نبيل شـرف الدين من القاهرة: ظلت الساحة المصرية دائماً رائدة في كل نشاط فكري أو سياسي أو حتى فني، ليس هذا من قبيل القراءة الشوفينية للأحداث، بقدر ما هو إقرار لواقع إقليمي قائم يعززه التاريخ، وتؤيده جيوستراتيجية المنطقة، فما يحدث في مصر يتكرر بصورة أو أخرى في بلدان عربية وإسلامية مجاورة، ومن بين أبرز هذه الظواهر، وأكثرها حضوراً وتأثيراً في الوقت الراهن، ظاهرة "الإسلام الحركي"، التي تلقت دعماً ومساندة من قبل مؤسسات رسمية وخاصة بهذه الدول، وهو ما نسعى هنا إلى محاولة رصده وإعادة قراءته بعد أن حطت المواجهة أوزارها، ونبدأ باستعراض خريطة الجماعات والمنظمات الأصولية التي نشطت على الساحة المصرية، في محاولة لفهم خلفيات ومستقبل هذه الظاهرة، التي خرجت من أطرها المحلية وحتى الإقليمية لتصبح ذات سمات أممية، وعنواناً كبيراً يتصدر أجندات مختلف دول العالم.

وهناك بلا شك صراع عميق بين "الإخوة" في هذه المنظمات الأصولية، لا تخطؤه عين المراقب مع أنهم يتحدثون ذات اللغة ونفس الأدبيات، وينشدون أهدافاً واحدة، ويسوغون سلوكهم بمنطلقات مشتركة، غير أن الخلافات بينهم قائمة وحادة أحياناً، ولا تنحصر في الوسائل والأدوات فحسب، بل تمتد إلى الاستراتيجية التي تتبعها كل منها، مروراً بالأطر التنظيمية والأساليب الحركية، غير أن الفهم الصحيح لهذه الحركات، وما يترتب عليه من تحديد أساليب التعامل معها، يقتضي ضرورة تصنيفها بدقة، والوقوف على الخريطة الفكرية والحركية لها، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى النبش في جذور الشجرة التي طرحت كل هذه الفرق والنحل، في محاولة لرسم ورصد بانوراما التنظيمات الحركية التي نشطت ـ ولم تزل أجنحتها السياسية ممثلة بالإخوان ـ على الساحة المصرية، التي هي بمثابة نموذج متكرر، أو قابل للتكرار في المحيط العربي والإسلامي، على النحو الذي أوضحناه سلفاً.

ومن خلال المتابعة الميدانية لهذه الظاهرة زهاء عقدين، والدراسة المستفيضة لمكوناتها الأساسية، وإجراء عشرات اللقاءات الشخصية، ومراجعة مئات الوثائق القضائية والأمنية المتصلة بهذا النشاط ،وغير ذلك من المصادر ذات الصلة بدراسة ومتابعة هذا الظاهرة، فقد توصلنا مبدئياً إلى تصور لتصنيف كل هذه الحركات تحت ثلاثة محاور رئيسية، يضم كل محور منها عدداً من الجماعات الفرعية التي تدور جميعها في فلك المحور الأساسي على النحو الآتي تفصيله:

أولاً - المحور السلفي
ثانياً - المحور الجهادي
ثالثاً - محور جماعات التكفير

وكما أشرنا فإنه يكاد لايخرج أي تنظيم أو جماعة على الساحة عن هذه المحاور الثلاثة رغم تعدد المسميات، ولا يمكن أن يعزى تنوع هذه الجماعات إلى التباين الفكري وحده، فجميعها نتاج ذات المنطلقات، وتتقاسم ملامح عقدية متقاربة، لكن الخلافات التنظيمية والشخصية حول "الإمارة والزعامة" هي التي كانت دوماً وراء هذا التنوع، الذي يصل في كثير من الأحوال إلى حد تكفير كل جماعة للأخرى، وإصدار فتاوى هدر دماء خصومهم واستباحة أموالهم وأعراضهم، مع الإشارة أيضاً إلى أن سياق استخدامنا لمصطلح "السلفية"، لا ينسحب بالضرورة على الدلالات التاريخية ولا الفقهية لتعبير "السلف"، ولا إلى خارج التجربة المصرية من التجارب السلفية الأخرى، التي هي بالضرورة وليدة مجتمعات تتمدد فيها السلفية منذ عشرات القرون، ليس فقط على المستوى العقدي، بل في كافة المرجعيات الاجتماعية والفكرية، خلافاً للمجتمع المصري الذي لم تكن فيه السلفية لاعباً أساسياً ذات يوم، أو على الأقل لم تكن اللاعب الوحيد على الساحة، والدليل الأبرز هنا أن مذهب الإمام أحمد لم ينتشر أبداً في مصر منذ نشأته، بل على العكس يكاد يتجذر في الوجدان الشعبي المصري موقف مضاد له، إذ يصف العوام المتشددين عموماً، سواء في آرائهم الدينية أو سلوكهم الاجتماعي المحافظ، أو حتى في آراتهم الشخصية المتطرفة بأنهم "حنابلة".

