بيروت: تبدو تركيا في هذه المرحلة، كما لو أنها تُـعيد موضعة توازناتها الداخلية ومكانتها الإقليمية والدولية، إذ تشهد البلاد حالة من الحِـراك السَّـاخن على مُـختلف المستويات، تؤسس لصفحة جديدة من الكتاب الذي بُدء في كتابته منذ عام 2002 تاريخ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، منفردا ولا يزال.

ولا شك أن انفراد الحزب بالسُّـلطة في البرلمان وفي الحكومة، ومن ثَـمّ في وضع اليَـد في صيف 2007 على رئاسة الجمهورية، رتّـب متغيّرات مهمّـة جدا في الداخل والخارج.

وإذا كانت بعض المسارات قد بدَت في العاميْـن الأخيرين مُـثقلة بصُـعوبات أو متباطِـئة، فإن دينامكية التّـغيير لم تخمد تماما ولم يتعب فُـرسانها، لكنها تنتظر كاستراحة المحارب، لتعود للانطلاق من جديد.

لقد وصل حزب العدالة والتنمية بقيادة زعيمه رجب طيب اردوغان إلى السلطة في نهاية عام 2002، وكما يُـقال، على حِـصان الوعْـد بالتغيير والإصلاح.

وأثبت اردوغان وحزبه صدق رهان الشعب عليهم، إذ بادروا، كما بات معلوما، إلى أوسع عملية إصلاح منذ إصلاحات أتاتورك في بداية الجمهورية في منتصف العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، لكن quot;الثورة الصامتةquot; الجديدة، كما أطلِـق عليها، جاءت في سياقات مغايرة، بل حتى متناقِـضة مع الثوابت التي أرساها النظام العِـلماني والحكومات المتعاقبة، وبدا أنها تشكِّـل تهديدا جِـديا لها، إذ أن اردوغان أشهَـر في وجه خصومه، والأحرى القول في وجه نظام quot;الدولة العميقةquot;، أي دولة العسكر ومؤسسات الدولة الأخرى المؤتمرة بوصايته وتعليماته، السيف الذي كانوا يرفعونه للتحذير من quot;الخطر الإسلاميquot;، أي الإصلاحات على الطريقة الغربية.

تفكيك quot;الدولة العميقةquot;

لكن ما كان يرفعه العِـلمانيون، ظاهرا فقط لتبرير قمعهم للتيارات المعارضة من إسلامية وكردية وأقليات، كان اردوغان أول مَـن لجأ إلى تطبيقه، ما فتح أمامه الطريق لبدء مرحلة جديدة من العلاقات التركية مع الإتحاد الأوروبي، وحقق في سنتيْـن ما عجَـز العِـلمانيون أو ما لم يكن العلمانيون يُـريدون إنجازه خلال أكثر من نصف قرن، أي بدء مفاوضات العضوية مع الاتحاد الأوروبي. ولقد ترتب على هذا الإنجاز توترات داخلية متوقعة، ولكن ليس بهذه الحدّة الكبيرة.

إن المسار الإصلاحي عبْـر الرافعة الأوروبية، لم يكُـن يعني استمراره بالوتيرة نفسها، سوى إنهاء واقتلاع نظام quot;الدولة العميقةquot; ورأس حربتها المؤسسة العسكرية، لذا، بدأ العسكر بوضع العقبات للإطاحة بسلطة حزب العدالة والتنمية أو على الأقل منع استمرار الإصلاح بالوتيرة نفسها.

وهكذا كانت محاولتان للإنقلاب في عامي 2004 و2005 ثم quot;إنذار 27 أبريل 2007 الإلكترونيquot; من رئاسة الأركان لمنع انتخاب عبدالله غُـل رئيسا، ثم في قرار المحكمة الدستورية في الأول من مايو 2007 باشتراط نصاب الثلثين لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية، ثم في الدفع لإجراء انتخابات نيابية مبكّـرة، على أمل إسقاط حزب العدالة والتنمية، لكن هذه كلها لم تنجح في غاياتها، إذ عاد الحزب في انتخابات 22 يوليو أقوى من قبل بحصوله على 47% من الأصوات، ونجح في إيصال مرشحه غُـل إلى الرئاسة في نهاية أغسطس من السنة نفسها.

وهنا، حاول حزب العدالة والتنمية أن quot;يضرب الحديد وهو حامquot;، كما يُـقال، فأعدّ مشروع دستور جديد مدنِـي يطوي صفحة الدستور الحالي، الذي وضع العسكر خطوطه الرئيسية في عام 1982، وكان وضع الدستور الجديد، يعني بكل بساطة تفكيك quot;الدولة العميقةquot;.

