نحن العرب لا نكاد نعرف شيئا عن بلدان أخرى تعيش مثلنا حروبا ونزاعات دموية، وفواجع لاتكاد تنتهي.&ولعلّ أحوالنا الصعبة، وأزماتنا المتتابعة الواحدة تلو الأخرى هي التي تعيقنا عن النظر الى الآخرين بعين فاحصة.&وبورما، البلد الآسيوي، واحد من هذه البلدان التي نجهل ما يحدث فيها.&وقد تكون رواية البورمي باسكال كهو تهفي التي حملت عنوان: ”الأوديسة البورميّة"&وثيقة مهمة تكشف لنا خفايا هذه البلاد، وآلام شعبها، وجراحه النازفة.

الزمن:&شهر فبراير&-شباط1988.&المكان:&مقهى في مدينة&"ماندلاي"&الواقعة على أراضي بورما العالية والساخنة.&في هذا المقهى يجلس شاب يدعى باسكال كهو تفي.&وهو في الواحدة والعشرين من عمره، ويدرس في الجامعة&-قسم الآداب الانجليزية.&بين روّاد المقهى سيّد انجليزي يدعى جون كازاي.&وهو أستاذ مرموق في جامعة&"كامبريدج".&وفي تلك الفترة كانت بورما تعيش سنوات الاشتراكية الإجبارية.&وكان الجنرال ني فين يحكمها بالحديد والنار.&وكلّ من يتفوّه بكلمة مثيرة للشبهات يواجه مصيرا مظلما.&وكان اللقاء بين الطالب الشاب والأستاذ المرموق وديّا للغاية.&ولعلّهما تحدثا أثناء اللقاء عن الأدب الانجليزي.&وربما تحدثا أيضا عن الكاتب الايرلندي الشهير جيمس جويس الذي سيؤثر في ما بعد في الشاب البورمي فيقتدي به عندما يشرع في كتابة روايته الآنفة الذكر.&وقبل أن يغادر المقهى، ترك الاستاذ الانجليزي عنوانه للطالب الشاب، ثم قفل عائدا الى بلاده.&بعد ذلك ببضعة أشهرنوتحديدا في شهر آب&-أغسطس&1988، اندلعت مظاهرات طلابية عارمة ضدّ نظام الطغمة العسكرية.&غير أن القمع كان شديدا ومريعا.&فقد أطلق الجنود النار على المتظاهرين ليقتلوا منهم العشرات.&في حين اقتيد المئات الى السجون.

وقيل ذلك لم يكن الطالب باسكال كهو تفي يولي اهتماما بالسياسة.&ودائما كان يحاول عدم التورّط في أيّ نشاط سياسي.&لكن وهو برى رفاقه الطلبة يتساقطون امام عينيه، أو يساقون الى السجون مصحوبين بجنود مدججين بالسلاح، قرّر الثتمرّد على النظام القائم.&فلمّا لاحظ أن الشرطة أصبحت تراقب حركاته وسكناته، قرّر الهروب من البلاد.&ومن دون أوراق هويّة، اجتاز الغابات الكثيفة بينما كان حراس النظام يقتفون أثره.&وعند وصوله الى الحدود الفاصلة بين بورما وتايلندا، وجد نفسه مجبرا على خوض الكفاح المسلح.&بعدها وجد الحماية لدى قبيلة&"كاراني".&وهي قبيلة من أصل بورمي، لكنها تعيش في تايلاندا.&وعند تلك القبيلة، عاش الطالب الشاب باسكال نصف عام عرف خلاله متاعب مضنية.&فقد تكالبت عليه الأمراض.&وكان مجبرا احيانا على أكل الفئران والنباتات.&أحيانا أخرى كان يجتاز حقولا ملغومة فيها تتعفن الجثث البشريّة.&وفي النهاية قرّر أن يكتب للأستاذ الانجليزي رسالة مقتضبة وفيها يقول: ”عزيزي الأستاذ.&أنا في وضع صحيّ سيء للغاية.&ينقصني الغذاء وأشياء أخرى كثيرة.&سأكون مدينا لك بكل مساعدة تقدمها لي في هذه الظروف الصعبة.&وأنا لا زلت راغبا في مواصلة دراستي في الآداب الانجليزية.&عندما توصل برسالته، قام الأستاذ الانجليزي باتصالات واسعة لدى أوساط المعنية بمسألة اللاجئين.&وفي النهاية نجح في الحصول على ما يمكن ان يضمن للطالب البورمي الشاب الدخول الى بريطانيا لينتسب الى جامعة&"كامبريدج".&وفي عام&1991&،شرع باسكال كهو تفي في كتابة&"الملحمة"&التي عاشها خلال فترة هروبه.&وبلغة مكثفة وشاعرية، يحدثنا عن الأيام الصعبة التي أمضاها وسط الغابات الكثيفة، وعند القبيلة البورمية في تايلاندا.&فعل ذلك باختصار شديد بحيث لا يشعر القارئ بأي ملل.&وفي البداية كان باسكال يرغب في الاحتفاظ لنفسه بما كتبه، غير أن أصدقاءه أقنعوه في النهاية بضرورة نشره.&وفعلا أصدر باسكال كهو تفي عمله الروائي حاملا عنوان: ”الاوديسة البورمية".&وفي الحين لاقى هذا العمل صدى كبيرا لدى القراء في بريطانيا&.&لذا ترجم الى العديد من اللغات.&ويقول باسكال كهو تفي: ”لقد كتبت هذه الرواية لكي يحسّ الآخرون بما يقع في بورما،وبما يعيشه الناس هناك من آلام وفواجع مرعبة".