بروكسل: سيلتف الإتحاد الأوروبي على غياب الزعيم الليبي معمر القذافي عن قمة باريس الأورو- متوسطية في يوليو الماضي، بتوقيع اتفاق شراكة غير مسبوق مع ليبيا.

ومن المقرر أن تزور بنيتا فريرو فالدنر، مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي طرابلس في الأول من شهر أكتوبر للتوقيع على اتفاق شامل للتعاون مع ليبيا، يُغطي الجوانب السياسية والإقتصادية، وهو يختلف عن اتفاقات الشراكة التي توصَّـل إليها الإتحاد مع بلدان عربية متوسطية، لكنه يرمي إلى أهداف مشابهة.

وكان مسؤولون ليبيون عقدوا جلسة مباحثات مع ممثلين للمفوضية الأوروبية يوم الأحد 13 سبتمبر في العاصمة طرابلس، وُصِـفت بأنها تدشين لبداية العمل الرسمي بين الجانبين، ونقطة انطلاق لإقامة إطار سياسي للشراكة والتعاون في المستقبل، بعدما ظلت ليبيا مُستبعَـدة من مسار برشلونة منذ بدايته في سنة 1995.

وأتت الجلسة قُـبيل زيارة فالدنر بهدف وضع اللّـمسات الأخيرة على الإتفاق الذي يُغطِّـي الحوار السياسي والتعاون الاقتصادي والتجاري بين الجانبين، كذلك سيشمل الإتفاق قضايا الطاقة والتبادل التجاري والسياسات الضريبية والجمارك.

واللافت، أن التوصُّـل إلى الاتفاق جاء بعد شهر فقط من وصول المفاوضين الأميركيين والليبيين إلى اتفاق تعلَّـق بدفع ليبيا تعويضات لأسَـر ضحايا اعتداءات إرهابية منسوبة إلى ليبيا في عقد الثمانينات من القرن الماضي، ما يدل على وجود تناسق في المواقف الغربية.

والظاهر، أن الليبيين حصلوا على تنازلات من الأوروبيين، تخص تنزيل سقف الشروط السياسية بالمقارنة مع اتفاقات الشراكة التي تمّ التوصل لها في الماضي مع البلدان العربية المتوسطية (تونس والمغرب ومصر والجزائر)، إذ أن الإتحاد الأوروبي غضّ الطرف، على ما يبدو، عن مطلب الإصلاحات السياسية وما يستتبعها من التزام بضمان التعددية وحرية الإعلام واستقلال القضاء، وهذا ما جعل نائب وزير الخارجية الليبي للشؤون الأوروبية عبدالعاطى العبيدي (رئيس وزراء سابق في السبعينات) يُوضح في تصريحات صحفية، أن الاتفاق الذي يتفاوض عليه الجانبان وسيتم توقيعه بمناسبة زيارة فالدنر، quot;يؤكد على احترام الإجراءات القانونية التي تخصُّـهماquot;.

لكن الأرجح أن هناك خِـلافا حول هذه النقطة بين فريقين من البلدان أعضاء الإتحاد، وهو الخلاف الذي ظهر في الماضي بين البلدان المطلة على المتوسط (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا) من جهة، والبلدان الشمالية (هولندا والسويد وألمانيا وبريطانيا) من جهة أخرى، في شأن التعاطي مع ملف حقوق الإنسان في كل من مصر وتونس وسوريا.

حصاد إطلاق البلغاريات
ويجدر التذكير بأن وزير خارجية بلجيكا كاريل دي غوشت صرّح لصحيفة quot;دي ستانداردquot; (De Standaard ) البلجيكية في أعقاب التوصل إلى الإتفاق الليبي ndash; البلغاري في 23 يوليو الماضي، بأن على الإتحاد الأوروبي أن لا يُخفف الضغط على النظام الليبي في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. وكان دي غوشت يُعلِّـق على قرار بلغاريا شطب الدّيون المستحقة على ليبيا وقيمتها 54 مليون دولار، لقاء إطلاقها الممرضات.