كان العسكر قد انحنى للعاصفة الشعبية المؤيِّـدة لحزب العدالة والتنمية في يوليو 2007، لكنه لم يتخلّ عن هدف الإطاحة بحزب العدالة والتنمية.

وهكذا فتح له جبهة العراق العسكرية في خريف 2007 ضد حزب العمَّـال الكردستاني، وما يعنيه ذلك من استعادة صورة الحاجة لدور الجيش في مكافحة quot;الإرهابquot; وفتح له أيضا، عبْـر المدّعي العام للجمهورية، جبهة أخرى هي الدعوة لإغلاق الحزب بذريعة أنه تحوّل إلى بؤرة معادية للعِـلمانية، ولاسيما بعد تعديلٍ دستوري يسمَـح للمحجَّـبات بالدخول إلى الجامعات.

صُـدفة أم quot;عدّة الشغلquot;؟

ربما تكون الصُّـدفة وربما تكون quot;عدّة الشغلquot;، هي التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى طرف الخيط فيما يسمّـى قضية quot;ارغينيكونquot;، أي المنظمة التي اتُّـهِـمت بأنها سعت إلى الإطاحة بالحكومة وارتكبت العشرات من عمليات الاغتيال.

وهكذا، وفي غمرة دراسة المحكمة الدستورية دعوى إغلاق الحزب، كانت الحكومة عبْـر بعض القُـضاة تضع يَـدها على أكبر وأخطر قضية تشهدها تركيا في عصرها الحديث.

لم تكن قضية ارغينيكون مجرّد منظمة إرهابية تنشط للإغتيال هنا أو محاولة انقلاب هناك، إذ أن الأعضاء المتَّـهمين بقِـيادتها وتنفيذ نشاطات مسلحة وجرائم، كانوا ينتمون إلى شرائح مختلفة من المجتمع، من إعلاميين واقتصاديين ومفكِّـرين وأساتذة جامعات ونقابيين و... الأهم أن اثنين من كِـبار الجنرالات المتقاعدين الذين كانوا في مواقعهم الرسمية إلى ما قبل ثلاث سنوات فقط، كانوا على رأس المنظمة، وأظهرت التسجيلات الصَّـوتية التي سُـرّبـت مواقِـف فضائحية لرئيس أركان سابق، لجهة التدخل والضغط على النواب لمنع انتخاب غُـل رئيسا للجمهورية.

quot;العسكر في قفص القضاءquot;

إذن وباختصار، quot;العسكر في قفَـص القضاءquot;. ثبوتية الأدلة أوقع بيد العسكر، فانكفأ مؤقتا إلى الثكنات، وحاول أن يظهر بمظهر مَـن يريد أيضا تحقيق العدالة، لكن من الواضِـح أنه أيضا يحني رأسه هذه المرّة في انتظار فُـرصة أخرى لينتقِـم من حزب العدالة والتنمية.

ولقد جاء صدور الادِّعاء الرسمي هذه المرّة في العاشر من مارس 2009، ليؤكِّـد أنه لا توجد تسوية أو صفقة بين الجيش والحكومة، إذ وجِّـهت التُّـهمة رسميا للجنرالين: خورشيد طولون وشينير اراويغور بتزعُّـم المنظمة والسَّـعي إلى القيام بانقلابات عسكرية وارتكاب جرائم.

تتقدم خطوات تقليص نفوذ العسكر في الحياة السياسية، وكما كان الردّ على تدخّـل العسكر في انتخابات الرئاسة 2007، الإحتكام للرأي العام عبْـر انتخابات نيابية مبكِّـرة، ها هو حزب العدالة والتنمية يسعى مرّة أخرى للحصول على تفويض شعبي جديد من أجل استكمال مسيرة الإصلاح، وهذه المرّة عبر الانتخابات البلدية التي ستجري في 29 مارس الجاري.

ورغم أن الانتخابات بلدية، أي تتحكّـم فيها أيضا عوامِـل غير سياسية، من شخصية وعائلية وعشائرية وخدمات محلية وما إلى ذلك، غير أن حزب العدالة والتنمية يُـعوّل كثيرا عليها، لإثبات أنه لا يزال حِـزبا قويا، ليستطيع استكمال مشروعه الإصلاحي ولكي يتحصَـن من جديد بالدّعم الشعبي في مواجهة القِـوى المُـعرقلة له في الداخل، ولاسيما المؤسسة العسكرية.

