لا حمراء ولا صفراء ولا بيضاء
روز اليوسف يومية تخترق زحام الألوان


نبيل شرف الدين من القاهرة: لعل أهم ما يتصدر المظاهر الإيجابية لحالة الحراك و"السيولة" التي يشهدها الشارع السياسي المصري، هو إعادة النظر في أحوال الصحافة المصرية المحلية، التي كانت ولم تزل في مجملها العام، تعاني سلسلة من السلبيات ويطالها التكلس والجمود والاسترخاء المطمئن إلى أن هناك "دولة" ستتحمل تبعات هذا الترهل، و"نظاماً" سيدفع الفواتير كاملة، و"قارئاً" سيتسامح ويغض بصره، و"صبرا تاريخيا" يتحلى به المصريون حيال ما تشهده مثل هذه المنعطفات ومراحل التحول التي طالما تدربوا على التعايش معها .

وبينما تنحسر ظاهرة "الصحافة القبرصية" في مصر، في إشارة للصحف التي تصدر بموجب ترخيص أجنبي، مما يمنح السلطات الحق في التصريح بتوزيعها أو مصادرتها، ومقابل انحسار هذه الظاهرة، فقد تنامت ظاهرة الصحف المستقلة أو الخاصة، التي تصدر بموجب قانون جديد، يشترط إشهار شركة برأسمال كبير نسبياً، وإن كان يترتب على ذلك مكسب بالغ الأهمية يتمثل في حظر مصادرة هذه الصحف، وهو ما منحها مساحة هائلة من حرية التعبير دون أن يمسها الرقيب بسوء، وبالتالي كان تنامي هذا النوع من الصحف بمثابة الحجر الضخم الذي ألقي في بحيرة راكدة، وتوالت ردود الفعل واضطرت معه الصحف الحكومية المسماة بالقومية أن تواجه هذه التحديات بتغيير مضمونها وأدائها ولغتها ومعالجاتها، وباختصار كل شئ فيها، خاصة وأن هذا يجري في ظل متغيرين هامين، الأول هو الاستعداد لإجراء انتخابات رئاسية تشهدها مصر لأول مرة بين متنافسين وإن كانت المنافسة محسومة لكن قواعد اللعبة تغيرت وستتغير أكثر فالشعوب حين تكتسب حقاً لا تفرط به، أما الأمر الثاني فهو التغييرات الأخيرة التي طالت قيادات تلك المؤسسات بعد أن تربعت على عروشها زهاء ربع قرن، وهو الأمر الذي ينظر إليه في مصر باعتباره مقدمة لأجواء تغييرات واسعة في شتى مناحي الحياة السياسية والعامة والأهلية وغيرها .

روز اليوسف يومياً
بداية التغييرات في أداء الصحافة القومية جاءت من مؤسسة "روز اليوسف"، التي أعلن رئيس مجلس إدارتها الجديد كرم جبر، ورئيس تحريرها الجديد عبد الله كمال إطلاق صحيفة يومية، تحمل نفس الاسم، وتصدر على مدار ستة أيام في الأسبوع، على أن يبقى اليوم السابع لصدور المجلة السياسية الأقدم من نوعها في المنطقة، وقال كمال لـ (إيلاف) إن الصحيفة الجديدة التي بدأت الصدور اعتباراً من صباح اليوم الثلاثاء ليست مشروعاً جديداً وليد الظروف الراهنة، نافياً ارتباطه بمرحلة الانتخابات، ومؤكداً أن "هذا المشروع طرح قبل سنوات لكنه لم يجد طريقه إلى الواقع لاعتبارات شتى تتعلق بقرار الإقدام على هذه الخطوة"، وأضاف أن مسألة الإصدار اليومي ليست مغامرة مهنية أو إدارية، بل هي مشروع مدروس بعناية، ويعرف طريقه وجمهوره المستهدف، لافتاً إلى ما أسماه "الجاذبية الخاصة" التي تتمتع بها روز اليوسف، المؤسسة والمنبر الذي اجتمع فيه منذ مهده نخبة من كبار الصحافيين والأدباء المصريين جيلا تلو الآخر، احتلوا بها ومعها موقعا دائما على يسار السلطة المصرية، منذ عهد مؤسستها الأولى فاطمة اليوسف وأول رئيس تحرير لها إبنها الراحل احسان عبدالقدوس، وأوضح أن الصحيفة اليومية ستصدر بروح الإصدار الأسبوعي، أي أنه يعتزم باختصار إصدار سبعة أعداد من المجلة، وهو ما يتطلب ـ والكلام لرئيس تحريرها ـ العمل انطلاقاً من "خلطة صحافية" توازن بين الحدث اليومي والمعالجة المتأنية التي تعتمد التدقيق والعمق .

