لا يُمكن الحديث عن الأمن العالمي والتهديدات التي يواجهها دون التطرق إلى منطقة الشرق الأوسط والتغيرات الجيوبوليتيكية التي شهدتها خلال السنوات القليلة الماضية. ولن يكتمل الحديث عن هذه التغيرات دون تناول دور إيران المتصاعد في المنطقة، والعوامل التي أدت إلى تصاعد هذا الدور.
واشنطن: يحاول كيهان بارغيزار الأستاذ الزائر بجامعة هارفارد وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة quot;أزاد الإسلاميةquot; بطهران، الإجابة عن مجموعة من التساؤلات من قبيل: كيف يرتبط أمن منطقة الشرق الأوسط بنظام الأمن العالمي؟، وما موقع إيران ضمن منظومة الأمن العالمي؟، ثم ما الأسباب التي أدت إلى تصاعد الدور الإيراني في المنطقة؟، وذلك في مقال تحت عنوان quot;إيران والشرق الأوسط والأمن العالميquot;، نشر بدورية Ortadogu Etutleri، عدد يوليو 2009.
يُشير quot;بارغيزارquot; إلى أن تصاعد الدور الإيراني في الشرق الأوسط منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، والذي تعزز مع بدء الحرب الأميركية على العراق وما تبعها من أزمات سياسية وأمنية، يجد جذوره الأولية في الأهمية المتزايدة لقضايا الشرق الأوسط بالنسبة لنظام الأمن العالمي. كما يعتبر أن السمات والخصائص الجيوبوليتيكية الطبيعية لإيران، والهيكل التاريخي والثقافي والديني لقوتها قد جعلت من طهران أحد أكثر البلدان تأثيرًا في الشرق الأوسط.
ومن وجهة نظر quot;بارغيزارquot;، فإن القضايا الرئيسة التي سادت quot;شرق أوسط ما بعد 11 من سبتمبرquot; تتمثل في: ظهور متغيرات مؤثرة جديدة، الأمن السياسي والتطورات الجيوبوليتيكية، والتحول في دور اللاعبين.
تهديد القاعدة للأمنين الإقليمي والعالمي
على الرغم من أن القاعدة قد شنت هجمات عديدة قبل أحداث 11 من سبتمبر 2001، وأثرت بشكل كبير على التفاعلات الإقليمية، فإن هجومها على مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون يعد نقطة تحول في التأثير العالمي لعمليات القاعدة الإرهابية. فلم تعد مواجهة القاعدة مسألة تخص كل دولة على حدة.
وبصفة عامة فإن دور القاعدة وجهودها كقوة مؤثرة في قضايا الأمن السياسي في الشرق الأوسط قد ازداد لدرجة أن الحرب على الإرهاب أصبحت الاهتمام الرئيس لنظام الأمن العالمي. وفي هذا الإطار فإن الجدل حول ظهور القاعدة ودرجة وكفاءة نشاطاتها، ووسائل مكافتحها ارتبط بقضايا أوسع نطاقصا، فارتبط الجدل بقضايا الأمن السياسي والقضايا الثقافية-الدينية في الشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بصعود القاعدة، يشير quot;بارغيزارquot; إلى مجموعة من العناصر، تتمثل في:
ظهور الأزمات الاجتماعية والسياسية وأزمات الهوية في العالم العربي كنتيجة لعملية العولمة.
التحيز الأميركي لإسرائيل في إطار عملية السلام العربية- الإسرائيلية، ناهيك عن الدعم الأميركي quot;الأعمي واللامتناهيquot; لها.
دعم الولايات المتحدة للأنظمة السلطوية الموالية لها في العالم العربي، ممهدة الطريق لتواجد عسكري كثيف، وتشكيل نظم سياسية تابعة لها في المنطقة.
انتشار الحروب والتوترات والأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط.
ورصد الكاتب مجموعة من العناصر ترتبط بجهود القاعدة في التأثير على الأمنين الإقليمي والعالمي، تتمثل في:
إشعال الحروب الدينية والانقسامات في العالم الإسلامي، خاصة بين السنة والشيعة.
خلق فجوة بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي.
القيام بمحاولات لامتلاك أسلحة دمار شامل.