وإذا كان الحزب واثقا من الفوز، إلا أن الأنظار تتَّـجه إلى معرفة مدى النِّـسبة التي سيحصُـل عليها على مستوى تركيا، ويسعى الحزب أن تكون النِّـسبة التي سيحصُـل عليها قريبة إلى النسبة التي حصل عليها في الانتخابات النيابية الأخيرة، أي 47%، لكن الخط الأحمر الذي يسعى إليه خصومه، هو إنزال هذه النسبة إلى ما دون 40%.

وحتى إذا حصل هذا بالفعل، فإنه سيكون تراجُـعا في شعبية حزب العدالة والتنمية وسيكون حُـجّـة لخصومه للدّعوة إلى انتخابات نيابية مبكّـرة، وسيسهِّـل عليهم استهداف الحزب في حَـصانته الشعبية، وبالتالي، منع استكمال مشروعه الإصلاحي.

كما سيسعى الحزب تحسين مواقعه الانتخابية في معاقل لخصومه، مثل ديار بكر الكردية وأزمير وأنتاليا، العِـلمانيتيْـن.

quot;مواقف أردوغان تنعكس سلبا على مصالح تركياquot;..

ولقد سعت القِـوى المناوئة للحزب أن تستهدفه أيضا من خلال سياساته الخارجية، ولاسيما مواقف اردوغان الأخيرة المندِّدة بالعدوان الإسرائيلي على غزة ومن بعدها خروجه الشهير ضدّ الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس في دافوس ووصفه له بالذي quot;يعرف القتل جيداquot;.

وقد حاولت القوى الإعلامية، المعروفة بولائِـها للعسكر، أن تنال من مواقِـف اردوغان بالقول أنها تنعكس سلباً على مصالِـح تركيا، ولاسيما بالنسبة للعلاقات مع إسرائيل وبالنِّـسبة لكسب اللُّـوبي اليهودي في الكونغرس الأميركي، لمنع النواب الأميركيين من الإعتراف بـ quot;الإبادة الأرمينيةquot;، كما بالنسبة لاستمرار الدّور التركي الوسيط في المنطقة.

غير أن رياح المرحلة الجديدة من عهد إدارة باراك اوباما، جرت - حسبما يبدو - بما لا تشتهيه سُـفن هذه القوى، إذ قامت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بزيارة إلى أنقرة وأعلنت أن أوباما قد اختار تركيا لتكون أول بلد مسلم يزوره، وبسرعة قياسية (مبدئيا يوم 7 أبريل المقبل).

زيارة أوباما لا شك ستُـعزّز مكانة تركيا كبلد طليعي في العالم الإسلامي وفي منطقة الشرق الأوسط، وكبلد تحتاج إليه أميركا في المرحلة المقبلة، سواء في علاقتها مع إيران أو في سياسات الحِـوار، التي قالت إنها ستتَّـبعها مع الآخرين، كما بالنسبة لحاجة أميركا إلى تركيا في ملفات العراق وأفغانستان وما إلى ذلك.

لقد أظهرت السياسة الخارجية التركية المُـتوازنة المتبعة مع كل الأطراف المُـتصارعة في محيطها الإقليمي، بما في ذلك في القوقاز وبين روسيا وجورجيا، فضلا عن الشرق الأوسط، أنها قد تكون quot;أفضل مساعدquot; لأوباما، في حال أراد تطبيق سياسة الحِـوار لحلّ المشكلات التي تواجِـهها أميركا. وبالفعل، كان خبراً سيئاً لمنتقِـدي مواقِـف اردوغان من غزّة وفي دافوس، الإعلان عن زيارة أوباما إلى تركيا ووصلت إلى حدّ التساؤل التهكُّـمي: quot;هل سيأتي أوباما لمقابلة عبد الناصر الجديد؟quot;.

في المحصلة، تُـصارع حكومة حزب العدالة والتنمية كعادتها على جبهتيْـن، داخلية وخارجية، وإذا كانت قد تهاوَنت في بعض الملفّـات، ومنها الإصلاح الدستوري، إلا أنه يُـتوقَّـع أن تُـبادر الحكومة بعد الانتخابات البلدية، التي تتركز كل التحرّكات حولها حاليا، إلى تحريك العديد من الملفّـات التي تُـتيح للحزب أن يواصِـل، من جهة مسيرته الإصلاحية في الداخل، ومساره الأوروبي الذي يتطلّـب خُـطوات جريئة في بعض الملفّـات، ومنها المسألة الكردية والقبرصية. ومن جهة ثانية، مواصلة تثبيت الدور التركي الذي جعل من أنقرة رقما أساسيا في المعادلات الإقليمية، بعدما كانت طرفا في مِـحور ضدّ آخر، على امتداد أكثر من نصف قرن.

محمد نور الدين