على الاتفاق النووي. أساءت الدول الغربية تقدير مدى التدخل والإلتزام الروسي في الملف السوري وبالتالي وجدت نفسها وجها لوجه أمام إصرار فلاديير بوتين على عدم السماح بإسقاط نظام بشار الاسد مهما كانت التداعيات ومهما بلغت كلفة مثل هذا الموقف . هناك بالطبع عمليات تنسيق وتشاور سرية في تقسيم النفوذ بين الأطراف الدولية المتصارعة على الساحة السورية، فلايمكن لإسرائيل ، على سبيل المثال أن تشن غارة جوية على سوريا بدون علم وإذن روسيا، وإلا تعرضت طائراتها وصواريخها لمضادات منظومة صواريخ أس 400 المتطورة التي بامكانها اصطياد جميع الطائرات المغيرة التي تخترق الأجواء السورية، فهناك دائما حسابات سرية بين الدول المتورطة بالملف السوري وهي دولية وإقليمية حيث أن لتركيا وإيران وإسرائيل والسعودية وقطر ولبنان من خلال حزب الله، دور مؤثر وفاعل على مجرى العمليات العسكرية وإدارة دفة الحرب الأهلية الدائرة في سوريا الآن. قد يبدو للعيان أن الولايات المتحدة الأمريكية تتخبط في سياستها الخارجية الشرق أوسطية، فتارة يعلن الرئيس الأمريكي سحب قواته من سوريا بعد القضاء على داعش في العراق وسوريا، وفي اليوم التالي يتراجع عن قراره ويقرر تعزيز قواته والتهديد بضرب سوريا ولقد توجهت مدمرة أمريكية بالفعل من سواحل قبرص إلى سواحل سوريا استعدادا لتوجيه صواريخ كروز وتوماهاوك ضد سوريا، ويعود ذلك الى تعدد مراكز القرار الاستراتيجي في أمريكا وهي ليست محصورة بالرئيس أو البيت الأبيض. هناك مؤسسات أمنية وعسكرية واستخباراتية وهناك سلطة الكونغرس والسلطة الدبلوماسية وغيرها التي يمكن فرض وجهات نظرها وتحليلاتها وتغيير موقف الرئيس الأمريكي. أما إسرائيل فهي تسعى بأي ثمن إلى تدمير البنية التحتية والآلة العسكرية السورية ومنع تمركز إيران على الأراضي السورية بالقرب من حدودها، في حين أن إيران ترغب في تواجد دائم في سوريا على غرار رغبة روسيا بالبقاء بقوة على الأراضي السورية بالقرب من المياه الدافئة واحتفاظها بقاعدتها البحرية في طرطوس، بيد أن الجميع أقر ببقاء نظام بشار الأسد لفترة زمنية طويلة قادمة ولقد اعترفت تركيا والسعودية بذلك بعد ان بذلوا الكثير من المال والسلاح لتحقيق هذه الهدف منذ العام 2011، ما يغير من قواعد اللعبة واستراتيجيات التدخل في الشأن السوري لكنهم لم يتوصلوا إلى الحل السياسي المقبول من قبل الجميع. الأيام القليلة القادمة ستشهد تطورات دراماتيكية على الساحة السورية حتى لو كانت محدودة قد تقتصر على ضربات عسكرية على بعض الأهداف العسكرية السورية لكن ذلك لايمنع من حدوث تطورات ماساوية وقد تفلت الأمور عن السيطرة ويتحول التصعيد الكلامي إلى موجهات عسكرية مباشرة بين الأطراف المتورطة بالأزمة السورية دولياً وإقليما وتنفجر حربا شاملة مدمرة سوف تأكل الأخضر واليابس .
التعليقات