quot;إيلافquot; من لندن: يرى زبيغينيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة جيمي كارتر، أن حرب العراق الثانية التي قادها الرئيس جورج بوش الابن لإطاحة نظام صدام حسين في العراق قد quot; سَمّمت quot; حل الدولتين في فلسطين، خلافًا لحرب العراق الاولى التي قادها الرئيس جورج بوش الاب لاخراج القوات العراقية من الكويت، ومحاصرة صدام حسين، مما ادى الى مؤتمر مدريد للسلام، الذي فتح الطريق الى مثل هذا الحل. جاء ذلك في مقال للدكتور بريجنسكي ينشره تقرير quot; الديبلوماسي quot; بالاشتراك مع quot; فورين أفيرز quot;، عدد اغسطس المقبل، وخُصَت quot; ايلاف quot; بنسخة منه. المقال تعليق على كتاب quot; حرب الاضطرار وحرب الاختيار quot; الصادر اخيرًا للدكتور ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. يقول الدكتور بريجنسكي:

على الرئيس باراك اوباما ان يستمد درسًا مهمًا من كتاب ريتشارد هاس الكاشف، اذا كان للرئيس الجديد ان يجتنب في الشرق الاوسط، ليس فقط الاخطاء الفادحة التي ارتكبها سلفه المباشر جورج دبليو بوش، بل ايضاً السلبية الطويلة الامد التي ميزت سنوات بيل كلينتون في البيت الابيض، هذا اذا اراد ان يقود حقًا.

ان الغموض الذي يلف او يخفي الفارق بين حرب الاضطرار (كما حدث نتيجة احتلال صدام حسين للكويت في مطلع تسعينات القرن الماضي)، وبين حرب الاختيار، بحجج واهية تصورها وكأنها حرب اضطرار قبل ان تتضح نتائجها المدمرة، هو في النتيجة ما يستدعي التدقيق في حالة عززت المصالح القومية الاميركية، وحالة ألحقت بها ضررًا فادحًا.

اما الاعتراف الجريء لريتشارد هاس في كتابه بأنه كان منفتح الذهن على حرب الاختيار (حرب العراق الثانية)، على الرغم من القلق الذي ساوره من الطريقة العشوائية التي اتخذ بها القرار على اعلى المستويات، فإنه المفتاح الرئيس اللازم للتمييز بين الحالتين: حالة ان تذهب اميركا الى الحرب كرد فعل على عمليات تقوم بها دول اخرى، اذا رأت في ذلك تهديدًا أكيدًا لمصالحها القومية، وحالة ان تختار هي الحرب عمداً لتغيير طبيعة دول اخرى وتبرر ذلك بحجج ايديولوجية واهداف اخلاقية.

وفي رأي هاس ان الغموض نشأ في ذهنه، وربما في اذهان كثيرين غيره، من جراء مسألة اسلحة الدمار الشامل التي اتخذت ذريعة لحرب الاختيار، حيث بدا ان الحربين كلتيهما، حرب بوش الاب وحرب بوش الابن، مدفوعتان بالاضطرار اكثر مما هما مدفوعتان بالاختيار. وبالتالي فإن الفارق بين الاضطرار والاختيار يبقى غامضًا، او مشكولاً، الى ان تتضح النتائج.

وما لم تتعرض الولايات المتحدة لحرب مفروضة عليها بفعل هجوم مباشر، فإنه يتعين على صانعي السياسة دائماً ان يكون لديهم تصور للطوارئ (او اختيار) حول ما اذا كان ينبغي اطلاق عمل عسكري. ولهذا فإنه أمر حاسم، وفي غاية الاهمية، كيفية اتخاذ مثل هذا القرار، وهو قرار لا بد ان تؤثر فيه الانحيازات الفكرية والشخصية للمقررين، إضافة الى تركيباتهم الايديولوجية.

ومن البديهي انه كلما خفّت العوامل العاطفية، وكلما ازداد التعقل في تلك العملية، كانت النتيجة افضل. فالموازنة المنتظمة بين الخيارات، والتحليل الثاقب، والتدقيق الممحص في المعلومات الاستخباراتية (بما في ذلك الحساسية تجاه ما هو غير معروف او غير مؤكد)، ناهيك من التقويم الدقيق للنتائج المترتبة على الذهاب الى الحرب، هي امور ضرورية كلها. واخيراً وليس آخراً، فإن قرار الذهاب الى الحرب يجب ان يشمل وضوحاً في تحديد اهداف الحرب. فقد اثبتت الاهداف الايديولوجية الطموحة لحرب العراق الثانية انها ادت الى نتائج كارثية بالمقارنة مع الاهداف الجيوبوليتيكية المحدودة للحرب الاولى.

