لن يجدي تعليقا او مقالة للأجابة على سؤال مركب مثل هذا. لابد من اجابة مركبةايضا، تأخذ بعين الأعتبار سلسلة طويلة من المتناقضات لكي تجمعها في اطار واحد، هو بدوره مركب من التاريخ والفكر الديني والقومي ومجموعة النظم الأقتصادية والأحكام بمعناها القانوني وطرق التفكير والأساطير التي خلفها. مئات الكتب، عربية واستشراقية حاولت الأجابة لكن بمجموعها قد نصل الى تحليل منطقي – تاريخي اولي، بما تشمله كلمة تاريخ من علوم مختلفة. لعل الأستشراق الألماني، بحكم عدم استعماره للعالم العربي، كان الأكثر موضوعية في البحث عن اجابات مقنعة او تكاد. هذه فرضية يشاركني فيها البعض.؟ لست من ذوي الأختصاص لكن، شأني شأن من يتابع اهل الحل والعقد من ذوي الأختصاص، لدي بعض افكار في الموضوع اذا اعتبرت نفسي مثقفا له اهتمام بالتأريخ؟. السطور اللاحقة، ليست اجابة تامة بل محاولة لأعادة طرح السؤال: لماذا تخلف العالم العربي والأسلامي بعد عصر ذهبي؟ وهل نزل التخلف بصورة مفاجئة كزلزال في ليلة مقمرة؟
في مقاييس القرون الوسطى كانت حواضر وارياف اغلب البلدان العربية تتفوق من نواح كثيرة على مثيلاتها في اوربا او شرق آسيا وكل ما سمي بالعالم القديم في المنظومات الأقتصادية والقانونية والفكرية والدينية وكانت، كأمثلة، بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة منارات حضارية اهم شأنا من روما الممزقة بحروب امبراطوريتها وانتظار سقوطها او قرية باريس المحاصرة بنهر السين او القسطنطينية التي يمزقها الجدل البيزنطي في جنس الملائكة او حتى بكين او مومباي التي كانت امبراطوريات عسكرية منعزلة في مشرق الشمس، رغم عبقريتها.
لم تعش الحواضر العربية كل قرونها في استرخاء تام، فقد كان شرقها وغربها يميد بحركات فكرية مختلطة ومختلفة سرعان ماتدك الحواضر بجيوشها لكن منارة الفكر والتحضر لم تكن لتخبأ. اكثر من مؤرخ يعتقد ان نهاية حقبة الخليفة المأمون العباسي هي نهاية الأستقرار وبداية الأنحطاط و التخلف خصوصا اذا علمنا، وفق بعض المصادر، ان خليفته المعتصم كان أميا واعتمد في جيشه على المرتزقة الأتراك في دعم حكمه وفي شن حروبه الداخلية والخارجية.منذاك وما سماه التاريخ الأكاديمي العصر العباسي الثاني بدأ التخلف الفكري اولا يضرب جذوره ثم تلاه الأقتصاد ثم تلاه التطرف الديني ثم تلاه تلاشي المركزية والأحتلالات المتعاقبة من اقوام رعوية من اواسط آسيا حتى السقوط المأساوي لبغداد على ايدي المغول في منتصف القرن الثالث عشر. بعد قرنين ستسقط غرناطة الأندلس نهائيا، وتفتح اسبانيا الكاثوليكية آخر بقعة اسلامية، تحكم بأسم العروبة والدين الأسلامي، في اوربا الغربية. في العام ذاته وبعد عشرة شهور من سقوط غرناطة اكتشف النبي القرصان كولمبس القارتين الأمريكيتين وبدأ الغرب في نهضته الكبرى التي نشهد بداية نهايتها اليوم وبداية تأريخ آخر لحضارة من نمط جديد.
لعل الحدث الأكثر بروزا في تاريخ التخلف العربي – الأسلامي كان صعود السلاجقة وهيمنتهم على داينمو الشرق: بغداد. نظام عسكري اقطاعي رعوي عنيف، حديث العهد بالدين الأسلامي.سقوط بغداد وبداية العهد السلجوقي هو الفاصل الأوضح في المسيرة المأساوية للتخلف العربي. لقد غير هذا الأحتلال نظام الأرض والتجارة واطلق العنان للتطرف الفكري والديني ونهاية الفلسفة وهيأ للحروب الصليبية، التي بدورها، ستزيد من التطرف الديني وتقطيع اوصال البلدان العربية، شرقها وغربها.محل المعتزلية والحنفية والفاطمية المنفتحة نسبيا ستجد الحنبلية طريقها الى المجتمع العربي – الأسلامي بسهولة وبتعبيرات مختلفة. ليس صلاح الدين الأيوبي، العسكري المتعصب الا نموذجا مثاليا لهذه الحقبة.
الحقبة العثمانية وليدة شرعية لهذا التخلف الذي قطع شوطا في الشرق. بل انها طورت قيم التخلف الأقتصادي والفكري والقانوني والديني بموروثها البدوي الآسيوي. اطلالة بسيطة على نظم الأرض والضريبة والأقليات الدينية تكشف عن تخلف كبير لهذه الأمبرطورية التي منعت استخدام المطبعة حتى منتصف القرن التاسع عشر. لا ينكر الدور الذي قامت به آلة جوتنبرغ في تهيئة عصر الأنوار الأوربي بينما منع السلطان استخدامها، بأعتبارها شر اوربي، وحتى حين سمح بأستخدامها تحت سيطرة السلطنة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،فقد كان شرطها ان يكون المالك نصرانيا او يهوديا او اوربيا.