عوامل مشتركة
ونبدأ بتناول العوامل المشتركة بين هذه المحاور الثلاثة الرئيسية لهذه الظاهرة والتي يمكن إيجازها وفقاً لتصورنا ومن خلال متابعات مستمرة وإستقراء متكامل على هذا النحو :
1- وحدة المنبع :
فقد خرجت كل هذه التيارات أو الفرق من عباءة القراءة السلفية للحدث والنص، موقنين بأن الماضي بكل مفرداته وقضاياه - التي تلاشى أغلبها ـ هو السبيل الوحيد للتعامل مع قضايا الحاضر والمستقبل ، مؤكدين على رفض الواقع ومنجزاته، بوصفها أس البلاء وسبب المحنة "فكل محدثة بدعة"، ولايترددون لحظة في تحريم كافة الفنون والآداب والأنماط الحضارية في السلوك الإنساني والسعي نحو إعادة المجتمع بأسره إلى حظيرة الأمس باعتباره الفردوس الضائع أو اليوتيبيا المنشودة، وإن كان ذلك لا يحول دون إستخدام منجزات العصر التقنية مما يشير إلى منطق إنتقائي لا يخلو من الإنتهازية والتناقض على النحو الذي سنتعرض له في مواضع أخرى بشئ من التفصيل.
2- وحدة الهدف :
لا يمل منظرو هذه من التأكيد على الأهداف التي تبدو في ظاهرها نبيلة كإقامة الخلافة الإسلامية وترديد شعارات حق ـ غالباً ما يراد به الباطل ـ من نوع "الإسلام هو الحل" وغير ذلك من العناوين المفرطة في عموميتها دون عرض برنامج فكري أو سياسي محدد وواضح الملامح ويستند إلى المنطق ولا يستعلي على الواقع، بل يكتفون بالإحالة على حلم الخلافة وباسم الإسلام يتصارع الجميع ويهدرون دماء من يخالفهم الرأي أو حتى الوسيلة.
3- اللامنهجية الفكرية :
تفتقد هذه الجماعات إلى المنهج سواء بمفهومه العلمي أو الفقهي فيقومون عادة بانتقاء ما يروق لهم من إحدي المدارس الفقهية دون الاعتداد بالأطروحات الأخرى التي تناولها هذا المذهب الفقهي فيما يمكن وصفه بالإجتزاء من السياق العام وفي غير السياق ، وتكاد أن تنحصر مفاهيمهم في عدة ثوابت أستدعي بعضها من الفقه الحنبلي تارة ..ومن المنهج الحركي الوهابي تارة أخرى دون أن يجمع ذلك سياق مشترك يتصدي لقضايا العصر.
