خرجت القمة الثلاثية التي انعقدت مؤخراً بين روسيا وتركيا وإيران بنتائج عدة، اعتبرها المراقبون خطوة إضافية جديدة باتجاه تدعيم المحور أو التحالف الاستراتيجي الذي يضم الدول الثلاث وتم تدشينه سابقاً في قمة "سوتشي" التي عقدت في نوفمبر 2017، ومن أهم هذه النتائج تضامن روسيا مع التوجه التركي حيال الأكراد، ورفض أي وجود لقوات دول أخرى ـ عدا الدول الثلاث ـ على الأراضي السورية!

هناك شواهد عدة على أن روسيا تراهن من جانبها على "سحب" تركيا من عباءة حلف الأطلسي، وفي مقدمتها قرار الرئيس بوتين تقديم موعد تسليم صفقة صواريخ "إس 400" إلى تركيا (كان الموعد المقرر في يوليو 2019) وهذا يعني بدوره إما أن تركيا تستشعر خطر ما وطلبت من روسيا تقديم الموعد وتمت الاستجابة لمطلبها، أو أن بوتين قرر تقديم الدليل على جديته في بناء تحالف مع تركيا عبر تزويد القوة الخامسة عسكريا في حلف الأطلسي، بعد الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، وصاحبة ثاني أكبر جيوش الحلف بعد الولايات المتحدة، بصواريخ روسية متقدمة، ليتأكد للحلف أن الحليف التركي قد أعاد التموضع استراتيجياً وأن علاقته بالحلف لم تعد سوى في الإطار الشكلي الذي ينتظر قرار الخروج الرسمي، لاسيما أن الإعلان عن تقديم موعد استلام صفقة الصواريخ الروسية قد تزامن مع وجود وفد عسكري أمريكي رفيع المستوى في أنقرة للتباحث بشأن شراء تركيا صفقة من صواريخ "باتريوت" بديلاً للصفقة الروسية.

الرد الأميركي على الرسالة التركية الروسية جاء سريعاً عبر عدول الرئيس ترامب عن فكرة انسحاب القوات الأمريكية من شمال سوريا، وتأجيل القرار بهذا الشأن ما يعني أن الولايات المتحدة لم تعد تهتم بغضب تركيا، بل ستواصل التمسك بورقة الأكراد لمناكفة تركيا وإيران.

وعلى الرغم من أهمية مقررات البيان الختامي الصادر عن قمة "اسطنبول" فإن هناك غياب متعمد للتفاهمات التي تمت حول قضايا عدة في مقدمتها مستقبل الدولة السورية، والموقف حيال التدخل التركي في عفرين، ما يعني أن هناك تفاهمات سرية قد تمت وجرى استبعادها من البيان الختامي، بدليل أن ما تم التفاهم عليه في قمة سوتشي قد ظهر على أرض الواقع بعدها بفترة وجيزة، وتحديداً في يناير 2018، من خلال قرار تركيا اجتياح أراضي سوريا واحتلال عفريت بضوء أخضر تركي وصمت إيراني ـ! ويعتقد المراقبون أن توابع قمة إسطنبول ونتائجها وما جرى من تفاهمات سرية سيظهر تباعاً في بلدة تل رفعت التي تفصل بين مناطق السيطرة التركية في سوريا، ومطار"منغ" العسكري وهما الهدف التالي لتركيا بعد سيطرتها على عفرين، والأرجح انه قد جرت صفقة تبادل نفوذ على بعض المناطق بين روسيا وتركيا وهو ما سيتضح في الفترة القليلة المقبلة. 

نجحت إيران من جانبها في تحقيق أهداف حليفها الرئيس الأسد، الغائب الحاضر، في تلك القمة، حيث انتزعت تعهداً صريحاً من الدول الثلاث بشأن الحفاظ على وحدة أراضي سوريا، وهو هدف يتماهى مع رغبة تركيا في نسف أي مخطط لإقامة دولة كردية في الشمال السوري، ولكن إيران انتزعت تعهداً آخر على خلاف رغبة تركيا بشأن مصير الأسد، حيث اتفقت الدول الثلاث على أن مستقبل سوريا ومصيرها يحدد وفق إرادة شعبها، ما يعني بقاء الأسد، ويبدو أن الرئيس أردوغان قد تنازل عن موقفه حيال الأسد مقابل القضاء على التهديد الاستراتيجي الأخطر في الوقت الراهن لتركيا، والخاص بإقامة الأكراد لدولتهم!

هناك حالة من الغضب والاستياء العربي حيال غياب العرب تماماً عن النقاشات والمؤتمرات والاجتماعات الدولية والإقليمية التي تعقد لبحث مستقبل سوريا، أو ـ بصراحة أكثر ـ لبحث تقاسم المصالح الاستراتيجية لهذه الأطراف والدول في سوريا.

وفي المقابل هناك توقعات لبعض المراقبين بانضمام دول عربية لهذا المحور أو التحالف، ويرشح البعض سوريا والعراق وقطر!

أياً كانت التوقعات والتكهنات، فالأمر غير القابل للجدل أن هناك تحولات استراتيجية عميقة تتشكل حالياً في المنطقة، منها تحول تركيا بشكل كامل نحو الشرق، وإعادة ترتيب أوراقها بالرهان على التحالف مع روسيا وإيران، وهذا الأمر يعني أن هناك خسارة استراتيجية وشيكة الوقوع على المصالح العربية ما لم يتم تدارك هذا الواقع.

السؤال الأكثر الحاحاً إذاً يتمثل في البدائل الاستراتيجية المتاحة أمام العرب للتعامل مع هذا المشهد الإقليمي المعقد؟ الحقيقة أن الخيارات لم تعد كثيرة أمام العواصم الخليجية والعربية التي تسعى لترميم الخروقات التي يعانيها النظام الإقليمي العربي، ولكن هذا لا يعني أن الأمر قد حسم، صحيح أن القرار العربي بشأن التصدي لمؤامرات التوسع والهيمنة على المصالح والدول العربية قد تأخر ولكن الوقت لم يفت بعد، وخير دليل على ذلك تصدي التحالف العربي للتمدد الاستراتيجي الإيراني في اليمن، فإنقاذ اليمن قد عرقل المشروع الإيراني وحافظ على هامش مناورة معقول أمام العرب للحفاظ على الأمن القومي العربي.

يجب ان نعترف بأن الواقع العربي الآن بات أقوى وأكثر تماسكاً عما كان عليه الحال منذ سنوات قلائل مضت، فمصر قد استعادت عافيتها وقوتها وقدرتها على الفعل والتأثير، والمملكة العربية السعودية باتت تتحرك بفاعلية وديناميكية على المسرح الإقليمي والدولي وبما يحول دون السماح للمتآمرين بمزيد من التخطيط والتدبير ضد مصالح الدول والشعوب الخليجية والعربية، وهذا الواقع بحد يمنحنا الكثير من الأمل في التصدي لمشروعات التوسع وتقاسم المصالح العربية.