ليس ظهور ما سمي بفترة النهضة العربية في مصر سرا او عجيبة من عجائب القرن التاسع عشر. كان انفصال مصر عن الدولة العثمانية هو سبب نهضتها وكانت اولى خطوات حاكمها الألباني محمد علي باشا هو استقدام المطبعة " الشريرة " وتغيير نظامي الأرض والضرائب واطلاق حرية فكرية نسبية، مهدت بدورها لظهور الناهضين من محمد عبدة الى رضا رشيد و جمال الدين الأفغاني وصولا الى قاسم امين و لطفي السيد و سلامة موسى وطه حسين وجيلهما.
الملاحظ، انه كلما ضعفت الأمبراطورية العثمانية كلما تقدم الفكر في مستعمراتها من اليونان وبلغاريا حتى مصر والعراق والجزائر. حين سقوطها و ظهور تركيا الكمالية كانت حركات التحرر السياسي والفكري والأجتماعي على اشدها، رغم الأستعمارات البريطاني والفرنسي والأيطالي.النظر في مواثيق حركة سعد زغلول في مصر و ثورة العشرين في العراق وثورة الريف في المغرب تكشف عن انتقالة واضحة في التطور المجتمعي والرغبة العميقة في التحديث على كل الأصعدة. ميثاق ثورة الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي يبدو متقدما في بعض النواحي على الدستور الفرنسي، بشكل خاص بما يتعلق بحرية المرأة و نظام ملكية الأرض والأقليات القومية والدينية. ليس غريبا ان يجتمع على سحق ثورة الريف ثلاثة من الجنرالات الذين حكموا بعد قرابة عشرين انظمة فاشية: الأسباني فرانكو والفرنسي بيتان والايطالي غرازيني، الذراع اليمنى لموسليني.
رغم ذلك فأن استقرارا نسبيا وتطورا سياسيا واجتماعيا حصل في البلدان المذكورة وبدأت تنمية بطيئة لكنها اكيدة في اكثر من بلد عربي.لم يكن للفكر الديني المتطرف حضورا خلال تلك العقود واصبح الدين شأنا ثانويا وكانت الحداثة الفكرية والسياسية والأقتصادية تأخذ طريقها في المجتمعات التي بدأت في انشاء دول ومؤسسات مدنية بالدرجة الأولى، رغم ان الأسلام كان دين الدولة الرسمي كما الحال في دول اوربية عديدة متطورة. لكن كلمة الجنرال الفرنسي غورو عند قبر صلاح الدين الأيوبي في دمشق " اليوم انتهت الحروب الصليبية ياصلاح الدين " كانت تخفي بذرة عودة التخلف من جديد واعدام النهضة بمقصلة فرنسية – بريطانية واقصد قيام دولة اسرائيل اليهودية. اول دولة دينية في الشرق الجديد بعد ثلاثين عاما من احتلال دمشق.ابتداءا من تلك اللحظة فأن عبارة " الله اكبر " التي شقت الفضاء في المظاهرات والحروب اخذت صداها وشيئا فشيئا احتلت الفضاء العربي كله، محطمة كراسي الحداثة الرقيقة بسجادات الصلاة القادمة من مكة.خلال اكثر من نصف قرن كانت فلسطين هي قلب الحدث العربي. نصف ميزانيات الدول المحاددة كانت لشراء السلاح وادامته. اهملت التنمية، التعليم، الصحة، نظام الأرض تغير عشوائيا بقرارات ثورية خصوصا بعد مجئ العسكر من الأرياف البعيدة لقلب المدن التي كانت تريد ان تكون حديثة.الثورية العسكرية لم تكن لتختلف عن مثيلتها الأقطاعية في عهد السلاجقة. نظام التعليم صار ثوريا والقانون يطبق في محاكم ثورية واخذت الثورية مكانها في كل فروع الحياة بما في ذلك الشعر الثوري الذي صار شعرائه في اعلى طبقة من طبقات الشعراء الذين لم يأت ذكرهم في كتاب ابن قتيبة؟
اغلب ما حدث من نكسات ونكبات ليس في الحروب فحسب، بل في اسس الدول العربية حيث" لحم الموضوع وسداه " اسمه العدو الأسرائيلي. لا حريات ولا ديمقراطية مادامت حربنا مع اسرائيل قائمة. لا راسمالية ولا اشتراكية، لا حرية ولا رأي عام لانشر ولا صحافة حرة.هكذا كان منطق العسكر. تدجين مطلق من مبدأ كل شئ من اجل المعركة ولا شئ من اجل الشعوب. العربي صار مشروع " شهادة: بتعبير صدام و ردام. ومنذاك وبعده فالدول العربية، صاحبة الحواضر التاريخية، تدفع شعوبها فاتورة الحروب الخاسرة والنصف خاسرة في مصر والعراق وسوريا وليبيا وووو في قلب فلسطين ذاتها. ليس احتلال العراق ولا تدمير سوريا ولا فوضى لبنان وليبيا واليمن الا نتائجا لهذا القدر الذي رسمه شعب الله المختار.
بعد هذا أليس وجود اسرائيل مصدرا رئيسيا من مصادر تخلف العرب اليوم؟ او قل على الأقل نصف تخلفنا والنصف الثاني تاريخنا الذي لم نعرف الأمساك به بعقل " عصر الأنوار " الأوربي؟
- آخر تحديث :
التعليقات