4- السلوك التبريري :
يجيد أمراء هذه الجماعات ومنظريها وحتى المتعاطفون معها السلوك التبريري في محاولات مستميتة لإسباغ الصفة الشرعية على كافة رؤاهم وشطحاتهم الفكرية بدءاً من أبسط صور السلوك الإنساني وإنتهاء باستسهال وصم الجميع بالكفر إذا حاول مجرد مناقشة هذه المعتقدات أو الطروحات، ويجري ذلك بأسلوب يتراوح بين توليف الأفكار وتأويل النصوص بما يتسق ويتلائم مع مخططاتهم الحركية مما يؤكد على "اللامنهجية" التي تحكم منطق وأسلوب هذه التنظيمات بصفة عامة فضلاً عن الأسلوب التبريري والإنتقائي الذي يتبعه منظرو هذه الجماعات، كما سنورد ذلك تفصيلياً فيما بعد ونبدأ بالمحور الأول الذي يضم جماعة "الإخوان المسلمين" والجماعات "السلفية" الأخرى:

أولاً :التيارالسلفي :
وكما أوضحنا من قبل فإننا لا نقصد بالسلفية هنا تلك المدرسة المعروفة باسم "السلفية المدرسية"، بل نتجاوزها إلى المفهوم الأعم الذي ينطلق من يندرج تحت هذا المسمي جماعة الإخوان المسلمين وعدد من الجمعيات السلفية التي تدور في فلكهم، أما جماعة الإخوان التي يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1928 حينما أعلن حسن البنا عن إنشاء جماعة خيرية بهذا الإسم بهدف العمل على نشر الدعوة الإسلامية، وبالتدريج تحولت الجماعة من صبغتها المدنية إلى تنظيم ديني مسلح، له سمات حركية وتنظيمية بالغة الدقة والإنتشار ، ثم أخذ البنا في تأسيس جناح عسكري للجماعة تحت مسمي "فرق الكشافة" وفي مدينة الاسماعيلية مهد الجماعة حيث كان البنا يعمل كمدرس بها بدأ يخوض في الأمور والقضايا السياسية والاجتماعية مؤكداً في كل مناسبة أن (الإخوان قد أصبح لهم دار في كل مكان..ودعوة على كل لسان) وفي عام 1933 بلغ عدد فروع جماعة الإخوان ثلاثمائة فرع في كافة أنحاء مصر ثم أخذ ينتشر خارجها في بعض البلدان العربية والإسلامية ، وظل تنظيم الإخوان يتنامى ويكبر حتى إنتهج خط العنف الصريح فأسسوا النظام الخاص أوالجهاز السري في جو من الغموض والسرية وقد قام على هيئة خلايا وأركان حرب وخلايا ، وحددت واجبات كل منهم وفقا للشروط والقدرات المتوافرة لدي كل فرد أو مجموعة بحيث يكون لكل خلية أمير ويلتزم الأعضاء بواجب الطاعة العمياء لهذا الأمير وفقا للبيعة التي كانت تحدث على مصحف ومسدس وفي إطار طقسي بالغ الرهبة ، ثم ما لبثوا أن شكلوا ما يمكن وصفه بجهاز مخابرات الجماعة يكون هدفه التجسس على الأعضاء للتأكد من ولائهم والتزامهم بالإنصياع في "اليسر والعسر والمنشط والمكره معاهدين على الكتمان وعلى بذل المال والدم ..." كما يذكر نص القسم الذي كان يردده أعضاء النظام الخاص أمام عبد الرحمن السندي، ومن جهة أخرى يتم جمع المعلومات عن القوي والأحزاب السياسية، وكانت ميزانية هذا الجهاز السري عام 1948 قد بلغت مبلغاً كبيراً بلغة تلك الأيام وهو خمسون ألف جنيه مصري حتى أنه في أواخر ذلك العام أصبح الإخوان دولة داخل الدولة ، لكن حكومة النقراشي أصدرت قراراً بحل الجماعة وإعتقال أعضائها ومصادرة ممتلكاتها وهو الأمر الذي جعل أحد الأعضاء وهو عبد المجيد حسن يطلق الرصاص على النقراشي باشا داخل مبني وزارة الداخلية وردت حكومة القصر على هذا الحادث بتدبير خطة لقتل حسن البنا.
