الإنترنت تسبب بإغلاق وحجب صحف كانت رائدة يومًا ما
الجرائد الورقيَّة في أميركا: نسل مهدد بالإنقراض؟

إيلاف من نيويورك: هل ولّى عصر المطبوعات الورقيَّة في الولايات المتحدة الأميركيَّة؟ يهيمن هذا السؤال على أذهان نخبة من المهنيِّين العاملين في مجال الطباعة والإعلام، ويبدو أنَّ عددًا متناميًا من المحللين الإعلاميين يميل إلى الإجابة عليه بالإيجاب. ففي مواجهة المنافسة المتزايدة من قبل نظيراتها الإلكترونيَّة، يتابع رؤساء تحرير المطبوعات الأميركيَّة بقلق شديد مستقبل هذه الصناعة، خصوصًا في ظلّ إنخفاض عائدات الإعلان وتراجع عدد النسخ المطبوعة، في وقت يتزايد شهريًا عدد الصحف المحلية الأميركية التي تقفل أبوابها.

وفي هذا السياق، قال الخبير الإعلامي إريك ألترمان في مقالة مثيرة للجدل نشرتها مجلة نيويوركر، إنَّ quot;شركات المطبوعات تخسر المعلنين والقراء وتتراجع قيمتها السوقية. وأكثر من ذلك، يتراجع شعور العاملين في هذه الشركات بأنَّهم يؤدّون مهمَّة وواجبًا. ويحصل كلّ ذلك بخطى متسارعة كان يمكن بالكاد تصوّرها قبل أربع سنوات من الآنquot;.

ويخيم على قطاع الطباعة والنشر مزاج كئيب إلى حد دفع بالجمعية الأميركية لرؤساء التحرير إلى إلغاء اجتماعها السنويّ المقرَّر لهذا العام. وشبَّه بيل كيلر، رئيس التحرير التنفيذي في صحيفة نيويورك تايمز في خطاب ألقاه مؤخرًا في لندن الاجتماع السنويّ لرؤساء تحرير الصحف بأنَّه quot;جنازة ليس إلاquot;.

وتتسع يوميًا الجبَّانة التي توارى في ثراها المطبوعات الأميركيّة إلى الأبد. ففي الأسبوع الماضي، انضمت الصحيفة البارزة quot;روكي ماونتن نيوز كولورادوquot; إلى قافلة الصحف التي اغلقت أبوابها، وذلك قبل أسابيع قليلة من احتفالها بعامها الـ 150. وكانت سبقتها على القدر نفسه صحف يومية عريقة احتجبت عن الصدور خلال الـ18 شهرًا الماضية، بما فيها quot;سينسيناتي بوستquot; وquot;بالتيمور إكزامينيرquot; وquot;كنتاكي بوستquot;.

وسجَّلت أوَّل 23 مطبوعة أميركية تراجعًا حادًا بنسبة 6 في المئة في عدد النسخ الموزعة خلال العام 2008 وفقًا لموقع newspaperdeathwatch.com. وأشار الموقع إلى أنَّ الصحف كانت تسجِّل خلال دورات الانتخابات السابقة ارتفاعًا ملحوظاً في عدد النسخ الموزعة، الأمر الذي لم تشهده الدورة الأخيرة من الانتخابات الرئاسيَّة في الولايات المتحدة الأميركية.

ومؤخرًا، تلقَّت quot;سان فرانسيسكو كرونيكلquot;، الصحيفة التي لم يكن يتوقع لها السقوط باعتبارها توزع حوالى 400 ألف نسخة يوميًا، ضربة قاسية جراء تخفيض عدد نسخها الموزعة وتراجع عائداتها الإعلانيَّة والمنافسة القوية التي تواجهها بسبب الصحف الالكترونية. وباتت الصحيفة الآن مهددة بالانضمام الى مقبرة المطبوعات التي بالكاد تتسع لأي منتسب جديد. ويدقّ الموت أيضاً أبواب صحيفة quot;سياتل بوست انتلجنسرquot;، إحدى كبريات الصحف الصادرة على الساحل الغربي من أميركا. وستحمل الشواهد التي توضع فوق قبور الصحف الراحلة كلمة واحدة تشرح أسباب وفاتها: الإنترنت، إذ تسببت الأخبار ومصادر الرأيّ الالكترونية بإغراق المطبوعات التي فشلت في التأقلم مع سوق الإعلام الأميركي الحديث الذي شهد نموًا وبرزت فيه أسماء صحف جديدة.

ويعتبر محللون أنَّه يتوجب على المطبوعات أن تتعلم كيفية الاستمرار في سوق المعلومات، حيث يطلب المستهلكون أن تكون أخبارهم مبنية على مصادر عدَّة، بما فيها الإنترنت. ويشير المحللون أيضاً إلى أنَّ الانترنت هي المكان الأنسب للمعلنين ليصلوا الى جيل الشباب الذي يملك قدرة شرائية، ولكنه لم يكتسب هواية قراءة الجرائد الورقيَّة عن والديه.

ووفقًا للإحصاءات، يناهز متوسِّط سنّ قراء الصحف الورقية في أميركا خمسة وخمسين عامًا وما فوق. ويعني ذلك أن معظم القراء الأوفياء للمطبوعات الورقية هم أيضاً في طريقهم إلى التقاعد النهائيّ. ويصف 19% فقط من شريحة تتراوح أعمارها بين 18 و34 عامًا أنفسهم بأنهم قراء للصحف الورقية، بينما تعتمد المجموعة الباقية بمعظمها على الانترنت كمصدر للأخبار.

