جنيف: ثلاث سنوات انقضت منذ أن كلفت الحكومة السويسرية الصندوق الوطني للبحوث بمهمة دراسة تغيرات المشهد الديني في البلاد والإجابة عن جملة من القضايا المتعلقة بتأثير تلك التغيرات على المجتمع وتحديد السياسات المناسبة للتعامل مع مجتمع متعدد الأعراق والأديان.

بهذه المناسبة نظّم كل من مرصد الأديان في سويسرا، والجمعية السويسرية لعلم الإجتماع، والجمعية السويسرية لعلوم الأديان حلقة دراسية بجامعة لوزان تواصلت طيلة يومي 4 و5 ديسمبر 2008.

اقتصر الحضور على أعضاء الفرق البحثية العاملة في إطار برنامج البحوث الوطنية PNR 58 المتعلق بالأبعاد المختلفة للظاهرة الدينية في اسويسرا، والغرض المعلن لهذه الحلقة الدراسية تداول الرأي بين الفرق البحثية وتبادل الخبرة كل من مجاله، ومحاولة الإستعانة بالإختصاصات المتعددة من اجل تذليل المصاعب والعوائق التي تعترض البحث.

وبالنسبة لفيليب جيلبار، الأستاذ بجامعة لوزان، والمسؤول بمرصد الأديان quot;هذا اللقاء كان ضروري أوّلا لأن هذا الصنف من البحوث بطبعه متعدد الإختصاصات، وثانيا للتعرف على الخطوات التي قطعتها البحوث المختلفة، خاصة وان الفترة التي منحتها الحكومة للفرق البحثية قد شارفت على الإنتهاءquot;.

مضمونيا، شملت المحاضرات التي قدمت جملة من القضايا المتشعبة كتغير القيم الدينية وتعددها داخل المجتمع الواحد، والمقارنة بين حجم النفقات على الكنائس في سويسرا ودورها الاجتماعي المتراجع، والتنوّع الديني المتزايد داخل السجون والمؤسسات التربوية، فضلا عن اختلاف الأديان داخل الأسر المختلطة.

أثارت المحاضرات نقاشا معمقا وثريا من طرف المشاركين ، وما لفت منها النظر على وجه الخصوص دراسات ثلاث تعلقت الأولى بالتدين الفردي والتغيرات الإجتماعية، وتركزت الثانية على الأقلية المسلمة بين الإعتراف والذوبان، أما الدراسة الثالثة فقد حاولت رصد أشكال تنظم الأقلية المسلمة في سويسرا.

التديّن الفردي في المجتمع المعاصر

حول هذا الموضوع قدم كل من مايكل كلوغرر، ومالّوري شنوفلي عرضا بعنوان quot;التديّن الفردي والتحولات الإجتماعية في سويسراquot;، وأكدا بأن الذين يلتجؤون إلى التديّن في المجتمع السويسري اليوم quot;هم عادة ممن تعترضهم في حياتهم مصاعب وحوادث مؤلمة، أو ممن يشعرون بالتهميش الإجتماعيquot;. ويترجم التدين في هذه الحالة quot;عبر التحول إلى أديان بديلةquot;.

لكن هذا اللجوء إلى الدين، مثلما تقول مالّوري شنوفلّي quot;لا ينفي التوجّه النقدي الحاد لدى السويسريين تجاه الأديان، حيث يعتبرونها quot;كارثةquot;، و quot;منطلق للصراعات والحروبquot;، وquot;أساس للتفرقة والتمييزquot;.

وكشف الباحثان أن سبرا للآراء أجرياه خلال هذه السنة أثبت quot;القبول الواسع لدى السويسريين لظاهرة تعدد الأديان لكن بشرط ألا تؤدي إلى تهديد السلم الإجتماعيquot;، كما أن هذا الموقف quot;يتلازم مع دفاع مستميت، عن الحرية الدينية وحرية الأفراد في اختيار عقائدهمquot;، مثلما يؤكد مايكل كلوغرر.