إعادة تعريف الأولويات الاستراتيجية الأميركية
ومن بين العناصر السابقة، quot;يلفت بارغيزارquot; الانتباه إلى عنصرين (خطر امتلاك القاعدة لأسلحة دمار شامل، ودور القاعدة في خلق الانقسام بين السنة والشيعة) هما الأكثر تأثيرًا في الأمن العالمي. وفيما يتعلق بالعنصر الأول: يرى الكاتب أن هجمات 11 من سبتمبر الإرهابية قد أعادت تعريف الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة فيما يتعلق بكل من: المعركة ضد الإرهاب، وامتلاك القاعدة لأسلحة دمار شامل، وسياق معاهدة منع الانتشار النووي.
ورغم أن قضية إرهاب القاعدة كانت موجودة خلال التسعينيات، إلا أن درجة ونوعية وتأثيرات عملياتها بعد هجمات 11 من سبتمبر قد حول العمليات الإرهابية التي تقوم بها إلى تهديد استراتيجي عالمي. كما أن احتمال امتلاك القاعدة لأسلحة دمار شامل وإمكانية استخدامها ضد الولايات المتحدة قد حول قضية القاعدة إلى quot;تهديد وجوديquot;، ولذا كان من الطبيعي أن تحول الحرب ضد القاعدة أولويات واشنطن فيما يتعلق بنظام منع الانتشار النووي.
فخلال الحرب الباردة كانت الالتزامات متعددة الأطراف وتحقيق الإجماع هي أسس نظام منع الانتشار النووي. لكن مع وقوع هجمات سبتمبر 2001، أدى نزوع الولايات المتحدة لمواجهة التهديد الوشيك للقاعدة، باستخدام القوة العسكرية، إلى أن تتبنى واشنطن موقفًا مهيمنًا داخل نظام منع الانتشار.
وبالنسبة للعنصر الثاني: فإن دور القاعدة المعزز للانقسامات بين الشيعة السنة في العراق لا خلاف عليه. ويعتبر النزاع الطائفي السبب الرئيس لعدم الاستقرار والتوتر المستمر في العراق، وهو ما يرتبط مباشرة بالأمن الإقليمي والعالمي.
ويرى الكاتب أن استمرار التوترات في العراق يخدم مصالح القاعدة من خلال عدة نواحٍ، فشل الحكومة الشيعية العراقية في السيطرة على الانقسام الديني بين الشيعة والسنة، والتناقض بين الفصائل السنية والشيعية داخل هيكل السلطة العراقية، وعجز الولايات المتحدة والقوات الأجنبية الأخرى عن السيطرة على الأزمات، كل ذلك يزيد التوترات في العراق ومن ثم في المنطقة.
الأزمات الإقليمية والتغيرات الجيوبوليتكية الجديدة
أدت الحرب التي يخوضها المجتمع الدولي ضد القاعدة، كما يرى quot;بارغيزارquot;، إلى بروز أزمات إقليمية جديدة في أفغانستان والعراق، أنتجت بدورها تطورات جيوبوليتيكية جديدة في المنطقة، بشكل وضع الشرق الأوسط في قلب اهتمامات الأمن العالمي. فالأزمات في العراق وأفغانستان ولبنان قد زادت أهمية قضايا الشرق الأوسط وارتباطه بالأمن العالمي من خلال أمرين: الأول عن طريق تغيير دور الفاعلين الإقليميين والدوليين، والثاني عن طريق تغيير طبيعة التهديدات الأمنية.
وفيما يتعلق بتغير دور الفاعلين على المستوى الإقليمي، يعتبر الكاتب أن الأزمات الإقليمية قد أنتجت تغيرات جيوبوليتيكية في جانبين أساسيين، الأول: ترابط التطورات السياسية في الدول الإقليمية فمن شأن أي تطور سياسي في بلد ما التأثير على البلدان الأخرى، والثاني: التحول في الدور التقليدي والنفوذ والمصالح الخاصة بالفاعلين الإقليميين وعبر الإقليميين.
وبالنسبة للجانب الأول، يرى quot;بارغيزارquot; أن الأزمة الأفغانية قد أدت إلى ارتباط القضايا الأفغانية بالأوضاع في الشرق الأوسط.
ففي الماضي كانت القضايا المتعلقة بشمال أفغانستان مرتبطة بمنطقة آسيا الوسطى، وقضايا جنوب أفغانستان مرتبطة بجنوب آسيا وشبه القارة الهندية. ولكن مع الترتيبات الجديدة المتعلقة بأدوار الفاعلين الإقليميين وعبر الإقليميين، أصبحت قضايا الأمن السياسي الخاصة بباكستان أكثر ارتباطًا بالشرق الأوسط وشؤون العالم العربي.