وتشاطر عواصم أوروبية عدّة الموقف الذي أطلقه علنا الوزير البلجيكي، مُعتبرا أن التطبيع بين الإتحاد وليبيا quot;ينبغي أن يكون عبْـر مسار طويل تلتزم ليبيا خلاله بالتقيُّـد بمعايير كثيرة، وخاصة في مجال حماية حقوق الإنسانquot;، غير أن التباعد في التعاطي مع هذه المسألة، quot;تمّ تذليلهquot; على ما قال لسويس أنفو دبلوماسي أوروبي، فضل عدم الكشف عن اسمه، وهذا يعني أن الكلمة الأخيرة في صوغ سياسة الإتحاد إزاء ليبيا، كانت لتيار البراغماتية الذي يقوده الرئيس الفرنسي ساركوزي ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني.

ويأتي الاتفاق الجديد، استكمالا للاتفاق الأول من نوعه بين ليبيا والاتحاد الأوروبي، الذي توصَّـل له الطَّـرفان في أعقاب إطلاق الممرّضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، الذين احتجزتهم ليبيا طيلة ثمانِ سنوات بعدما اتَّـهمتهم بحقْـن أطفال ليبيين بفيروس الأيدز.

ورمى الاتفاق الذي وقَّـعت عليه فالدنر ووزير الخارجية الليبي عبد الرحمان شلقم في طرابلس في 23 يوليو الماضي لتطوير العلاقات بين الجانبين، بالعمل على إقامة شراكة أوروبية ليبية في عديد من المجالات.

وأقر في هذا الإطار تسهيل الدخول الموسَّـع للصادرات الليبية، خاصة الزراعية والبحرية، إلى السوق الأوروبية وتقديم مِـنح دراسية للطَّـلبة الليبيين للدراسة في الجامعات الأوروبية وتدريبهم في مختلف المجالات، بالإضافة إلى تقديم مساعدات تقنية في مجال التنقيب عن الآثار والترميم والصيانة، وطبعا شمل الإتفاق المتكوِّن من صفحتين فقط، تقديم مساعدات أوروبية للأطفال الليبيين المصابين بفيروس الأيدز في بنغازي.

وربما الأهم من ذلك، أن الاتفاق أقَـر منح تأشيرات شنغن، التي تغطِّـي الدول الأوروبية الموقِّـعة على الاتفاقية، التي تحمل هذا الاسم، للمواطنين الليبيين وفق التصنيف quot;أquot;، الذي ينصُّ على منح هذه التأشيرة فى مدّة تتراوح بين 24 و48 ساعة، إلى جانب التزام الإتحاد الأوروبي بتوفير منظومة لحماية الحدود الليبية، برا وبحرا، وتركيبها على حسابه.

غير أن الدبلوماسي الأوروبي الذي تحدث لسويس انفو، شدد على خصوصية مسار التطبيع الأوروبي ndash; الليبي، مستدلا بأن مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل كان أول مكان غربي وطَـأته أقدام القذافي في سنة 2004، بعد خروجه من العزلة ورفع العقوبات الدولية عن بلده.

واعتبر الدبلوماسي أن الجولة التي قام بها القذافي على عواصم أوروبية رئيسية في أواخر السنة الماضية، فتحت صفحة جديدة في العلاقات بين الجانبين وأظهرت أن أوروبا تحظى بالأولوية في رؤية القذافي للعلاقات مع الغرب.

في المقابل، اضطر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لتدشين أول جولة له في القارة الإفريقية العام الماضي من طرابلس، بدافع البراغماتية أيضا، إذ أنه يُـدرك الثقل السياسي للمال الليبي في القارة، بالإضافة لتطلع الشركات الفرنسية للسوق الليبية الواعدة، وأطلق ساركوزي أثناء تلك الزيارة جملته الشهيرة quot;ليبيا هي بوابة إفريقياquot;.