وترى إليزابت أرفيك، وهي أستاذة وباحثة من جامعة فارفيك البريطانية، أن هذا البحث على الرغم من أهميته quot;يدرس الحالة الدينية كحالة ثابتة لا متحوّلة، وأنه يهتم برصد التعبيرات الدينية دون الغوص في تحليلها، ويكتفي بالإجابات الأولى دون التدقيق فيها، ويقصي من مجال البحث نسبة كبيرة ممن يقولون أنهم غير متديّنينquot;.

المسلمون بين حق الإعتراف والمطالبة بالخضوع للقيم المحلية

الدراسة الأخرى التي حظيت بإهتمام وأثارت نقاشا تلك التي قدمها ماتيو غيانّي، أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة جنيف تحت عنوان quot;المسلمون في سويسرا بين رغبة الإعتراف بهم كأقلية، ومطالبَتهم بالذويان الكامل في المجتمعquot;.

تهدف هذه الدراسة التي تتم هي الأخرى في إطار بحوث الصندوق الوطني PNR 58، كما يقول ماتيو غيّاني إلى quot;تحليل التوجهات الثقافية والسياسية للمسلمين في سويسرا وتأثير تلك التوجهات على الحياة العامة وذلك من أجل مساعدة الدولة في صياغة سياساتها وتحديد توجهاتها في كيفية التعامل مع الأقلية المسلمة في البلادquot;.

ومن الأسئلة التي يتطرق إليها البحث مدى تمثيل القيادات الإسلامية للأغلبية الصامتة، وكيف تفرز تلك القيادات؟ وطبيعة الدور التوجيهي الذي يقوم به الأئمة والمرشدين، وهل هم وسيطا مؤثرا في عملية الإندماج؟quot;.

حتى الآن، توصل البحث إلى أن quot;النظرة السائدة إلى المسلمين في العديد من الدوائر الرسمية داخل سويسرا ترى أن الوجود الجماعي للمسلمين يمثل تحديا ومشكلة ، وثانيا، أن الدولة تتجه إلى حمل المسلمين على التكيّف مع المعايير والقيم المحلية، وعدم فتح أي بوّابة أخرى أمام إندماجهمquot;.

وعند سؤاله عن رأيه الخاص في قضية الإندماج، يقول غيّاني: quot;الإندماج الحقيقي هو عملية تتم عبر مراحل وأجيال ومن خلال الحوار، لا من خلال الإكراه والإدماج القسريquot;.

هذا السؤال يكتسب اليوم أهمية خاصة، إذ يقف السويسريون على ابواب التصويت خلال بضعة أسابيع على مبادرة تهدف إلى حظر بناء المآذن في البلاد. ومن دون شك سيطفو على السطح من جديد الجدل حول الأسلوب الأنجع لإدماج المسلمين. وهذا البحث في كل الأحوال quot;يسد الفراغ المتمثل في إنعدام الدراسات العلمية الجادة، في مقابل السيل الجارف من التغطية الإعلامية لهذه الأقليةquot;، مثلما يقول ماتيو غيانّي.

الإنقسام هو السمة الطاغية

البعد الآخر لوجود المسلمين والذي هو اليوم تحت المجهر، الطريقة التي يتجمع بها المسلمون في سويسرا ويوحدون جهودهم، ويتولى البحث في هذا المحور الثنائي، الفرنسية صوفي نجّار، والسويسرية سامينا ميزغارزاديك، بدعم وتمويل رسمي.

والهدف من هذه الدراسة كما يقول الثنائي: quot;الكشف عن الطريقة التي تتجسد بها مشاركة المسلمين في الحياة العامة والحياة السياسية يوجه خاصquot;، من خلال تحليل خطاب كل من القيادات الإسلامية ومؤسسات الدولة التي تتعامل مع الملف الإسلامي.

