جاك شيراك يستعد لمغادرة الساحة السياسية

باريس: بعد 12 عامًا أمضاها في سدة الرئاسة الفرنسية، يتوقع أن يعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك رسميًا الأحد أنه لن يترشح لولاية ثالثة، ليضع بذلك حدًا لحياة سياسية إستثنائية في مدتها.وخلال مداخلة متلفزة عند الساعة 00، 20 بالتوقيت المحلي (00، 19 ت.غ)، سيكشف جاك شيراك (74 عامًا) عن نواياه قبل ستة أسابيع من الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسية الفرنسية.

لكن لا شك في أن شيراك سيعلن أنه لن يترشح للرئاسة مجددًا مختتمًا بذلك 40 عامًا أمضاها في المعترك السياسي، في حين لا يرغب ثلاثة أرباع الفرنسيين أن يخوض السباق الرئاسي بعد إنتخابه مرة أولى في 1995 ومرة ثانية في 2002.

وفي منتصف شباط (فبراير) ألمح شيراك للمرة الأولى إلى الحياة quot;بعد الإليزيهquot; القصر الرئاسي الفرنسي خلال برنامج تلفزيوني. وقال حينها إن هناك لا شك حياة بعد السياسة... حتى الموت.وأضاف أنه عندما لن تعود لي مسؤوليات من هذا النوع عندها سأحاول أن أخدم فرنسا والفرنسيين بطريقة أخرى.

لكن السؤال المحوري هو معرفة ما إذا كان شيراك سيقدم دعمه وبأي شروط لنيكولا ساركوزي المرشح عن الحزب السياسي نفسه، الذي يقيم معه علاقات صعبة.وقد يختار الرئيس الفرنسي أن يتحدث عن هذه المسألة في وقت لاحق خارج الإطار الرسمي لمداخلة الأحد.

ويأتي إعلان شيراك في حينالاستعداد للمعركة في الحملة الإنتخابية التي تغيرت فيها المعطيات مع تقدم كبير يحرزه المرشح الوسطي فرنسوا بايرو الذي بات قريبًا جدًا ويهدد الإشتراكية سيغولين رويال ونيكولا ساركوزي في استطلاعات الرأي.

والمرشحون الثلاثة وكلهم في الخمسينات من العمر يجسدون مرحلة جديدة بعد حقبة شيراك.ولد شيراك في 1932 ودخل الحكومة في منصب سكرتير دولة في سن الخامسة والثلاثين.كان يومها الجنرال شارل ديغول يقود البلاد. وتولى رئاسة الحكومة مرتين في عهد الرئيس الوسطي فاليري جيسكار ديستان ومن ثم الإشتراكي فرنسوا ميتران ورئاسة بلدية باريس لمدة 18 عامًا.

لكن الحكم على عهد شيراك يبقى متفاوتًا.فغالبًا ما وصف بأنه زعيم براغماتي متأهب باستمرار للنهوض والفوز بالسلطة، أكثر مما هو جيد في ممارستها وبنائها.في نظر الفرنسيين، كما بالنسبة إلى جزء من الرأي العام العالمي، سيبقى شيراك الرجل الذي قال quot;لاquot; للحرب الأميركية على العراق في 2003، وهو قرار رفع شعبيته إلى مستوى قياسي.ويقدر الفرنسيون إندفاعه في التقرب من الأشخاص من دون تكلف، وطاقته. كما أن تعلقه بعالم الفلاحين جزء أساسي من شخصيته.

إلا أن منتقديه ينددون بتقلبه. فهو مؤيدٌ حينًا للسياسة العمالية على الطريقة الفرنسية في السبعينات، ولليبرالية على طريقة رونالد ريغن، قبل أن يبدأ في 1995 نضاله ضد الشرخ الإجتماعي من دون أن يفيَ بوعوده.إلا أن الجميع يقرون بأنه يحتفظ بقناعات ثابتة مثل رفضه لأقصى اليمين أو مكافحته لمعاداة السامية عبر قراره الإعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية في إرسال يهود إلى معسكرات الإعتقال خلال الإحتلال النازي.

ويمكن إعتبار سنة 2005 منعطفًا مصيريًا بالنسبة إلى شيراك. فقد شهدت رفض الفرنسيين الدستور الأوروبي وإندلاع أعمال العنف في ضواحي المدن الكبرى خصوصًا في باريس وعارضًا صحيًا في شرايين القلب كان قد تعرض له الرئيس الفرنسي.وأعد شيراك خلال الأسابيع الأخيرة لخروجه من السلطة، فأدلى ببعض الإعترافات، بينها ما يشكل مأساة حياته والمتمثل بمعاناة إبنته لورانس من مشكلة فقدان الشهية العصابي.ورغم إحتلاله الواجهة السياسية لفترة طويلة، فإن شيراك الإنسان الشغوف بآسيا وبفنون الإنسان الأول، يبقى بالنسبة إلى الفرنسيين لغزًا كبيرًا في جزء كبير من شخصيته.

