خلال العقود الثلاثة الأخيرة، اتسعت الرقعة الجغرافية لهجرة المثقفين العرب لتشمل كل البلدان الأوروبية، وأيضا كندا والولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا. والآن نحن نعاين أن أعدادا كثيرة من الكتاب، والشعراء، والنقاد، والرسامين، والسينمائيين، والمسرحيين المنتمين إلى بلدان عربية مختلفة، من المشرق والمغرب، يقيمون في هذه البلدان. ومنهم من تحصل على جنسياتها، وبات مواطنا فرنسيا، أو بريطانيا، أو هولنديا، أو ألمانيا، أو سويديا، أو إيطاليا، أو اسبانيا، أو غير ذلك. وهذه ظاهرة جديدة لم يسبق لها مثيل في التاريخ العربي المعاصر إذ أن وجهات هجرة المثقفين العرب في البداية، أي منتصف القرن التاسع عشر كانت باريس. وهذا ما يتجلى من خلال &"تخليص الابريز في تلخيص باريز" للمصري رفاعة الطهطاوي، وأيضا في "الساق على الساق فيما هو الفارياق" للبناني أحمد فارس الشدياق الذي كان قد ساح في أيضا في لندن، وفي مالطة. وفي مطلع القرن العشرين، قطع المثقفون العرب المحيط الأطلسي ليكون لهم حضور مُشرق في الأمريكيتين. مع ذلك ظلت باريس الوجهة المفضلة لأغلب المثقفين العرب الذين سيلعبون دورا مهما في تطوير الثقافة على جميع المستويات، ناشرين أفكار التحديث والإصلاح، وداعين لصحوة فكرية وثقافية تنهي عصور الر كود والانحطاط. وجل هؤلاء المثقفين انطلقوا إلى الغرب ضمن بعثات دراسية كان الهدف منها الانفتاح على الحضارة الجديدة التي كانت قد بسطت نفوذها على العالم بأسره، أو دفعتهم ظروف العيش إلى ترك بلدانهم بحثا عن حياة أفضل مثلما كان حال مثقفي المهجر في الأمريكيتين.&

لكن انطلاقا من منتصف السبعينات من القرن الماضي، أخذت &هجرة المثقفين العرب تتسم بمواصفات وخصائص تختلف عن الهجرات السابقة. ففي هذه المرة أصبحت الهجرة اجبارية بسبب الحروب، والاستبداد السياسي، وتعاظم نفوذ الحركات الأصولية التكفيرية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك. ومقارنة بالهجرات الأولى التي ولدت حركات أدبية وفنية هامة، وفجرت أفكارا جديدة، تبدو الهجرة الراهنة بائسة، وموسومة بسلبيات كثيرة ومختلفة. وأنا الذي أمضيت أزيد من ربع قرن في أوروبا، وفي ألمانيا تحديدا، عاينت من خلال تجربتي الشخصية،& أن كثيرين من المثقفين العرب الذين يعيشون في المهاجر يعانون من عقد، ومن أمراض نفسية خطيرة. وقد وجدت بين هؤلاء& من يتصرفون &وكأن الهجرة لا تعني بالنسبة لهم سوى الحصول على جنسية البلد الذي يقيمون &فيه، وعلى جواز سفرها، مظهرين &لامبالاة تجاه المآسي والأزمات التي تتخبط فيها بلدانهم، واحتقارا لهويتهم الوطنية. بل قد يتنكرون لهذه الهوية تنكرا كاملا إذا ما اقضت مصالحهم الآنية ذلك. لذلك لا ينتج أمثال هؤلاء سوى أعمال سطحية مبتذلة سواء كانت نثرا، أن شعرا، أم فنا من الفنون الأخرى. وهناك مثقفون يعانون من تضخم الذات، متوهمين أنهم الأفضل على جميع المستويات. لذلك لا يتحملون النقد، ولا يسعون إلى تطوير تجاربهم، أو الاستفادة& من تجارب أخرى، لتصبح الهجرة لديهم زنزانة فردية فيها يتعفنون، ويختنقون بغاز ذواتهم المريضة. وقد تعرفت على مثقفين عرب يعانون من الانفصام، ومن الشعور الدائم بالحيف والظلم، متيقنين أنهم أنتجوا وينتجون أعمالا مهمة لا يدرك معانيها العميقة آخرون غيرهم. بل قد يحاولون اختلاق أكاذيب لإثبات أن هناك من يعمل في الخفاء لحرمانهم من المجد والشهرة. والحقيقة أن أعمال هؤلاء لا تعدو أن تكون مجرد ركام من الحماقات والهذيانات. وتنشتر بين المهاجرين العرب أمراض أخرى مثل الحسد والغيرة. وقد تدفع مثل هذه الأمراض أصحابها الى ارتكاب أفعال غاية في الدناءة والخساسة. وهناك مهاجرون ينسبون إلى أنفسهم بطولات وهمية، مروجين، خصوصا لدى الغربيين، أنهم من ضحايا القمع والاستبداد في بلدنهم. لكن عند التثبت في سيرهم، نتبين أن ما يروجونه لا صالة له بالواقع.&

وسبب متاعب الهجرة ومصاعبها، تكثر الخصومات بين المثقفين، فتندلع معارك حامية لا تكاد تختلف عن معارك القبائل القديمة، لتنتفي كل مظاهر التآزر والتضامن والثقة، ولتتحول الهجرة إلى جحيم لا يطاق. وقد لا يهتم المثقفون العرب بثقافة البلد الذي استضافهم، ومنحهم الجنسية والإقامة، ولا يتابعون ما يحدث فيه من أنشطة فنية وأدبية وندوات فكرية، بل يتقوقعون على أنفسهم لتصبح هجرتهم" غيتو" مرعب يعطل طاقة الخيال والابداع. وقد تتشكل في الهجرة "مافيات "تساهم في تعميق الخلافات بين المثقفين العرب في مهاجرهم. وكل مجموعة من هذه "المافيات" تسعى بكل الطرق والوسائل إلى الحصول على ما تبتغيه حتى ولو دفعها ذلك إلى الدوس على أبسط المبادئ الأخلاقية والإنسانية. ولعل كل هذا ما يفسر غياب أعمال أدبية وفنية عالية القيمة، ورفيعة المستوى مثل تلك التي أنتجها المهاجرون العرب القدماء أمثال طه حسين، وتوفيق الحيكم، وجبران خليل جبران، والطيب صالح، ومخائيل نعيمة، وهشام شرابي، ويحي حقي، &وايتال عدنان، وغيرهم.