وعلى الرغم من إقتصار اهتمام الباحثتان على المنظمات الإسلامية في جنيف وبازل والتيتشينو، وذلك لكون الأغلبية العددية من الأقلية المسلمة، توجد في المدن الكبرى، فإن هذه الدراسة تبيّن في نتائجها الأولى quot;الإنقسامات الحادة التي تشق صفوف الأقلية المسلمة: الإنقسامات العرقية ( ألبان، أتراك، عرب،....)، والمذهبية(سنة، شيعة،....)، والسياسية (إخوانية، سلفية وهابية، علوية....)، وحتى ما بين الأجيال (الجيل الأول، جيل الشباب...).

كما تبيّن أيضا إختلاف الإطار الإداري للمنظمات الإسلامية في سويسرا، فمنها المحلية، والكانتونية، والفدرالية، وإن كانت هذه الأخيرة تحاول تشكيل مؤسسات على المستوى الوطني للدفاع عن مصالح الأقلية وتقدّم نفسها محاورا للسلطات الفدرالية.

لكن، الدراسة تشكك في الشرعية التمثيلية للزعامات الإسلامية quot;فهي في غالبها إما منصبة من فوق أو إمتلكت الزعامة باختيار السلطات المحلية أو الفدرالية لها كمحاور مقبولquot;.

إلى جانب ذلك، تشير الباحثتان أيضا إلى وجود quot;جمعيات إسلامية في سويسرا ذات إرتباطات عابرة للحدود كأن تكون على علاقة بدول خارجية كمنظمة quot;دياناتquot; التركية، أو على علاقة بتشكيلات سياسية ومراجع دينية كرابطة مسلمي سويسرا التي هي على علاقة بإتحاد المنظمات الإسلامية بأوروبا، ...quot;.

البحث العلمي بين الموضوعية والمعيارية

العروض التي قدمت وخاصة تلك التي اهتمت بوضع الأقلية المسلمة تتفق على الأقل في نفطتيْن هامتين: غياب معرفة حقيقية لدى أبناء الأقلية المسلمة بالواقع المحلي، والنظام السياسي والقانوني والمؤسساتي، من ناحية، وتعدد وتنوع أهداف المنظمات الإسلامية إلى درجة يصعب معها الإلتقاء على مشروع واحد من ناحية ثانية.

لكن المتابع يلاحظ أيضا الصعوبات التي تعترض هذا النوع من الأعمال العلمية، إذ بدا واضحا من خلال التدخلات أن البحث العلمي، رغم ما يتسلّح به من أدوات منهجية، وحس نقدي، كثيرا ما يقع هو الآخر - على عكس ما هو متوقع - فريسة المقولات الشائعة والأفكار المسبقة.

على المستوى المنهجي، السؤال الذي حظي بنقاش طويل هو: هل بمقدور البحث العلمي في قضايا الدين والمجتمع أن يكون موضوعيا وأن يتحرر من المعيارية؟ بالنسبة لإليزابيت أرفيك، الأستاذة والباحثة من جامعة فارفيك البريطانية، فإنه quot;ما لم يستطع البحث العلمي فرض أجندته الخاصة، والتزام المعايير العلمية المجردة، لن يستطيع التخلص من المعياريةquot;.

أما بالنسبة لماتيو غيّاني، فإن: quot;هذا السؤال مغلوط من الأصل. في البحث العلمي لا إعتبار إلا للجودة العلمية، ومهما كانت أفكار الباحث وتوجهاته،المهم أن تكون المناهج المعتمدة من طبائع الموضوع المدروسquot;.

ولا يبعد رأي صوفي نجّار عن هذا الرأي كثيرا، إذ تتساءل: quot;لماذا يُطلب من الباحث أن يلتزم الموضوعية في حين يُسمح للمواطن البسيط ان يعبّر عن رأيه في القضايا التي تهم المجتمع، فالباحث مواطن من بين المواطنين، ولا يجب ان يكتفي بالبحث، بل يجب أن يرشد المواطن والحاكم إلى ما يراه القرار الأنسبquot;.