ومعلوم أن زيارة الزعيم الليبي إلى باريس أثارت عاصفة من الإحتجاجات لدى منظمات غير حكومية وفي وسائل الإعلام، احتجاجا على أوضاع الحريات في ليبيا، وخاصة بعد الإتفاق الذي توصلت له فرنسا وليبيا لإنشاء مفاعل نووي سلمي.

وعلى رغم مقاطعة الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي للقمة الأوروبية المتوسطية الأولى، التي استضافتها فرنسا في الثالث عشر من يوليو الماضي، والتي أبصرت تأسيس الإتحاد من أجل المتوسط، لم تهدأ حركة الوفود الاقتصادية والدبلوماسية، التي تتردد بكثافة على العاصمة الليبية، فيما يُشبه سباقا على كسب الصفقات. وكانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، أحد أبرز هؤلاء الزوار في خطوة حاسمة لتطبيع العلاقات الثنائية، مما شكل ضوءا أخضر لحلفاء الولايات المتحدة.

ومن هذه الزاوية، يمكن اعتبار الإتفاق الجديد الذي ستُوقع عليه فالدنر ووزير الخارجية الليبي شلقم الشهر المقبل، إطارا دائما لربط ليبيا بعَـربة برشلونة، وقد يكون في مثابة تمهيد لضمِّـها إلى الإتحاد المتوسطي.

فليبيا هي البلد العربي الوحيد الذي لم يُوقّـع على اتفاق شراكة مع الإتحاد الأوروبي حتى اليوم، بسبب العقوبات الدولية التي فُرضت عليه في التسعينات (1992 ndash; 1999) وجعلته يُعامل باعتباره quot;بلدا مارقاquot;.

سوق واعدة
وما كان لذلك الوضع أن يستمر، لأن العواصم الأوروبية تُـدرك أهمية التعاون مع ليبيا، بالنظر إلى موقعها الجغرافي في قلب المتوسط وشمال إفريقيا، إضافة إلى امتلاكها احتياطا نفطيا وغازيا ضخما وسوقا اقتصادية واعدة.

فهي تملك طاقة إنتاج تقارب مليوني برميل يوميا، في حين أن مخزونها النفطي يناهز 45 مليار برميل، أما بالنسبة للغاز الطبيعي، فلا يقل المخزون المعلوم عن 1300 مليار متر مكعَّـب بغضِّ النظر عما ستسفر عنه أعمال التنقيب الجديدة.

وعلى هذا الأساس، يعتبر الليبيون أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إليهم أكثر مما هم في حاجة إليه، لكونهم لا يُصدِّرون منتوجات صناعية ولا زراعية للبلدان الأوروبية، لكن ما كان في وسع ليبيا استمرار البقاء خارج المنظومة الإقليمية التي أقامها الاوروبيون مع جيرانهم على الضفتين الشرقية والجنوبية للمتوسط، بمن فيهم صربيا التي كانت تُصنف في خانة الدول quot;المارقةquot; على أيام سلوبودان ميلوسيفيتش، وجنحت حاليا إلى إرساء علاقات مؤسسية مع الإتحاد.

قُصارى القول، أن الاتفاق الجديد سيُكرِّس إدماج ليبيا في سياسة quot;الجوار الجديدquot; التي اعتمدها الإتحاد الأوروبي اعتبارا من سنة 2005، والتي شكلت عنوان انعطاف في تعاطيه مع البلدان الواقعة في دائرة محيطه الجغرافي المباشر. وبات منظور quot;الجوار الجديدquot;، إطار العلاقات الوحيد بين الجانبين للفترة الفاصلة بين 2007 و2013.

ومن هذه الزاوية، تكون ليبيا كرَّست نهائيا خلع ثوب quot;الدولة المارقةquot;، الذي ألبسها إياه الغرب عُـنوة، واستعادت مقعدها الطبيعي في المجتمع الدولي.