وفي هذا السياق مثلت أزمة العراق نقطة تحول فيما يتعلق بارتباط قضايا الشرق الأوسط، كما شكلت تحولاً في دور الفاعلين. فمنذ بداية الأزمة، أدى التغير الذي طرأ على هيكل السلطة التقليدي في العراق وفي سياسته (أفول قوة الأقلية السنية) واستبداله بهيكل جديد (صعود قوة الأغلبية الشيعية) إلى التأثير على كل تطورات الأمن السياسي في المنطقة. والأكثر أهمية من ذلك، كما يذكر الكاتب، أن تصاعد أهمية العامل الشيعي والكردي في العراق الجديد قد أدى إلى زيادة النفوذ الإيراني في البلاد، كما أدى إلى تدخل الدول المجاورة.
فبسبب خوفها من فقدان العراق لهويته العربية، بدأت السعودية في الاهتمام بقضايا الشيعة والأكراد. ومع التصديق على دستور العراق الجديد وترسيخ الفيدرالية واحتمالية تقسيم العراق، أصبحت تركيا، التي كانت تقليديًا مهتمة بالنشاطات الكردية في شمال العراق، أكثر اهتمامًا بالشؤون الشيعية والسنية في جنوب ووسط العراق. كما دفع الخوف من تفكك العراق وعزلة السنة كلاًّ من الأردن ومصر إلى لعب دور فعال في كل من العراق وفي إطار نظام الأمن السياسي الإقليمي.
وبشكل ما أدت التطورات الجديدة في هيكل القوة في السياسة العراقية وصعود الشيعة إلى السلطة إلى ربط الشؤون العراقية بالتطورات السياسية في كل من لبنان، من خلال حزب الله، وسوريا وفلسطين.
تغير أدوار الفاعليين الدوليين
وفيما يتعلق بتغير أدوار الفاعلين على المستوى الدولي، يرى الكاتب أن التطورات الجيوبوليتيكية الجديدة قد أدت إلى أن يمارس الفاعلون عبر الإقليميين مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين دورًا أكثر فاعلية في المنطقة استنادًا إلى مصالحهم الوطنية والدولية؛ المتمثلة في أمن الطاقة، أسلحة الدمار الشامل، منع الانتشار النووي، ومواجهة إرهاب القاعدة.
فقد أصبحت دول الاتحاد الأوروبي، نتيجة للأزمة في أفغانستان، أكثر انخراطًا في الشؤون الأمنية الخاصة بالمنطقة. إضافة إلى ذلك، فإن المصالح الاقتصادية المتنامية للاتحاد الأوروبي في الخليج العربي قد أرغمته على لعب دور أكثر نشاطًا في العراق والعالم العربي وفي العلاقات مع إيران. كما أن ارتباط الاتحاد الأوروبي الدبلوماسي بالأزمة النووية الإيرانية قد أعطاه دورًا فعالاً في الشؤون الاستراتيجية والسياسية في الشرق الأوسط.
وفي الوقت ذاته فإن التطورات الأمنية-السياسية، التي شهدها الشرق الأوسط، قد أعطت لروسيا والصين فرصة لتشكيل دور أكثر تأثيرًا في شؤون الشرق الأوسط، كما يذكر الكاتب. فالتطورات الجيوبوليتيكية الجديدة، إضافة إلى لبعض القضايا الاستراتيجية مثل البرنامج النووي الإيراني وأمن الطاقة والأزمات في لبنان وفلسطين، مهدت الطريق بشكل ما أمام عودة روسيا للشرق الأوسط. ويجادل البعض بأن الأحادية التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع الأزمات الإقليمية والأزمة النووية الإيرانية قد وفرت الفرصة لموسكو للعب دور كبير في القضايا الإقليمية.
وقد أدت التطورات الأقليمية أيضًا إلى زيادة تأثير الصين في الشرق الأوسط. وعن طريق زيادة حضورها الاقتصادي في الشرق الأوسط خلال العقود الماضية، رسخت الصين من دورها الاستراتيجي في الديناميات الإقليمية التي ظهرت بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001.
والأهم من ذلك، وفقًا لبارغيزار، أن البرنامج النووي الإيراني والعقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي قد أعطت بكين تأثيرًا أكبر في قضية الملف النووي الإيراني. فالتهديدات المتزايدة من قبل الولايات المتحدة ضد إيران من خلال العقوبات التي فرضها مجلس الأمن قد دفعت الأخيرة إلى تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا.