شيراك والشرق الأوسط: صداقات قديمة ورفض للحرب في العراق

وسيبقى جاك شيراك في التاريخ، الرئيس الفرنسي الذي رفض المشاركة في الحرب على العراق وهو الذي ارتبط على مدى عقود بصداقات وطيدة مع عدد من قادة العالم العربي غيّب الموت معظمهم الآن.وكانت آخر مبادرة قام بها شيراك حيال هذه المنطقة من العالم تنظيم مؤتمر دولي لدعم لبنان في 25 كانون الثاني (يناير) في باريس وكان الثالث من نوعه وشهد جمع 6،7 مليارات دولار لهذا البلد.

وعلاقة شيراك بلبنان هي في المقام الأول قصة صداقة شخصية ربطته منذ مطلع الثمانينات برئيس الوزراء السابق رفيق الحريري الذي إغتيل في عملية تفجير ضخمة في 14 شباط (فبراير) 2005 في بيروت.وبعدما كان شيراك أول رئيس فرنسي قام بزيارة رسمية للبنان عام 1996، كان رئيس الدولة الغربي الوحيد الذي حضر إلى بيروت للتعزية بالحريري وهو اليوم يستقبل بانتظام، في قصر الإليزيه، سعد الحريري نجل صديقه الراحل الذي يتزعم الغالبية النيابية اللبنانية المعارضة لسوريا.

وكان شيراك أيضًا من تولى بحكم الأمر الواقع قيادة قوة الأمم المتحدة الموقتة المعززة في لبنان (يونيفيل) الصيف الماضي، إثر الحرب التي دارت بين اسرائيل وحزب الله الشيعي اللبناني. وتقوم علاقات جاك شيراك في المنطقة على صداقات متينة مع عدد كبير من كبار شخصياتها وقادتها منهم الرئيس المصري حسني مبارك وعاهل المغرب الراحل الحسن الثاني الذي إستمرت صداقة الرئيس الفرنسي به 25 عامًا وهو ما زال يتردد على هذا البلد بانتظام لتمضية عطلة الشتاء، ومؤسس الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد الذي توفي عام 2004، فضلاً عن شبكة علاقات وثيقة مع قادة السعودية.

وأطلق شيراك السياسة العربية والمتوسطية لفرنسا في خطاب ألقاه في القاهرة في نيسان (ابريل) 1996 وكان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يلقبه الدكتور شيراك للدعم الذي قدمه للفلسطينيين في الأوقات العصيبة.غير أن الصحافيين اريك ايشيمان وكريستوف بولتانسكي اللذين ألفا كتاب quot;شيراك العربquot; (شيراك دارابي) واللذين ينتقدان quot;التغيير المتواصل في مواقفهquot;، يعتبرون أن فكرة سياسة عربية لفرنسا كاللتي سعى جاك شيراك لتطبيقها تبقى موضع شبهة - مبررة- بأنها مجرد محاولة لإستعادة عظمة عابرة.

ومن الصور التي ستبقى خالدة عن شيراك فورة الغضب العارم التي أصابته في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 1996 ضد الشرطة الإسرائيلية في مدينة القدس القديمة التي تعتبرها باريس بمثابة كيان على حدة، طبقًا لموقف الأمم المتحدة الأمر الذين يثير إستياء إسرائيل.

وتصدرت أخبار العالم بأسره نبرته حين صاح برئيس الشرطة بالإنكليزية إحتجاجًا على أسلوبه في التعامل مع الفلسطينيين والصحافيين الراغبين في الإقتراب منه: quot;ماذا تريد؟ تريدني أن أعود إلى طائرتي؟ أن أعود إلى بلادي؟quot;ويوضح الصحافيان أن صيحة الغضب تلك شكلت منعطفًا وساهمت في إعطاء صبغة لولايته الرئاسية، كما أنها طبعت بشكل دائم صورة الرئيس في المنطقة ولدى رأيه العام.

غير أن التاريخ سيحفظ عن شيراك بالمقام الأول انه الرئيس الذي رفض أن يتبع الأميركيين في حربهم على العراق عام 2003 خلافًا لسلفه فرنسوا ميتران الذي ساهم بفرقة عسكرية صغيرة في حرب الخليج الأولى عام 1990.وكان الرئيس الفرنسي واثقًا من أن الحرب ستزعزع إستقرار المنطقة وكلف وزير خارجيته آنذاك دومينيك دو فيلبان مهمة خوض المعركة الدبلوماسية في الأمم المتحدة، فيما لوح هو بحق الفيتو وسعى لتشكيل جبهة رفض.وألقى هذا الموقف الفرنسي بظلاله على العلاقات الأميركية الفرنسية لسنوات عدة، غير أنه أكسب بالتأكيد شيراك هالة كبيرة في بلدان كثيرة.