سعد بن طفلة

توفي يوم الثلاثاء الماضي أمير الكويت السابق الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح. توفي رجل ليس ككل الرجال، رجل بصلابة الجبال، وشجاعة الأسود، وتواضع العلماء، وطيبة النسيم، وكرم حاتم، وهشاشة طفل، وعطف والد، ووفاء السموأل، ووطنية الشهيد.

توفي سعد العبد الله الذي ارتبط اسمه بحقبة كويتية ـ عربية امتدت خمسة عقود، كان فيها القومي العربي الذي حمل هم الأمة قبل أن يحمل هم الوطن الصغير. أخرج قائد الثورة الفلسطينية ـ ياسر عرفات ـ من بين أنياب الأسد بمخيم الوحدات بعمان إبان مذابح أيلول عام 1970، ألبسه laquo;بشتهraquo; وثوبه وأنقذه والرئيس السابق جعفر النميري من نقاط تفتيش الجيش الأردني الذي كانت أوامره بقتل قادة الثورة جميعا.

قاد الشيخ سعد شعبه ببيرق من العزيمة والشدة لم ترعو أمام هول الحدث حين غزا العراق الكويت واحتلها عام 1990. كان سعد العبد الله صوتا جهوريا نافذا بإيمانه بقضيته التي حملها إلى عواصم الأشقاء والأصدقاء بعد أن قاد المعركة بنفسه لساعات أدرك بعدها استحالة انتصار الكويت على الغدر منفردة، فراح يستنهض الهمم العربية، ويصف الجيوش الدولية لاستعادة حقه السليب الذي انتزعه منه غدرا شقيقه العراقي الجار.

أثبت سعد العبد الله صلادة نادرة في ساعة ارتعدت فيها فرائص الرجال، وجفت فيها حلوق الخطباء، واسودت فيها وجوه وابيضت وجوه. laquo;حين اشتدت زيمraquo;، كان الراحل الكبير مشعلا لمن عتمت الرؤية أمام عينيه، وراية لمن تاهت بوصلته، ومخزونا من التفاؤل والثقة بحتمية النصر، وتأكيد الانتصار، ووضوح الرؤية. لقد كان laquo;أهدى من قطاةraquo; حين ضل البعض طريقه، وحين استعر أوارها كان laquo;صبي حربraquo; ـ كما يقول البدو.

رحل سعد العبد الله قبل الانتخابات العامة لمجلس الأمة الكويتي بثلاثة أيام. سخونة الساحة السياسية كانت على أشدها وقت رحيله. المرشحون جميعا ألغوا كافة نشاطاتهم، والدولة بكافة أجهزتها الرسمية وغير الرسمية أعلنت الحداد ثلاثة أيام.

أضفت وفاة الشيخ سعد ثلاثة أيام من الحداد والحزن والمراجعة. توقف الجميع دون استثناء إجلالا لوفاة الشيخ الكبير، تناسوا كل خلافاتهم واختلافاتهم التي مارسوها عبر المنابر والمنتديات منذ حل البرلمان والدعوة للانتخابات الشهر الماضي. الهدوء ساد الساحة فجأة. وكأنما فرضت أحكام عرفية بالبلاد. كانت فرصة للمراجعة، مناسبة للاستذكار، ساعة للتفكر، وبرهة للتفكير.

ينتهي الحداد صباح اليوم السبت، أي صبيحة توجه الكويتيين إلى صناديق الاقتراع: مواقيت عجيبة وغريبة!

لقد حضر الشيخ سعد مشاركا وبقوة في الانتخابات اليوم، مثلما كان حاضرا في المشهد الكويتي برمته على امتداد أكثر من نصف قرن مضى. جسد الرجل بشخصيته الشعبية، وطبيعته التلقائية، وشمولية نظرته لفئات مجتمعه الوحدة الوطنية الكويتية، تلك الوحدة التي كانت عاملا أساسيا في تخليص الكويت من براثن الاحتلال عام 1990م. فلقد سجل الكويتيون يومها بالرفض الجماعي لصدام سابقة لم يسجلها شعب في التاريخ أمام غاز ومحتل.

حضر الشيخ سعد في الانتخابات اليوم مذكرا بني وطنه بأهمية التلاحم، فالمنطقة تموج وتروج، والاحتقان المذهبي ينز منها قيحا وصديدا كجرح غائر وملتهب.

غادر الشيخ سعد في حقبة يغدر فيها الأخ بأخيه، ويعتدي فيها الجار على جاره، وينقلب فيها الشريك على شركائه، ويتحول فيها قادة المقاومة إلى لوردات للحروب.

غادر الشيخ سعد المشهد بإقفال صناديق الاقتراع، ولسان حاله يقول: لا مناص من رص الصفوف، ولا خلاص بلا وحدة مدنية تقوم على المواطنة، وليست على المذهب أو القبيلة أو الفئة، ومن يشكك في ذلك فعليه الالتفات لما يجري في لبنان والعراق.

أدلى الشيخ سعد بصوته. لا زال صداه يجلجل، أقفل الصندوق، وغادر المشهد...