تغير طبيعة التهديدات الأمنية
تمثل الأثر الثاني الذي أنتجته الأزمات الإقليمية التي شهدها الشرق الأوسط بعد 11 من سبتمبر 2001، في تغير اتجاه كل من طبيعة وموقع تهديدات الشرق الأوسط وشؤون الأمن السياسي. فقد كانت شؤون الشرق الأوسط متركزة بشكل تقليدي ورئيسٍ حول العالم العربي، وتحديدًا على الجانب الغربي من المنطقة، خاصة الصراع العربي ـ الإسرائيل، وكانت الأوضاع في تركيا وإيران تبدو هامشية. لكن تطورات الأمن السياسي الجديدة بعد أحداث 11 من سبتمبر قد أعادت تركيز قضايا الشرق الأوسط على الشرق والخليج العربي.
كما أن القضايا التقليدية الخاصة بسياسات النفط وأمن الطاقة ودعم المصالح الإسرائيلية، لم تعد تحظى بالتركيز الأساسي بالنسبة للأمن العالمي. ففي الوقت الحاضر أصبحت التهديدات الأمنية الجديدة مركزة على الهوية والأزمات الاجتماعية، والتطرف الاجتماعي، والجيوبوليتيكا الإثنية والإيدولوجيا الدينية، جنبًا إلى جنب مع دور الجماهير في الاقتصاد والسياسة. بعبارة أخرى فإن قضايا الشرق الأوسط أصبحت بعد الحادي عشر من سبتمبر أكثر عمومية وارتباطًا وتدويلاً لدرجة أن الشرق أصبح العنصر الأكثر أهمية في الأمن العالمي.
الصعود الإيراني في الشرق الأوسط
يرجع الكاتب تزايد دور وقوة إيران التفاوضية في شرق أوسط ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، إلى سببين أساسيين، أولهما: الجغرافيا وطبيعة التطورات الجيوبوليتكية التي انبثقت عن أزمة العراق في عام 2003، والتي جعلت من إيران المحور الرئيس لشؤون الأمن السياسي في المنطقة. والثاني: صعود العامل الشيعي إلى السلطة في العراق والمنطقة، بشكل مكن إيران من التأثير بقوة على الديناميات السياسية في المنطقة.
لعب الموقع الجيوبوليتيكي الإيراني دورًا هامًّا في الحرب ضد القاعدة.، من خلال أمرين، الأول: المساعدة في إزاحة طالبان، والثاني إغلاق طرق تسرب قوت القاعدة منذ عام 2001.
فعن طريق توفير معلومات أمنية واستخباراتية للقوات الأميركية، ودعم قوات تحالف الشمال الأفغانية، لعبت إيران دورًا محوريًّا في الإطاحة بطالبان. وبعد سقوط طالبان، تعاونت إيران مع المجتمع الدولي في عقد مؤتمر بون، كما ساعدت في تشكيل الحكومة الأفغانية الجديدة وساندتها في المرحلة الانتقالية التي مرت بها، أثناء إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وفي المرحلة التي تلت ذلك ساعدت إيران المجتمع الدولي عن طريق إغلاق طرق تسرب وانتقال قوات القاعدة من خلال أراضيها.
ومع تفشي الأزمة العراقية وتطورات الأمن السياسي التي نجمت عنها في المنطقة، أصبحت أهمية إيران الجيوبوليتيكية، كمحور لديناميات الأمن الإقليمي، أكثر وضوحًا. فطول الحدود مع العراق، وارتباط البلدين بمنطقتين استراتيجيتين (كردستان العراق في الشمال والبصرة الشيعية في الجنوب)، قد أعطى لإيران موقعًا استراتيجيا فريدًا فيما يتعلق بالأزمة العراقية.
كما أن حياد إيران الإيجابي خلال الأزمة العراقية ودعمها للعملية الانتقالية العراقية، إضافة إلى دعمها لمحاولات الحكومة الشيعية تحقيق الاستقرار في البلاد، قد أضاف إلى دور إيران الإقليمي. والأكثر أهمية، كما يذكر الكاتب، أنه مع تكوين حكومة عراقية جديدة، تحول كل من العراق وإيران- رغم التاريخ الطويل من الحرب والعداء- إلى دولتين صديقتين وشركاء إقليميين. ويعتبر الكاتب هذا الأمر بمثابة quot;تطورٍ جيوبوليتكيا مهمٍّ في الخليج العربي وسياسات القوة في العالم العربي السني من شأنه تعزيز دور إيران في المنطقةquot;.