لقد شارك هاس في اتخاذ قرار الحرب ضد عراق صدام حسين في العام 1991 بصفته المسؤول الاعلى لشؤون الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي آنذاك. وبهذه الصفة ساعد مستشار الامن القومي برانت سكوكروفت على تحديد الطبيعة العدوانية لاحتلال صدام حسين للكويت بما في ذلك من تهديد للاستقرار في منطقة الشرق الاوسط. ومن الامور الحاسمة في الرد الاميركي، حسب رأيه، ان واشنطن تعهدت حملة ديبلوماسية متواصلة لحشد الدعم الدولي من اجل حمل صدام حسين على الانسحاب من الكويت، وتالياً لاجباره على الانسحاب بالقوة. وعندما تم استخدام القوة، فإن الحملة العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة ضمّت دولاً اوروبية مهمة، والاهم من ذلك جيوبوليتيكياً انها ضمت قوات عربية واسلامية. وحتى سوريا شاركت فيها.

ان تلك الحملة العسكرية ذاتها (حرب الاضطرار)، تركزت على اهداف استراتيجية محددة بوضوح، وهي تدمير قدرة صدام حسين العسكرية واخراجه من الكويت. وكان واضحاً مسبقاً ان الهدفين كليهما قابلان للتحقق وقد تحققا فعلياً. إذ إن ايًا منهما لم يكن مدفوعًا بدوافع دخيلة، كما ان السياسة ذاتها نجمت عن حسابات باردة للتكاليف الكبرى المحتملة من جراء عدم التحرك، ازاء التكاليف المحدودة للرد العسكري المركز بوضوح.
والجدير بالملاحظة هنا انه قبل التصادم مع العراق في العام 1991، كانت الولايات المتحدة تدعم من طرف خفي حرب صدام حسين ضد ايران، بل انها لم تعترض على استخدامه الاسلحة الكيماوية ضدها، كما يقول هاس الذي كان مؤيدًا لتوسيع العلاقات الاميركية مع العراق. وباختصار كانت السياسة الاميركية في عهد بوش الاب موجهة بواقعية صارمة بكل معنى الكلمة.

ويتضح الآن جليًا، وهو ما يؤكده هاس بقوة، أن laquo;حرب الاختيارraquo; التي قادها بوش الابن لم تكن ناتجة عن مداولات دقيقة بل كانت اختيارًا مبنيًا على عقيدة او قناعات مسبقة. فقد شنها laquo;المقرر الاكبرraquo; المائل إلى المبالغة القدرية في التبسيط، بتشجيع ودفع من مجموعة من المحافظين الجدد في ادارته. والابطال البائسون لهذه القدرية،إضافة الى بوش الابن، حسب هاس، هم: كوندوليزا رايس، ونائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ونائب وزير الدفاع بول وولفوويتز، وبول برامر الذي ترأس سلطة الحكم المؤقتة في بغداد. وما يدين هذه الجماعة بوجه خاص في تقدير هاس ان عملية اتخاذ القرارات كانت واهية وغاير وافية.

الاهمية الاضافية لكتاب هاس تكمن في الدروس والعبر الاوسع التي يمكن ان يستفيد منها كل وزير خارجية مقبل، او مستشار للامن القومي، لتخطيط السياسة الاميركية ازاء منطقة الشرق الاوسط. ذلك ان التصورات الواردة حول هذا الموضوع تطرح ايضًا اسئلة اوسع حول اداء الولايات المتحدة خلال العقود القليلة الماضية، من حيث تشكيل الوضع الجيوبوليتيكي لمنطقة الشرق الاوسط، خصوصًا لجهة الصراع المأساوي بين الاسرائيليين والفلسطينيين. فقد كان ممكنًا ان تشكل نتيجة حرب العراق الاولى (حرب الاضطرار) نقطة افتراق باتجاه سياسة اميركية بناءة واكثر حسمًا في تلك المنطقة المضطربة، اذ انها بترافقها مع سقوط الاتحاد السوفياتي، اظهرت الولايات المتحدة على انها الطرف الظافر في الصراع الجيوبوليتيكي والايديولوجي الممتد زمنياً لمرحلة طويلة لكنه لقي خاتمة سلمية. فقد خرجت الولايات المتحدة من ذلك الصراع مرفوعة الرأس وحظيت باعجاب عالمي.