وتوقع الخبير الإعلامي فيليب ماير في كتابه quot;الجريدة الزائلةquot; الذي أصدره في العام 2004 أن كل المطبوعات ستختفي خلال الثلاثين عامًا المقبلة، لتحلّ محلها مصادر الأخبار الالكترونية. وأضاف ماير وآخرون أن المواقع الإخبارية الإلكترونيَّة التي طورت اسمًا معروفًا واكتسبت عددًا من القراء ستكون حينها في الموقع الملائم للإفادة من تنامي الاعتماد على شبكة الانترنت كمصدر للخبر والرأي.

ومع تراجع أعداد النسخ الورقيَّة الموزعة في العام 2008، سجلت أوَّل 23 مطبوعة أميركية ارتفاعًا بنسبة 16% في عدد زوار مواقعها الإلكترونية. وفي هذا السياق، أشار أحد المحررين في صحيفة نيويورك تايمز إلى أنه quot;كي تنجو كمطبوعة، عليك ان تنجح على الإنترنتquot;.

وحتى quot;نيويورك تايمزquot;، وهي إحدى أبرز الصحف الأميركية، تواجه مشكلة. فهي ترزح تحت ديون بقيمة مليار دولار أميركي، ولا تملك منها كسيولة الا 60 مليون دولار، وقد سجلت أسهمها تراجعا بنسبة 55% خلال العام الماضي. وعلى الرغم من القرض الذي حصلت عليه من الملياردير المكسيكي اللبناني الأصل كارلوس سليم حلو، إلا أن قيمة سهم الشركة المدرج في البورصة ما زال يقلّ عن أربعة دولارات أميركية.

ويتوقع بعضهم أن تتوقف صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; قريبًاً عن الصدور بنسخة ورقية، وإن كان توقعاً مماثلاً لا يزال مستبعداً في المدى المنظور. بدورها، أعلنت شركة quot;واشنطن بوستquot; عن خسائر نسبتها 77% في الفصل الرابع من العام 2008، أمَّا مشروعها الأكثر ربحية، فلا علاقة له بالصحافة، إذ هو كناية عن شركة لتدريب الطلاب على اجتياز الاختبارات. كذلك، تواجه quot;نيوزويكquot; التي تملكها quot;واشنطن بوستquot; مشاكل مالية حادة.

ويرى محللون إعلاميون أن صحف بارزة مثل quot;نيويورك تايمزquot; وquot;واشنطن بوستquot; وquot;يو إس آي تودايquot; وquot;وول ستريت جورنالquot; تفتقر إلى المناعة الكافية للتصدي لاحتمالات احتجابها. وتحتاج جميع هذه الصحف الى إثبات وجودها بشكل أكبر على الانترنت والاستثمار في مشاريع بعيدة عن الصحافة.

وانسحبت خلال الآونة الأخيرة صحف عريقة مثل quot;كريستيان ساينس مونيتورquot; الغارقة في الديون تمامًا من حلبة إصدار النسخ الورقيَّة، واكتفت بتلك الإلكترونية، بينما اتجهت صحف أخرى مثل quot;شيكاغو تريبيونquot; وquot;لوس أنجلس تايمزquot; وquot;فيلادلفيا انكويررquot; إلى تسريح عدد كبير من موظفيها.

من جانبه، يلاحظ الخبير الإعلامي إريك ألترمان أنَّ quot;حوالى ربع الوظائف في الجرائد الأميركيَّة تبخَّر واختفى منذ العام 1990quot;، مع الإشارة إلى أن النسبة الأكبر من حالات التسريح سجلت خلال السنوات القليلة الماضية.

ويعلِّل جيف يارفيس، وهو مدون عمل في السابق لدى العديد من كبريات الصحف الورقيَّة أن الصحف اليومية فشلت في الالتحاق بثورة الأخبار الإلكترونية، لأنها كانت تجني سيولة كبيرة إلى حد أشعرها بالاكتفاء وعدم الحاجة إلى تأسيس مواقع على الإنترنت. وفي النهاية، قضى هذا الشعور بالاكتفاء على العديد من الصحف.

ويرى رؤساء تحرير الصحف أنَّ المواقع الإخباريَّة ليست مصدر التهديد الأكبر، بل مجمع الأنباء غوغل. ويشكو المحررون من أن محرك البحث غوغل يتغذى على المحتوى الإعلاميّ الذي ينتجه الآخرون، بينما يرد المدراء التنفيذيون في غوغل على هذه الشكوى بالقول إن شركتهم أصبحت أشبه بكشك الجرائد الذي يعرض يوميًا مقالات الصحف العالمية.

وقبل أن تصبح غوغل في متناول العامَّة ويذيع صيتها كأحد أكثر المواقع الإلكترونيَّة شعبيَّة في العالم، حاول أحد مدرائها التنفيذيين الاتصال بصحيفة quot;نيويورك تايمزquot; ليعرض عليها شراء غوغل. لكنَّ quot;نيويورك تايمزquot; رفضت الصفقة في حينها. أمَّا اليوم، فتعتبر غوغل من بين أكثر الشركات ربحًا في العالم، بينما تعيش نيويورك تايمز على المعونات. ويمثِّل ذلك أوضح انعكاس للشعور بالاكتفاء، وكذلك للطريقة التي أعادت فيها التكنولوجيا الحديثة تشكيل صناعة المطبوعات الأميركية. نجاح التجربة يؤكد أنها ستستنسخ نفسها في جميع أنحاء العالم.

التقرير التالي: الأوضاع الصحية للصحف العالمية