وقد أدى صعود الجماعات الشيعية إلى السلطة في العراق، ومطالب الحكومة الشيعية العراقية المستمرة ببناء علاقات وثيقة مع إيران، إلى زيادة دور إيران ليس فقط في الديناميات السياسية العراقية بل في عموم العالم العربي، وخاصة في لبنان.
وفقًا للنظام السياسي التقليدي العراقي، كانت هناك نخبة عراقية مبنية على ولاءات قبلية تتولى الحكم، وكانت الوظيفة الرئيسة لهذا النظام هي احتواء الجيران غير العرب في المنطقة؛ إيران وتركيا. وعن طريق التحكم في الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب وازن النظام العراقي السني دور تركيا وإيران الإقليميين. لكن إزاحة النظام البعثي قد دمرت هذا النظام التقليدي، واستبدلته بنظام جديد مبني على مجموعة عناصر هي: دور متزايد للأكراد والشيعة، الديمقراطية المباشرة، وحكم الأغلبية. وقد أدى هذا التطور، كما يرى الكاتب، إلى زيادة الدور الإيراني، نظرًا لامتلاك طهران علاقات سياسية وثقافية وثيقة مع الأكراد والشيعة.
كما أن تصاعد الدور الإيراني من شأنه أن يجعل الجماعات الشيعية تسعى إلى الحصول على دعم طهران السياسي والمالي واللوجستي للحفاظ على موقعها داخل السياسة المحلية العراقية، وعلاقاتها بالدول العربية السنية والولايات المتحدة، خاصة في مرحلة ما بعد انسحاب القوات العراقية. فبعد سنوات من التهميش كون الشيعة العراقيين أول حكومة شيعية في العالم العربي، ومن ثم يحتاجون إلى دعم إيران، الدولة الصديقة الوحيدة في المنطقة. ومن الطبيعي أن حكومة المالكي الشيعة ليس مرحب بها من قبل الرياض كما هو الحال مع طهران. إضافة إلى أن استخدام العلاقات الوثيقة بين العراق وإيران كورقة استراتيجية يعطي المالكي قوة تفاوضية لتنظيم علاقاتها الإقليمية والدولية خاصة مع تركيا والولايات المتحدة.
كما تخشى هذه الجماعات من احتمالية أن تتحول الولايات المتحدة نحو دعم الجماعات السنية ما سيؤدي على المدى الطويل إلى تدخل الدول العربية السنية مثل مصر والسعودية في السياسة العراقية، وهي دول لن تتسامح مع دور الجماعات الشيعية المتصاعد في هيكل السلطة الجديد في العراق.
وفي لبنان أدى صعود العامل الشيعي إلى السلطة إلى تعزيز الدور الإقليمي الإيراني، وذلك من خلال ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: بدأت مع انتصار حزب الله على إسرائيل في حرب صيف 2006، ما عزز الدور الإيراني في الشؤون اللبنانية والفلسطينية من الناحية الاستراتيجية. فبعض المراقبين يرون أن الحرب لم تكن حربًا تخوضها لبنان وإسرائيل فحسب، بل هي حرب إقليمية بين الولايات المتحدة وإيران عبر وكلائهما، حزب الله وإسرائيل. ومن هذا المنظور مهدت الحرب الطريق لحضور إيران المباشر على سواحل البحر المتوسط وعلى الحدود الإسرائيلية.
أما المرحلة الثانية فقد بدأت مع انتصار حزب الله في جولة جديدة من التنافس السياسي الداخلي في ربيع 2008، عندما شرعت الجماعة الشيعية اللبنانية في التصدي لحكومة فؤاد السنيورة الموالية للغرب. ويعتقد بعض المحللين أن الاتفاق بين الطوائف اللبنانية الذي تم التوصل إليه في مؤتمر الدوحة كان نصرًا استراتيجيا آخر لحزب الله وإيران في منطقة البحر المتوسط.
وفيما يتعلق بالمرحلة الثالثة، فإن الدور الإقليمي الإيراني قد ازداد نتيجة معارضة طهران للهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة خلال حرب الـ22 يومًا. فبينما لزمت كل النظم المحافظة العربية الصمت، كانت إيران إحدى الدول الإقليمية الرئيسة التي أدانت العمليات العسكرية الإسرائيلية ودعت إلى رد فعل قوي من المجتمع الدولي.
التعليقات