أحمر .. أصفر .. أبيض
والمتتبع لتاريخ الصحافة المصرية يعرف أن مجلة "روز اليوسف" ظلت منذ الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي منبراً لجيل كامل من المثقفين اليساريين عبر صفحاتها، ومن هنا اُتهمت بأنها مجلة "شيوعية حمراء"، وعزز هذه التهمة هجوم المجلة على المؤسسة الدينية الرسمية واتخاذها موقفا راديكاليا على المستوى الاجتماعي، وفي عقد التسعينات وإثر مرحلة ركود وتكلس مرت بها المجلة، عادت الاتهامات لتلاحق المجلة مجدداً، لكنه وسمت هذه المرة بأنها "صحافة صفراء" بعد أن تصدت للعديد من قضايا الفساد والتطرف الديني، وهي المرحلة التي انتهت بتغيير رئيس تحرير المجلة محمود التهامي، ونائبه المثير للجدل عادل حمودة، حتى وصلت إلى ما يمكن وصفه بتعبير شائع في الأوساط الصحافية، وهو "المرحلة البيضاء"، في إشارة إلى اتهام طالما وجه للمجلة مؤخراً، يعني انها أصبحت مجلة "مستسلمة" رفعت الراية البيضاء فلا تثير المشاكل ولا تصطدم بالمحظورات، لكن "روزاليوسف" في طبعتها اليومية تنفي عن نفسها هذا الاتهام بشدة على لسان رئيس تحريرها الجديد عبد الله كمال إذ يقول إن الإصدار اليومي يستكتب ما لا يقل عن خمسين كاتباً من شتى ألوان الطيف السياسي والفكري في مصر، لتثبت بشكل عملي أنها منبر لليبرالية التي تتسع لكافة الزهور" على حد تعبيره .

الشيخ متلوف
المعروف أيضاً أن "روز اليوسف" كانت في طليعة المطبوعات التي تصدت بشدة للتطرف الديني، منذ أن اخترع رساموها المتميزون شخصية "الشيخ متلوف" خلال الثلاثينات من القرن المنصرم، وهو نموذج كاريكاتوري لرجل الدين المنافق الذي يصدر فتاوى تناقض افعاله وتصرفاته، حيث كانت المجلة ترسمه وهو يردع النساء على الشواطئ لكنه يغازل الحسناوات، ويندد ببيع الخمور لكنه يعاقرها سراً، وفي الخمسينيات وإثر اصطدام الدولة مع جماعة "الإخوان المسلمين" حشدت "روزاليوسف" طاقاتها كاملة للهجوم على تيار الاسلام السياسي الذي كان بدأ يترعرع، ولم تتوقف المجلة المشاغبة عند هذا الحد، بل امتدت معاركها إلى المؤسسة الدينية الرسمية حين خاضت معركة شهيرة في السبعينيات ضد شيخ الازهر حينئذ الدكتور عبدالحليم محمود، الذي كان يتهم اليساريين بالالحاد، فهاجمته المجلة وكتبت العديد من المقالات الساخنة ضده مما أدى إلى لجوئه إلى المجلس الأعلى للصحافة الذي طلب من "روزاليوسف" التوقف عن نشر المقالات والتقارير التي تهاجم شيخ الأزهر، فاستقال عبدالرحمن الشرقاوي من المجلس احتجاجا على موقفه هذا، وقال وقتها إن "روزاليوسف" لم تخض معركة ضد مؤسسة الأزهر، بل ضد شخص شيخ الأزهر وأفكاره باعتباره بشراً يخطئ ويصيب وليس فوق النقد .

وأخيراً يبدو أن قدر مجلة "روزاليوسف" أن تظل دائماً على يسار الحكم، أيّاً كانت طبيعة الحكم، وأياً كان موضع المجلة أو رؤى القائمين عليها، ويكفي التذكرة بأنه في كل مرة كانت تتخلى فيها المجلة عن هذا الموقع كان الركود والفشل من نصيبها، وهو المعنى ذاته الذي أكده كل من أصابتهم "فيروس" روز اليوسف، التي تظل مدرسة لها مذاقها وجاذبيتها الخاصة في الصحافة المصرية والعربية عموماً .