العقل التنميطي والذي يمارس عملياته العقلية وفق آلية تقليدية سكونية لايحيد عنها هو عقل خطر!
ليس لأنه لا يستجيب لقوانين الحياة وصيرورة الأبدية المتبدلة فقط , بل لأنه أيضا يحاكمك ويفهرسك ومن الممكن أن يصفيك , إذا لم تنسجم مع قوالبه الفكرية .
وهو العقل الذي يصفه المفكر العربي أركون بأنه (عقل أرثوذكسي صلب ومغلق, وهذا يعني نزع صفة العقلانية عن منتجاته الفكرية , لتشبعه بمفاهيم وقيم موروثة عن عصور سيادة اللاهوت والتصورات الميثولوجية)
هذا النوع من العقل المطمئن لحقائقه المكتملة , مازال هو الذي يدير الحياة الفكرية في العالم العربي ويهيمن عليها , وإن رفعت في زمن ما لافتات يسارية تحتكم إلى المادية العقلية , ولكنها سرعان ما وقعت في قبضة الأيدلوجيا .
وحتى بعد أن تهلهل اليسار وظهرت بعض الجيوب الليبرالية في المشهد الفكري العربي إلا إنها بدورها صنعت أصنامها وأوثانها , دون أن تعرض مسلماتها لفضيلة الشك والسؤال والمراجعة , بل باتت التعاليم هي عبارة عن لاهوت فكري ومدونات مقدسة.
من أبرز تعاليم اللاهوت الفكري في منطقتنا هي مركزية الصراع العربي الصهيوني , بحيث تنمط خطاب المواجهة والتجييش ومن يؤجله أويحيد عنه فهو خائن ضال .
متناسين بإن كل الشعوب العربية بدورها قد خاضت حروبا شرسة ومواجهات مستنزفة ضد الاستعمار , حتى إذا خرج آخر جندي مستعمر من المنطقة , بدأت خوض صراعات مع بؤر عنف وجهل مقاومة للمدنية والتحضر , كر وفر ونزال شرس حول قلاع تمترس داخلها نظم فكرية قروسطية تقوم على العنصرية والإقصاء .
وقد يكون الخليج العربي من أكثر المناطق التي كابدت عملية تضليل وتغريب عن قضاياها المحلية ومضمار معاركها وتحدياتها الوجودية .
فدول الخليج الفتية , كان لديها تحديات تأسيس الدولة المدنية الحديثة , والانعتاق من العباءة القبلية , مع الاستثمار في الثروات الطبيعية التي ظهرت فوق أرضها .
جميع هذه التحديات الجسيمة لشعوب الخليج , لم تكن تولى اهتماما أو ينظر لها بعين التقدير , مقابل خطاب قومجي متهورزاعق يصيح لاصوت يعلو فوق صوت المعركة , ويتحكم في جميع هذا العقل الخطر الذي ينصب محاكم التفتيش , ويوزع تهم التخوين والتصهين صباح مساء , ضد من يخرج على لاهوته وكهنوته.
ومن هنا اختطف خطاب الخليج الوطني , وتحديات التأسيس , ونضالات البدايات , وجير وعي شعوب المنطقة لحساب قضايا قومية في البداية , ومن ثم النضال الأممي الذي تخطف شبابه لبؤر الصراع العالمي بعدما هيمن الأخوان على المشهد الفكري.
وظلت الوطنية المحلية , والهوية الإقليمية , متقهقرة ومؤجلة ينبس بها أهل المنطقة على خجل واستحياء وكأنهم يرتكبون خيانة ما!!
حتى استيقظنا في يوم ما والأجندات الخارجية تعبث ليس في العقول , بل في رؤوس الأموال واستراتيجيات التنمية, لتصب في جيوب غامضة ومجهولة ولتمول كل ماهو ضد استقرار المنطقة وسكانها .
ولنكتشف بأن الخليج عموما والمملكة بالتحديد تقع في مرمى سهام المزايدات والتخوين بشكل كاريكتيري , لدرجة بتنا نسمع نائب لبناني يبدي رأيه في بيع أسهم شركة أرامكوا , ومجموع من المشاغبين العرب يشوهون سيارات الخليجين في لندن؟
لماذا؟ وما نوع الاستحقاقات المطلوبة من الخليج وأهله ؟؟
العقل العربي السكوني الذي نمط النضال العربي بالكوفية والحجر فقط, لماذا أشاح عن نضالات من ساروا فوق الرمال حفاة ونازلوا غيلان القحط , وسعالي التخلف , وأين قائمة نضالات سكان المنطقة وهم يرتقون شقوق الصحراء والتشرذم القبلي ويصنعون دولة ؟
وعندما اهتزت عواصمهم وربت وأنتجت من كل زوج بهيج , و ظهرت من بين الرمال تلك القباب الذهبية للمدن المسحورة التي باتت حلم لكل عربي, لم تنسجم مع هذا المشهد جوقة الحرس القديم ؟
الخليج بالتأكيد لا يستطيع أن ينفصل عن عمقه العربي والأقليمي , لكن في نفس الوقت يمتلك مشروعا وطنيا له الأولوية والأسبقية , فدول مستقرة مع تجربة حضارية تنموية يقدمها الخليج لمحيطه حتما ستقود بدورها العالم العربي قفزات إلى الأمام.
التعليقات