يوسف صادق من غزة: في الأنفاق الواصلة قطاع غزة والأراضي المصرية، الموت والعمال بداخلها أصدقاء. والألفة بين باطن الأرض وأجساد هؤلاء الناس باتت واقعية رغم حالات الإنهيار الأرضية المتكررة، لكن شهر رمضان يأتي على هؤلاء الناس بأحزان فراق زملاء لهم في المهنة التي لا توجد في أي مكان آخر غير غزة.
تجلس زوجة حسن أبو خضرة الذي قضى قبل شهر تحت نفق إنهار عليه، وسط أطفالها تنتظر آذان المغرب ليبدأوا جميعهم تناول ما قسمه الله لهم على مائدة فقدت رب أسرتها، وترك هؤلاء الأطفال دون معيل، بعد أن اضطر حسن للعمل تحت الأرض، في عدم وجود بديل آخر فوقها، ليوفر لقمة عيش ممزوجة بالدم والعرق والموت.
وحسبما قالت الزوجة المكلومة لإيلاف، فإن حسن الذي حاول أن يجد عملاً يعيش من خلاله، quot;لم يجد طريقا آخر غير الأنفاق بين الأراضي المصرية والفلسطينية لتكون مصدر رزق لأسرته، رغم المخاطر التي تعرض لها وإنطباق الأرض عليه مرتين، لكن عناية الله تدخلت وأنقذته في المرتين السابقتين، وقضت عليه في المرة الثالثةquot;.
وأضافت أم محمد quot;لطالما حاولنا منعه من العمل في الأنفاق أنا وأطفالي، لما لها من خطورة عليه، لكن الموت كان أسرع منا جميعاً، ولم يعد زوجي كعادته من عمله الشاق محملاً ببعض أنواع الأكل، بل عاد جثة هامدة، لأعيش أنا وأطفالي من غيرهquot;.
ورغم مرور أسبوعين على رمضان الذي جاء في فصل صيف حار على الفلسطينيين، إلا أن عمال الأنفاق، والذي يقدر عددهم بعشرات الآلاف،ما زالوا يعملون غير آبهين بعطش أو جوع، أو حتى إنهيارات جديدة. وقال محمد الشاعر، احد العاملين في الأنفاق إنه يريد تأمين لقمة عيش لأطفاله.
وأضاف الشاعر لإيلاف quot;لم يعد بالإمكان أي نوع من العمل في غزة، فكافة مناحي الحياة هنا شبه مشلولة، وتكاد تكون متوقفة تماماً، عدا التجارة التي تدخل من خلال الأنفاق، فتلك البضاعة هي التي تنشط السوق والحركة في شوارع غزة. وبالنسبة لي لم أجد بديلا آخر غير العمل تحت الأرض رغم أنني أدرك مخاطرها الكبيرة، فزميلي حسن توفي داخل النفق الذي كنت أعمل فيه، لكنني كنت حينها أعمل بجانب فوهة النفق، ولهذا لم أصب بأذىquot;.
وتابع الشاعر quot;شهر رمضان هو شهر الخير والرزق والبركة، وكافة تجار غزة ينشط عملهم في هذا الشهر الفضيل، واستغل الفرصة لأوفر احتياجات أسرتي في رمضان وفي عيد الفطر المباركquot;.
ويتقاضى عامل النفق 150 شيقلاً تقريباً في اليوم الواحد quot;40 دولاراquot;. ويعتبر مبلغاً جيداً لعشرات الآلاف من أرباب الأسر في غزة التي فقدت عملها داخل الخط الأخضر، بسبب منع إسرائيل لأكثر من سبعين ألف عامل من العمل داخل مدنها منذ بداية إنتفاضة الأقصى عام 2000م.
وأكد الشاعر أن العمل في شهر رمضان quot;أكثر من باقي الأشهر الأخرى، خاصة في ظل وجود مناسبة العيد التي تعقبه، إضافة إلى بدء عام دراسي جديد، ولهذا فإننا نضطر في كثير من الأحيان للإفطار داخل النفق أثناء العمل، ونأكل عدة تمرات ونشرب الماء أو العصير، ثم نواصل عملنا، وبعد أن ننجز مهمتنا، نجلس جميعاً لتناول الإفطار الرسمي، ونهنئ أنفسنا بسلامتنا من الموتquot;.
ولم يتوقف العمل عند أرباب الأسر، فالطالب الجامعي خليل احمد، واحد من بين هؤلاء العمال، إضطر للعمل لتوفير رسوم جامعته. وقال أحمد لإيلاف quot;إما أن أعمل في الأنفاق أو أن أترك دراستي، فوالدي لا يقدر على توفير رسوم ومواصلات جامعتي، ولهذا أضطر للعمل في مهنة الموتquot;.
وأضاف quot;أستغل أيام عدم وجود محاضرات عندي في الجامعة، وأذهب للعمل عند صاحب نفق صديق لي مقابل مبلغ جيد، ويساعدني ذلك على مواصلة تعليمي الجامعي، ويتعدى ذلك بأن أصرف على أسرتي كذلك الأمرquot;، مشيراً إلى أنه ليس الوحيد بين الطلبة الجامعيين، quot;فعشرات الطلبة يتبعون العمل نفسه للأسباب نفسهاquot;.
من جانبه، أكد المتحدث باسم وزارة الداخلية في غزة المهندس إيهاب الغصين أن الحصار الإسرائيلي على غزة أجبر السكان على شق طرق خاصة إستثنائية كالأنفاق، التي من خلالها يتم دخول المواد التموينية والسلع الغذائية إليهم. وقال لإيلاف quot;من يتحمل مسؤولية ارتفاع ضحايا الأنفاق هم الذين يحاصرون قطاع غزة منذ أكثر من ثلاث سنواتquot;.
وأكد الناطق باسم وزارة داخلية غزة أن الأنفاق ظاهرة غير شرعية. لكنه قال quot;في ظل حالة الحصار التي يعيشها الفلسطينيون في غزة، فمن حقهم اتباع أي وسيلة للتخفيف من المعاناة quot;، مشيراً إلى أن وزارته لا تعطى شرعية لهذه الأنفاق لأنها ليست معابر رسمية وإنما حالة استثنائية. وأكد أن وزارة الداخلية تتابع أصحاب تلك الأنفاق بإعطائهم إرشادات لاتباع الإجراءات اللازمة للحفاظ على سلامتهم.
وحول إشكالية انهيار عدد من الأنفاق أدت إلى وفاة أكثر من مائة فلسطيني. قال الغصين quot;إنهيار الأنفاق يشترك فيها أكثر من طرف، أولها يتمثل في حفر الأنفاق بطرق بدائية وليست طرقا هندسية، ما يؤدي إلى انهيارها، إضافة إلى محاربة الجانب المصري للأنفاق وتفجيرها، فضلاً عن استهداف الطائرات الإسرائيلية لهاquot;.
وكشف المتحدث باسم وزارة الداخلية في غزة، أن وزارته quot;منعت عمالة الأطفال بالأنفاق بعد تزايد أعداد الوفاة، حيث تم تشكيل لجنة خاصة لتنفيذ هذا الأمرquot;.
صاحب نفق على الحدود الفلسطينية المصرية، أبو رائد quot;٤٥ عاماًquot;، قال لإيلاف quot;جميعنا يتعب من أجل لقمة العيش نوفرها لأولادناquot; منوهاً بما يقرب من ثمانين عاملا يعملون داخل النفق الذي يملكه، على شكل ورديات صباحية وليلية.
وأضاف أبو رائد quot;شهر رمضان فيه خير وفير، والعمل فيه منتظما، دون الأشهر الأخرى، وكافة التجار والزبائن يريدون إدخال بضائعهم من الأنفاق لبيعها في شهر رمضان(..) وهي فرصة جيدة لنا لتوفير المال اللازم لتغطية المصاريف الخاصة بمستلزمات العمل من أجور للعاملين، وعمليات الصيانة للنفق لضمان السلامة أثناء العملquot;.
ويغيب حسن وأكثر من 110 آخرين، قضوا جراء إنهيارات متكررة للأنفاق، عن أسرهم في شهر رمضان المبارك. وتبقى حاجة الزوجات الثكلى والأبناء اليتامى لهم، لا يدركها غير فاقدي الأحبة وأرباب الأسر. وتبقى زوجة حسن أبو خضرة مطالبة أمام أطفالها بتوفير ما يلزم لأن يبقوا أحياء.
التعليقات