* أما عن طبيعة العمل داخل الجهاز السري للإخوان فقد كانت تبعيته المباشرة للمجلس الأعلى للجهاد والذي كان يتكون من عبد الرحمن السندي ويوسف طلعت وصلاح شادي ومحمد فرغلي وخميس حميدة وكان هذا المجلس يخضع مباشرة للمرشد العام ، أما عن تسليح الفصائل التي يتكون منها الجهاز السري فقد كان مسدسا لرئيس المجموعة وثلاث بنادق ومدفعين "أوستن" ومدفع "برن" وقنبلتين لكل فرد ..وكان يشرف على التسليح طالب بكلية الآداب هو السيد عبد الله الريس الذي كان يتخذ من مقابر أسرة حسن الهضيبي بعرب جهينة مخزناً عمومياً له ، وقد تعرضت جماعة الإخوان لعدة صدامات وأبرموا عشرات التحالفات وشهدت العديد من عمليات الإنشقاق وأصبح لها فروع بمعظم البلاد العربية في فلسطين والأردن وسورية والجزائر والسودان والخليج العربي والسعودية واليمن وغيرها وتعتبر جماعة الإخوان بمثابة الجماعة الأم التي خرجت من عباءتها كل التنظيمات التي تشهدها الساحة المصرية بل والدولية الآن.
أما عن وضع الجماعة الراهن، فهي تلعب دورا بالغ الأهمية وشديد التنظيم والإحكام، فعلى الرغم من كونها جماعة محظورة النشاط ومنحلة رسمياً بموجب قرار جمهوري صدر بحلها منذ حكم عبد الناصر، إلا أن عناصرها يسعون إلى التواجد بشكل مكثف في قطاعات هامة ومؤثرة كبعض المؤسسات الصحافية والتعليمية والإقتصادية والحزبية، وكان الكثيرون منهم سافروا في أعقاب خروجهم من السجون في العهد الناصري واتجهوا إلى دول عربية وأوروبا الغربية والولايات المتحدة، وكونوا ثروات هائلة ودوائر إتصالات ضخمة وظفوها لعقد العديد من التحالفات، ومحلياً استغل الإخوان بعض الأحزاب سعياً لاكتساب وجود حقيقي لهم تحايلا على القرار بحل الجماعة والتفافاً على الدستور المصري الذي يحظر إقامة أحزاب على أساس ديني أو مذهبي أو طائفي ، وفي المقابل منحوا تلك الأحزاب قاعدتهم الشعبية المتعاطفة معهم ودعموهم مالياً ومضوا خلال العقود المنقضية يقيمون في طول البلاد وعرضها عشرات المدارس والشركات التجارية وغيرها في إطار خطة خطيرة لإقامة مؤسسة اقتصادية موازية تساند أنشطتهم وتدعم أهدافهم.
ومن أخطر وسائل جماعة الإخوان عمليات التسلل الهادئ لشرائح عريضة في المجتمع من جهة . ومن جهة أخرى يلتزمون بمعايير صارمة في قبول عضوية فرد جديد، فهم يعمدون للانتقاء النوعي لمن سيتقرر ضمه إليهم، هذا على العكس من أساليب الجماعات الراديكالية الأخرى التي تفتح أبواب الإنضمام إلىها دون تمييز، والملاحظ أن قادة الإخوان يتخذونً موقفا يميل إلى الميوعة تجاه معظم أحداث الإرهاب التي تتورط بها الجماعات الراديكالية الأخرى فيكتفون دائماً بإصدار بيانات إنشائية تدين العنف من جانب الحكومة وأجهزة الأمن ومن يطلقون عليهم "الشباب المتحمس المغالي في دينه".
وعموماً فإن الحديث عن الإخوان أمر ممتد، وربما يحتاج إلى مجلدات بما لا يسمح المقام بالاستفاضة والاستطراد فيه هنا وسنأتي إليه في موضع أخرى، وما يهمنا في هذا السياق هو رصد ما تفرع عن جماعة الإخوان من جماعات أخرى توصف بالسلفية، بشكل أكثر وضوحاً من الإخوان.