وكانت هناك مؤشرات في ذلك الوقت، حسب هاس، على ان الرئيس جورج بوش الاب كان مستعدًا لتأكيد القيادة الاميركية وتصميمها لانهاء الصراع التاريخي المرير والملهب للتطرف الاقليمي بين الاسرائيليين والفلسطينيين. وبالفعل كان مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991 اول الثمار الملموسة لهذا التصميم الواضح. فقد ضغطت الولايات المتحدة على منظمة التحرير الفلسطينية لتلطيف موقفها ازاء وجود دولة اسرائيل، وفي الوقت ذاته رفع الرئيس بوش الاب صوت احتجاج قويًا ضد استمرار حركة بناء المستوطنات الاسرائيلية فوق الارض الفلسطينية. اما وزير خارجيته جيمس بيكر فقد اعلن في خطاب رئيس امام منظمة اللجنة الاميركية ndash; الاسرائيلية للشؤون العامة laquo;ايباكraquo;، وهي اللوبي الاول للدفاع عن اسرائيل في اميركا، انه يتعين على اسرائيل ان تتخلى مرة والى الابد عن احلامها غير الواقعية باقامة اسرائيل الكبرى (هذا الخطاب شارك هاس في صياغته الى جانب دنيس روس ودانيال كورتزر). وبعد حرب العراق الاولى، وعلى الرغم من ضغوط الكونغرس، فإن الرئيس بوش الاب خذل اسحاق شامير، رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك، عندما طالب بضمانات قروض اميركية كبرى طويلة الاجل مع الاصرار على الاستمرار في بناء المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية. ولم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى تخلى الرأي العام الاسرائيلي عن شامير وانتخب مكانه اسحاق رابين الذي يعد من ابطال حروب اسرائيل السابقين، فارتفعت بذلك حظوظ السلام ارتفاعًا مذهلاً. لكن هزيمة بوش الاب في الانتخابات في اواخر 1992، كما يرى هاس، سحبت الزخم من المسعى الاميركي، ثم جاء اغتيال رابين بعد ذلك ليحرم واشنطن من شريك جدي وشجاع في السعي الى السلام.

اما ادارة كلينتون فقد تلكأت ولم تقم بأي جهد مصمم الا بصورة مستعجلة وفي مرحلة متأخرة، وهي محادثات laquo;كامب دايفيد - 2raquo; في نهاية ولاية كلينتون الثانية، ولذلك لم تكن النتائج قاطعة. وفي رأي هاس ان السلام الحقيقي يجب ان يضمن الامن للاسرائيليين والانصاف للفلسطينيين. وللوصول الى هذه الغاية، حسب تقديره، يتوجب على الرئيس الاميركي ان يحدد بصراحة ووضوح العناصر الرئيسية للسلام الحقيقي القائم على التسوية والمصالحة في النهاية. ان فشل الرئيس جورج دبليو بوش في القيام بذلك ادى الى وضع خريطة طريق غامضة للوصول الى السلام، فاصبحت خريطة طريق الى وجهة مجهولة. يضاف الى ذلك ان تبني بوش الابن لرئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق ارييل شارون على انه laquo;رجل سلامraquo; زاد من نفور العرب. وكانت النتيجة تعنتًا مدمرًا من قبل الاسرائيليين والفلسطينيين على السواء. او حسب تعبير هاس، لقد اخفقت الولايات المتحدة في التحرك.

ومع استخلاص الرئيس اوباما للعبر من التجارب السابقة، فإنه يجب الاعتراف بأن الارث السابق خلال العقدين الماضيين يجعل الامور اكثر صعوبة امام الرئيس الاميركي، لأن تحولاً خفياً قد طرأ على المقاربة الاميركية للصراع الاسرائيلي ndash; الفلسطيني، وهو ان الولايات المتحدة انتقلت من كونها وسيطًا حقيقيًا ونزيهًا يسعى الى زحزحة الفريقين كليهما باتجاه السلام، الى وضع اصبحت فيه طرفاً منحازاً يغطي انحيازه بغلاف رقيق، فكانت النتيجة كارثية ازاء مساعي السلام. ذلك انه بدون التعاطي الاميركي الحثيث والحقيقي للقيام بوساطة مستقيمة ومجدية، فان الفريقين لن يستطيعا لوحدهما التوصل الى تسوية حقيقية.

ومما يزيد الامور سوءًا، اتساع التطرف الاسلامي في صفوف الفلسطينيين، كما ان السياسات الاسرائيلية تتوغل اكثر فاكثر في طريق التعنت والتطرف. وخلال الشهور المقبلة سوف يحاول بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الاسرائيلي، دفع الولايات المتحدة الى الحرب مع ايران، وفي غضون ذلك سوف يتشبث بحجج واهية، كالقول ان على الفلسطينيين ان يطوروا انفسهم اقتصادياً قبل البحث الجدي في السلام معهم. فالحجة السائدة ازاء القضية الفلسطينية تدعو في الواقع الى ترك الامور على ما هي عليه على الرغم من ان مخاطر اطالة الطريق المسدود قد سمّمت بالفعل امكانية حل الدولتين.

في هذه الظروف، فإن استمرار اللامبالاة الاميركية في وجه اضطرار قبيح واختيار مؤلم من شأنه ان يلحق الضرر بالمصالح القومية الاميركية ذاتها، ويظهر عدم مبالاة تجاه معاناة الفلسطينيين، ويهدد في النهاية بقاء اسرائيل.

بالنسبة الى الولايات المتحدة، في الشرق الاوسط، قد يكون الوقت تأخر على قيام اميركا بدور قيادي جريء... لكنه ربما لم يتأخر كثيراً.

* laquo;الديبلوماسيraquo; تقرير إخباري- تحليلي شهري، خاص بالمشتركين فقط، يصدره في لندن الصحافي اللبناني ريمون عطا الله، والمقال تضمنه العدد 127 لشهر يوليو الجاري. laquo;فورين أفيرزraquo; دورية تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك.