&
&
من السماء بدت بغداد زاهية باضوائها وتلامع شريط دجلة.. حطت الطائرة في مطار المثنى.. استنشق بعمق وانا ابتسم جذلا انسام ليالي بغداد العذبة.. أخطو بثبات صوب البوابة المشرعة للقادمين.. أضع حقيبتي على الطاولة الطويلة واقدم جوازي لضابط التفتيش.. ينظر في الجواز ويرفع بصره اليّ.. يسالني أن أنتظر قليلا.. يدقق في جوازات القادمين الاخرين وامتعتهم.. بعد أن ينتهي من آخرهم يطلب مني أن اتبعه الى غرفته.. يطلب مني الجلوس قرب طاولته..&
-فلاح محمد مهدي الجواهري؟
-نعم.. اجيب أنا بهدوء
-قادم من براغ؟
-نعم.&
-المهنة&
-طبيب.&
يكتب على ورقة امامه.. يرفع سماعة التلفون لحظة ثم يضعها جانبا.. تظهر عليه معالم من يعيد تساؤلا في ذهنه، ثم وكأنه يتخذ قرارا فينهض فجأة ليغادر الغرفة.. ابقى في مكاني جالسا.&
ها قد مضت ساعة، ثم ساعتين،.. " يبدو أنه يتصل بجهات عليا.. ساقضي ليلتي هذه في موقف الشعبة الخاصة قرب السراي.. وما الضير في ذلك، ساستعيد ذكريات الخمسينات، بل لعلي ساجد رفيقا ممن كانوا معي هناك.. ها قد صحّت توجسات الجواهري.. لعلها بداية الطريق الى نقرة السلمان.. وما الضير في ذلك؟! ساتعرف على سجن جديد غير موقف السراي والسجن المركزي ومعتقل ابو غريب ومعتقل الرستمية.. قد يكون جو البادية في هذا الموسم طيبا والشمس في باحة القلعة الصحراوية حلوة تدفأ عظامي التي تثلجت في الغرب.. ".. بينما انا منشغل في احلام المغامرات القادمة عاد ضابط الجوازات ووقف امامي مبتسما..&
-مرحبا بك دكتور.&
استلمت جوازي من يده الممدودة وشددت على كفها مصافحا بحرارة.&
حين خرجت من بوابة المطار الى ساحة وقوف السيارات لم أجد اعذب من تلك الانسام الندية ولا ارق.. بدت اضواء الارصفة القريبة ونوافذ البيوتات البعيدة فوانيس سحرية آتية من ليالي شهرزاد.. في التاكسي الهبتُ حمى سائق التاكسي بالاسئلة عن الابنية والشوارع والجسور التي نجتازها، ناقلا اليه حمى نشوتي وجذلي، وكأني لم ار معالم بغداد من قبل ولم تطأها قدماي.. صحيح اني فارقتها لعشر سنين ونيف ولكن صور ادق معالمها لم تغب عني طوال هذه الاعوام..&
.. انتقل فرح عودتي اليه فاخذ يمطرني بالاسئلة عن غيابي عنها.. عن دراستي.. عن المدن التي رأيتها والناس الذين يعيشونها..&
.. ندخل عبر ازقة مظلمة ضيقة متعثرة وبيوتات صغيرة متراصة.. يا إلاهي! لكم اشتقت لهذه المعالم التي فاتتني عصورا.. اتخيل من وراء ابوابها ساكنيها والتفافهم في ساعة الليل الباردة قليلا حول جمرات مناقلها المتوقدة.&
.. نحن الآن في حي بمساكن حديثة لم تعبد شوارعه بعد..&
-ها قد وصلنا الى حي المعلمين في مدينة الحرية.. يخبرني السائق وهو يلتفت برأسه لحظة صوبي.. وها هو دار رقم 65 ، يكمل عبارته.&
يا للفرحة الكبيرة.. انا ومنذ عهد بعيد لم أجد نفسي محاطا بالقبل والاحضان من جمع كبير من الاهل.. شقيقتي الكبرى أميرة، عدد كبير حولها من اهلي، اطفالا وصبيانا وصبايا
.. اين هذا من توحدي في ظلمات ضباب لندن وزمهرير موسكو وضياع السودان وبراغ.. ها أنا أجد نفسي.. ها أنا أولد من جديد.&
في الصباح وانا اُعدّ اوراقي واضعها في محفظة استعدادا للخروج لبدء معاملات تعادل شهادتي في وزارة المعارف كأول خطوة، ثم وزارة الصحة لمعرفة سبل التعيين، وبعدها دائرة التجنيد في وزارة الدفاع، كنت منشغل الذهن تماما بالوسيلة التي سأحصل بها على بضعة دنانير وانا اكاد اكون و(كعادتي على الحديدة) و في الوقت الذي تمر به شقيقتي وزوجها بأزمة مالية مضنكة.&
بادرتني أم رائد :
-لك عندي دين عليّ أن اوفيه.. لقد أتانا بعض من أرث وقف عائلي تم بيعه قبل اسابيع، وكانت حصة الوالدة فيه قرابة المائة وسبعون دينارا.. حصتك انت فيه تسعة وستون دينارا.. اعذرني يا أخي لن استطيع دفعها كلها لك مرة واحدة، سادفعها على اقساط.&
لو أني وجدت كنز علي بابا لما كانت فرحتي به مثل خبر هذا الصباح المشرق، فرحتي كانت مضاعفة، ساستطيع انجاز كافة المعاملات بهذا المبلغ وزيادة، والفرحة الاعظم احساسي بأن الوالدة الراحلة تتعقب خطواتي ومنذ الطفولة لتقف معي في أزماتي.&
.. اشرقت بغداد أكثر وانا أجوبها في فترات الانتظار بين معاملة واخرى وفي جيبي عشرة دنانير عداً ونقدا.&
محطة الانتظار الرائعة الاولى كانت فوق احجار مسناة (قشلة السراي).. ساعات اجلس في شمس الظهيرة، التي لا تزال ساخنة للجلوس تحتها فترة طويلة.&
.. يسالني موظف تركت معاملتي لديه، حين رآني مرات وانا في مكاني هذا..&
-ألا تحرقك شمس الظهيرة.&
- ابدا!.. انها تجفف عظامي التي تعفنت في سنين البرد والصقيع والظلام.&
أنظر الى دجلة بحنان ونشوة، اتابع زوارق صياديها والزوارق الاخرى التي تنقل افرادا من ضفة الى اخرى.. أتملى بيوت الشواكة، واعبرها الى الدهانة فالى جسر الشهداء فالجعيفر.. من بعيد تلوح بساتين العطيفية.. أطيل النظر في مسحيّ البصري هذا في بيتنا الذي سكناه ردحا.. الى جواره بيت الريس ويليه بيت المدلل.. هذا البيت الكبير لجارنا حسن السهيل.. وهذا بيت الخانجي ذو الشناشيل.. هل لا يزال ابراهيم وزهير صديقا طفولتي يعيشان فيهما؟&
امشي بخطوات حالمة، المسافة بين مدخل القشلة وسوق السراي.. عند مدخله تعبق رائحة الكبة.. التفت براسي شمالا فاجد دكان كبة السراي قد توسع.. أطلب واحدة فيضعها في صحن معدني ويفعسها باصابعه.. يفوح عطرها وبخارها اكثر.. كل مطاعم اوربا لم تقدم لي وجبة شهية كهذه.&
.. اقف عند كل دكان كتب.. اجد بعضها قد زادت قرطاسيته على ما كانت عليه وأخذت مكان الكتب العتيقة فوق الرفوف.. إلا مكتبة الفلفلي هي هي و هو هو.. لم يتغير كثيرا إلا بوخط الشيب في فوديه.. " اريد استعارة سيرة عنترة بن شداد! " يسأل ابن الثانية عشر.. " " عشرة فلوس عن كل جزء، وتدفع خمسين فلسا كتأمين ".. استلم الجزء الاول الضخم من كفه السمينة قصيرة الاصابع وهو ينحني بجسمه المدورفوق عارضة مدخل الدكان.. اعود بعد أيام، فاستلم الثاني، فالثالث حتى تكتمل السيرة بمجلداتها الاثنتي عشرة..&
.. " اريد سيرة ابو زيد الهلالي! " يطلب الصغير مجددا، وتنتهي السيرة الثانية، لتعقبها(مغامرات روكامبول).. وتأتي مجلدات صفراء اخرى.. واخرى..&
.. تأتي نتيجة امتحاني ببكالوريا الابتدائية (إكمال في اللغة الانكليزية).&
.. يُنقل مكان الامتحان التكميلي الى كربلاء.. يهمس باذني المدرس حسين الجواهري، المشرف على قاعة الامتحان، وهويجتاز رحلتي" امسح هذه!".. " اكتب هذه! " انجحُ بصعوبة.&
أعبر من أمام مدخل جسر الشهداء الى مدخل (سوق المغايز).. حسون ابو الجبن على يميني، لم يتبدل كثيرا غير بعض الشيب الذي غزا شعره..&
.. نرفع حسون ابو الجبن على اكتافنا امام البرلمان بعد أن استولى عليه الحماس واخذته الحميه فترك دكانه لينضم الى حشود المتظاهرين الصاخبة عام 52.. نطلب منه ان يهتف فينا.. لحظة تفكير قصيرة ويعلو صوته في الآلاف من ورائه وامامه " نوري السعيد.. كـ.. أّخْته ".. يفكر مليا ويهتف مرة اخرى " الحكومة.. كـ.. عراضهم " ويعلو تصفيقنا الضاج ونحن نهزه فوق اكتافنا.&
.. اسلّـم عليه واشتري منه نصف كيلو من الجبن.&
في السوق الموازي لسوق المغايز.. تتكاثر النعال الجلدية البدوية والحضرية المعلقة بزخرفها الجميل والوانها اللامعة.. اسوار المستنصرية على يميني.. اترك دخول المدرسة بالف عامها وصفوفها واروقتها الى يوم آخر، كي اجوب زواياها كلها.. الِسبحْ المعلقة بالوانها الباهرة في دكاكين أخرى.. أجتازها الى دكاكين الروّافين.. انعطف يسارا..&
.. ادخل سوق بائعي الاقمشة.. أجد جلال، صديقي وزميلي في ثانوية الاعظمية، يمسك طولاً من القماش وحوله عدد من بائعي الاقمشة وهو يصيح بصوت عال " خمسة دنانير!".. باشارة من احد الملتفين حوله يكرر " ستة دنانير! "، وباشارة من آخر.. " سبعة دنانير!".. يلتفت ببصره اليهم واحدا واحدا مستفسرا ويكرر " سبعة دنانير!.. ما كو زايد؟! ".. يعقّـبها بـ "شايف خير! ".. يسلم طول القماش الى المشتري.. ويمسك بواحد آخر..&
" يبدو أن صاحبي لم يفلح في دراسته، أخذ مهنة ابيه، دلّال اقمشة.. اين ذلك الشاب الوسيم جدا الرشيق المرهف الحس، من هذا الرجل الضخم متهدل الكرش بادي التعب ".. يلمحني بين الواقفين.. يترك طول القماش الذي بيده ويصرخ والبسمة تشرق على وجهه :
-ويّ ميّت هلهْ.. يا ميّت مرحبهْ.. يحتضنني ويسحبني من يدي الى دكان كبير خلفه.. نجلس قرابة نصف الساعة ومع اقداح الشاي، يروي تفاصيل السنين الفائتة..&
.. حين لم يفلح مرتين في بكالوريا الاعدادية، توسط وبرشوة كبيرة للتخلص من الخدمة العسكرية.. تزوج من ابنة خالته وله الآن خمسة اطفال..&
- يعني ماشي الحال.. اكدح بالنهار والريع جيد،واسكر في الليل بالبيت بين ضجيج الاطفال حولي ومزات أم قاسم –زوجتي – اللذيذة.. قانع بل وراضٍ ايضا بقسمتي.. الحمد لله على النعمة.&
اتركه كي لا اقطع عليه رزقه، على أن نلتقي ليلة حددها هو، في كازينو الخضراء على شواطيء ابي نؤاس.&
.. ادخل سوق الشورجه واجتازها الى سوق الشموع، المنتصبة والمعلقة بالوانها واطوالها المتفاوتة.. تصل اليّ عطور التوابل النفاذة.. لا اروع من هذه الالوان العديدة تصطف بمربعات خشبية متدرجة من الارض والى علوغير قليل تسحرك بتنوعها الذي رُتب وفق ذوق رسام تعبيري-تجريدي مبدع.. اقف هنا وهناك امام دكاكينها.. اجتازها لاصل الى زقاق سوق الغزل.. تحت سورمنارته المتسامقة، لا يزال بائعي الديكة الضخمة والحمام المتنوع، يقفون كل يحمل ديكه او يضع امامه اقفاص حمائمه.. هنا وقبل سنين كنت آتي وجاري خالد (مطيرجي) محلة الحارة، ليتفحص انواع الحمام الجديد في السوق، ليبادل او يشتري.. هذه حمامة محجّلة، وهذه النادرة القلّابة وتلك البيضاء المرقّشة.&
اشهد هنا اليوم صراعاً للديكة..&
.. يلتف جمع كبير حول شخصين، احدهما يحمل ديكاً هراتياً بفخذين مشدودي العضل وعنق اجرد ورأس اقرع وعينان محمرتان تقدحان غضبا وتحفزا.. الآخر يحمل ديكا كشميريا ضخما اسود تتبارق الوان عنقه الزاهية ويعلو رأسه تاج عرف كبير قاني الاحمرار..&
.. يتقدم شخص ضخم بشاربين مهدلين من بين دائرة الملتفين حول ساحة الصراع الصغيرة ويستلم نقود المتراهنين.. يعطي الاشارة بعدها فيترك صاحب الهراتي، والاخر الكشميري ديكيهما على الارض.. تتعالى اصوات المراهنين والمشجعين حتى يضج الزقاق كله بصراخهم.. ينتهي الصراع الشرس بسقوط الديك الاسود تحت مخالب ومنقار الهراتي المعقوف.. يفلح اخيرا في التخلص من مخالب غريمه ليهرب منكسا راسه صوب صاحبه الذي علا الخزي والحزن وجهه، مدمدما لاعنا يومه الاسود.&
&في يوم آخر أخرج من مديرية المعارف في السراي والمعاملة لا تزال تأخذ مجراها الروتيني الطبيعي.. اتمهل في تجوالي بين مكتبات شارع المتنبي بدءا بمكتبة النهضة وانتهاءاً بدكان حميد ياسين، اخو صديقي رشيد ياسين، للخط ورسم الوجوه.. يمسح عويناته الثخينة وهو يحدثني عن عمله الكاسد ومصاعب اهله الذين اعرفهم جميعا حقّ المعرفة.. اغادره لاحتسي (استكان) نومي بصره في مقهى البرلمان.. لايزال (شفتالو)بقامته القميئة يدور باقداح الماء وقد هرم وشاب رأسه.. اجلس في مقهى حسن عجمي واستعيد ذكريات الطفولة حين يصطحبني الجواهري عند الفجر قاطعين المسافة من الجعيفرالى المقهى مشيا.. الاصح هو يمشي وانا الحق به راكضا بين الحين والاخر.. هنا كان مجلسي قرب حسن عجمي والببغاوات يسرحن على اكتافه وذراعه، يقشرن بمناقيرهن حبوب البطيخ والقرع، ويرددن بين الحين والآخر " سلام عليكم.. سلام عليكم ".. " كبة يا الله.. كبة يا الله ".. بعد ان اشرب قدحا من شربت الزبيب قرب المقهى من دكان (زبالة) الشهير مع (صمونة) حارة اواصل تجوالي حتى اصل الى مرسى (الابلام) عند الشاطيء الرملي امام المستشفى الملكي (الجمهوري الآن).. اصعد الى قارب واعبر دجلة مع بقية ركابه،.. انظر الى بيتنا القديم الذي تسبح مسناته وشرفته في مياه دجلة.. يعتصر الشوق والحزن فؤادي.. حين انزل عند شريعة القوارب اسأل عن مصطاف، بلّام الجواهري.. لا يعرفه اي من النوتية الجدد.&
اسأل في مقهى الجعيفر الصغير المواجه لزقاق بيتنا السابق، عن عبودي ابن الفحام وافرح بأن اعرف أنه لايزال يقيم في المنطقة، وهذه ساعة ارتياده المقهى..&
.. عبود الصبي الشهم الجسور رفيقي في مناوشات الليل ضد شلات صبيان الحارات المجاورة.. رفيق عراك المقاليع في الفضائات المتربة في الرحمانية والتكارته.&
.. دخل عبود المقهى وخاب ضني حين وجدته مترهلا مهلهل الملبس.. يمزح معه بعض رواد المقهى بشكل سمج ساخر..&
&لم يتذكر (الافندي) الذي امامه إلا بعد احتضاني له بحرارة وأنا اردد " انا صديقك القديم فلاح.. أنا.. "&
سالته الكثير، واجاب بالسرد المفصل.&
&جارتنا (غنية الخبازة) تزوجت شيخ عشيرة صغيرة من الفرات الاوسط.. .. هجرمصطاف البلام، الذي يحبها حبا يعرفه كل اهل الحي، شريعة القوارب في الجعيفر، بل هجر كل شرائع بغداد ليعود هضيم الفؤاد الى مدينته الاولى سامراء&
.. زنوبة العانس المتصابية المخشلة باساور وقلائد الذهب، التي كانت تتعامل بالربى (المريح) والتي يحبها اهل المنطقة كلهم، ذبحها محمد الحمامجي (أتذكر الوجه المعفر بسخام مواقد الحمام) خلال اصطحابها لزيارة مرقد الحسين.. استولى على صيغتها وطمرها في احد بساتين طويريج.. اكتشفت الجثة وشنق الحمامجي.. عادل معلم الرياضة الاشقر قُـتل بطعنات الخنجر بعد أن تحرش جنسيا بأحد تلامذة الحارة.. قاسم ابن الموسقوفية (خباز الجعيفر) سجين سياسي في سجن بغداد المركزي.. فتاح اصبح عام ثلاثة وستين من قادة (الحرس القومي) آذى الكثيرين من شباب الحي.. اختفي بعد انقلاب عبد السلام عارف على البعث بعد هروبه نصف عار امام مطارديه ممن آذاهم، تاركا وراءه على الارض سلاحه وبزته.. لايعرف احد مكانه حتى اليوم.&
أعانقه واغادر المقهى واتوجه الى مدرستي.. الكرخ الابتدائية.. استأذن وادخل ادارتها.. عزت الخوجه مديرها العتيد توفي الى رحمة الله.. أسأل عن معلمي واستاذي الحبيب الشاعر المبدع خضر الطائي.&
كان فرحي كبيرا حين اخبرني المدير الجديد بأنه بخير، وقد انتقل الى ملاك التدريس الثانوي.. آخر ثانوية درّس فيها هي الشرقية وهو على وشك التقاعد، وان بإمكاني أن أجده في مقهى الزهاوي فهو من روادها..&
لم يكن الجواهري وحده من اشعل فيّ فتيل التولع بالشعر والشعراء والادب عموما، بل كان لخضر الطائي، معلمي في ابتدائية الكرخ اليد الطولى..&
.. لم أكن أناالوحيد ممن اذكى فيهم هذه الشعلة، فقد كان هنالك زميلاي في السنتين الرابعة والخامسة الابتدائي سليم المعروف (المذيع المخضرم) و الشاعر المتواضع الرقيق عبد المنعم الزبيدي (دكتوراه الادب المقارن من جامعة اوكسفورد واستاذها في كلية الاداب في جامعة البصرة).&
.. يدخل خضر الطائي الصف بقامة منتصبة مترفّعة وسدارته فوق رأسه وتحت ابطه ديوان شعر، فتخمد الاصوات فجأة.. البعض ينظر اليه بخشية، خصوصا من صفعته الرنانة بيده العضباء.. نحن الثلاثة ننظر اليه بمحبة واعجاب وترقب.. يضع سدارته والكتاب على الطاولة الصغيرة امامه ويبدء الدرس حالا.&
.. للشعر (للمحفوظات) المقام الاول..&
.. يبدء منعم اولى محاولاته في النظم.. يأتي الينا أنا وسليم صباحا قبل رنة الجرس، ويقف بنا جانبا ليطلعنا وكأنه يكشف سرا، وبما يشبه الهمس يطلب منا أن نرى ما خطه على الورق في بيته في الليلة الفائتة.. (استمرت هذه السرّانية او قريبتها، حتى حين طبع في الخمسينات مجموعتيه الشعريتين الغزليتين الصغيرتين، دون محاولة منه للاعلان عنها في الصحف ولو من قبيل التنويه فقط.. استمر تواضعه المفرط وتستره الشعري حتى نهايته وهو في ريعان شبابه، فقد قُضي عليه مع زوجته وابنه في حادث اصطدام في الطريق الى تركيا.. حمّ قضاءهم قبل قضاء اجازتهم)..&
.. نمّى الطائي فينا هذا التولع عبر القصائد التي كان يطبع منها نسخا ثلاث ويسلمها لنا لنحفظها ولنلقيها في اليوم التالي أمام التلاميذ في الصف او أمام المدرسة كلها في اصطفاف الصباح وعلى الاخص قبل رفع العلم يوم الخميس.&
.. اسماء شعراء جدد، علينا ان نبحث عنهم في مكتبة المدرسة او حتى في المكتبة العامة في باب المعظم.&
.. كنا نثير استغراب امين المكتبة هناك حين يقف احدنا او نقف الثلاثة امامه ليساعدنا في ايجاد ديوان هذا الشاعر او ذاك.. ينظر الينا بدهشة وبابتسامة حنان وتشجيع.. اطفال صغار يبحثون عن شاعر في مكتبة الكبار قليلة الرواد.&
يأتينا الطائي بمسرحيات شعرية للحفظ ويشرح ابياتها ويسألنا رأينا في جمالياتها وكانا ندّ يناقش الندّ.. لقد وصل الامر به في التشجيع والتسامح لارفض يوما ابدال كلمة باخرى اقترحها ليجعل الفداء والاستشهادعراقيا في أحد أبيات شاعر سوري، في مسرحية عن فداء الوطن ضد جيوش الاحتلال..&
طلب مني ذلك، قبل أن اخذ دوري مع سليم ومنعم في تمثيل المشهد شعرا امام وقفة اصطفاف الخميس فاعترضت..&
.. اقول، وانا الجريح الطريح في ساحة المدرسة، لحبيبتي (ولم تكن الحبيبة إلا منعم الزبيدي) :
ليلايَ ما انـا حـيٌ ٌ.. يُرجى ولا انا ميتُ
لم اقضِ حقَّ بلادي وها أنا قد قُضيتُ&
اقترح معلمي وشاعري الذي احبه واحترمه التغيير التالي :
بغداد ما انا حيٌّ &يُـرجى ولا أنا ميتُ
فاجبته :
-استاذ لا يجوز ابدال كلمة ليلاي بكلمة بغداد، فهذا يتجاوز على الامانة الشعرية..&
.. نظر اليّ بابتسامة حلوة فيها معزّة وحنان ابوي&
-مثلما تريد يا فلاح فقولك فيه الصدق.&
.. نعتلي سطح (الكَـاري) معه ونجلس على مصاطب العربة التي يجرها حصانان، في طريقنا الى مدرسة الكاظمية.. في الهواء الطلق وتحت قبة السماء والعربة تختض بنا، يطلب أن نقرأ امامه (كبروفه) ما سوف نلقيه امام طلاب المدرسة التي تستضيفنا من قصائد ومسرحيات شعرية..&
.. بين الحين والآخر نكرر الجولات معه، مدرسة الشواكة، الاعظمية، الشرقية.. الاستاذ الطائي يعرض قدرات تلاميذه الثلاثة.&
.. ادخل مقهى الزهاوي وابحث ببصري عنه، اجده جالسا على تخت في آخر صالة المقهى والى جواره من الجانبين، وامامه على التخت المقابل، رجال في مختلف الاعمار.. اقترب من الجالسين فاجدهم يناقشون صفحات متناثرة على المائدة امامهم.&
.. اقترب اكثر واقف وراء تخت الجالسين امامه.. اتملاه بصمت وخشوع وهو يلتفت متحدثا مع من بجواره او آخر امامه.. انتظر حتى يرفع راسه ويراني.. ينظر الي لحظة ويهز راسه بصمت ويبتسم..&
-استاذ تتذكرني؟.. اقولها مبتسما&
-ليش أكو واحد ينسه فلاح!
يطلب مني الانضمام الى المتراصّين جواره وامامه على التختين.. اعتذر عن إشغالهم.. يلتفت أحد الجالسين من حوله ويخبرني بأنهم يعدون تفاصيل الاحتفال بخروجه الى التقاعد
يسالني عن دولاب الزمن معي خلال مايقرب من العشرين عاما الماضية.. اجيب باختصار كي لا اقطع مناقشة الاحتفال بشاعرنا المبدع.. خضر الطائي.&
أنحني احتراما واغادر.&
يزداد عشقي لبغداد يوما بعد يوم، وعلى الاخص مع تقدم معاملات التعادل، ووجود بعض من هدية الوالدة الراحلة النقدية في جيوبي.. اجوب اطرافها القريبة والبعيدة.. اشرب القهوة المعطرة في البرازيلية.. أتناول ومحمود قدحا من النبيذ في(شريف وحداد).. اشاهد عروضا مسرحية جديدة.. الحركة المسرحية تتصاعد وتتطور بعودة العديد من الممثلين والمخرجين من بعثاتهم الدراسية خارج الوطن.. اقضي امسيات جميلة في حدائق جمعية الفنانين.. أشاهد افلاما – وانا عاشق كبير للفن السينمائي – فمن شاشة روكسي، الى ركس، فغرناطة.. بل حتى الى سينما الرشيد لاسترجع مكانة فلاش غوردن في الطفولة البعيدة.. احضر عرض (راشمون) في (قاعة السينما والمسرح).. الصالة مكتضة بحشد مثقفي بغداد من الجنسين.&
.. في مقهى روكسي و (مقهى المعقدين)أكون طرفا في نقاشات حرة متعددة المواضيع.. نتحدث بحرية حتى في مجالات السياسة..&
.. اخرج من هناك مع مسعود في احدى الليالي ويعرض عليّ (سيجارة كيفْ) فندخنها ونحن نفترش رملة شاطيء ابي نؤاس الندية..&
.. أنا شهريار، اجلس على فراش من زئبق وبجانبي شهرزاد.. يغني النهر وهو يقترب بامواجه حولنا دون ان يصيبنا البلل وترقص الاضواء رقصأ شرقيا ، حيناً يغني بصوت زرياب واخر بصوت الموصلي عالي النبرة.. ينتقل النهر بصوته الاجش الى مقام حويزاوي لحسن خيوكة، ثم تأتيني ردّة يوسف عمر " ياكَـهوتك عزاوي بيها المدلل زعلان ".. اخيرا يبكي النهر بصوت سليمة مراد " هذا مو انصاف منك ".. ننهض لنعود الى بيتينا.. الارض تهتز تحت اقدامي الجبارة.. غداً ساذهب الى وزارة الصحة وآخذ بتلابيب الوزير إن اقتضى الامر، واضع أمامه أمر تعييني فيطأطأ راسه بقناعة فرضت عليه ويوقعها شبه صاغر..&
.. في زقاق مظلم قرب دارنا اشعر بدوارمفاجيء وأتقيأ بشدة.&
ينتهي أمر تعادل الشهادة، فاتوجه الى وزارة الدفاع لاسجل اسمي على قائمة الدورة العشرين في كلية ضباط الاحتياط.. اضع اوراقي امام الرائد يوسف بطي مسؤول الخدمة العسكرية الالزامية.. ينظر في شهادة التخرج وتأريخها ويعلق "ها.. من موسكو! ".. يأخذ ختما ويطرقه على ملف الاوراق.. (متخلف)..&
-لكن سيادة العقيد لم يمض على عودتي الى الوطن إلا بضعة اسابيع.. ودورة ضباط الاحتياط لم تبدأ بعد.. ستبدأ بعد اسبوع.&
-ابني اكَـلك متخلف.. ما تعرف تقْـرَ الختم، يعني تلتحق بالدورة التالية بعد ستة اشهر.&
اخرج ولم أعر الامر اهتماما كبيرا.. لإني لا اعرف ماهي عواقب (المتخلف)، إلا في المفهوم الطبي (التخلف الذهني)..&
لا ادع هذا الامر يفسد علي نشوتي.&
.. اقصد وزارة الصحة في أمر التعيين.. الكل من الموظفين الصغار والاعلى قليلا يخبرني أن التعيين غير ممكن قبل اكمال الخدمة العسكرية.. أطلب مقابلة مدير الخدمات الطبية العام عبد الله الخضير..&
.. يعود سكرتير مكتبه، بعد عرض اوراقي عليه في غرفة ملاصقة..&
-موعدك مع المدير العام غدا في الساعة العاشرة. يخبرني السكرتير.&
في الدار يخبرني عيسى، زوج شقيقتي، بأن عبد الله الخضير من المقربين الى الرئيس عبد السلام.. أتوجس صعوبات تقف أمامي.. تخفت نشوتي قليلا وانا اضع حسابات مختلفة نصب عينيّ.&
ادخل مكتبه في الموعد المحدد.&
.. رجل طويل ممتليء، وجهه يميل الى السمرة بعينين بهما جحوظ قليل لا يمحو ومضة الابتسامة فيهما او تلك التي فوق شفتيه.&
-تفضل دكتور! ويشير بيده الى مقعد قريب.. " بداية خير يارب!"&
-شاي ام قهوة؟.. " الامور تتطور للاحسن بسرعة "&
-اشكركم فوقتكم ضيق ومشاغلكم كثيرة.&
يضغط أحد الازرار أمامه ويوصي بفنجان قهوة.. " أي والله والخير يبدو قادما "
-كيف حال الوالد؟ انا من عشاق شعره.. " مفاجئة اخرى "
- بخير والحمد لله.&
- لقد تفحصت اوراقك.. ليس من المنطق ان يبقى طبيب دون عمل ستة اشهر في انتظار دوره في الخدمة العسكرية ونحن بأمس الحاجة الى أطباء.. صمتَ لحظة.. قلب جداول امامه ثم واصل حديثه..&
- لا يمكنني تعيينك في المستشفى الجمهوري في بغداد فهي للعشرة الاوائل من خريجي كلية الطب، ولكني اعرض عليك أحد مكانين مستشفى الموصل التعليمي، وهو ما اجده جيدا وخصوصا وانه قاعدة تعليمية لكلية طب الموصل، والثاني هو مستشفى البصره الجمهوري وهو مستشفى عريق باكثر من الف سرير وباخصائيين معروفين وببرنامج تدريب متميز للاطباء الدوريين حديثي التخرج..&
انتظرَ جوابي لحظات، راجعت بذهني " الموصل وحكاية محاولة انقلاب الشواف وقتلاها، والمجازر التي تلتها، وانا خريج موسكو وابن الجواهري ".. دار كل ذلك ببالي في لحظة قصيرة فاجبته
-ساكون شاكرا لو تم تعيني في مستشفى البصرة الجمهوري.&
هز راسه بما يشبه خيبة الامل.. ابتسم وقال
-سيكون الامر جاهزا خلال يومين او ثلاثة بعد أن يوقعه وزير الصحة.&
يتحرك القطار.. تبدء بعد قليل خضرة بساتين (الدورة) المتلامعة في ضوء الشمس الغاربة.. اسرح في اعماقها بجذل وانا اشاهدها تعبرني من وراء نافذة مقصورة عربة النوم الفخمة.. تمتد الحقول العامرة الفسيحة بعدها، ثم القرى ومدنا صغيرة.&
.. " لقد قوبلت بأهلاً وسهلاً عند قدومي، بعد ساعتين فقط من انتظار مهذب.. لم يطرق مختار المحلة الباب عند الفجر، ومعاون الشرطة يقف الى جانبه، وبانتظارنا (البوكس) في الشارع امام المدخل.. لم يتعقبني شبح احدهم لا في المنطقة ولا في تجوالي الواسع في ارجاء بغداد، ولم اترصد ظلا له بين الحاضرين في المقاهي والبارات.. بغداد تعيش أمنها والناس فيها بكل الوانهم يتوقعون غدا افضل.. "
" أين مظاهر " عبد حربٍ " المخيفة فيها.. اين بعبع " عدو السلام " الذي يفزعونا بظهوره، مثلما كانت تفزعنا جداتنا به وبغيره من العفاريت كي نهمد وننام.. "&
". بين مقربي الرئيس من يعشق الجواهري ولعله يردد قصيدته " يا عبد حرب و.. "، ناظرا اليها عبر شكلها الفني وخيالاتها الشعرية.. "
&
يا لعجب الكون الدوار.. بعد اشهرلا غير من التعيين، أكون أنا والدكتور نعمان السامرائي قد أخذنا قيافتنا الطبية عند الفجرفي انتظار سيارتّي الاسعاف التي ستقلنا الى (النشوة)، قرب القرنة ، لرفع جثمان الرئيس عبد السلام بعد اكتشاف مكان مروحيته المحطمة، وذلك بعد أن تلقينا أمراً تليفونيا من رئيس الصحة شاكر توفيق السكافي.&
.. قبل انطلاقنا بدقائق يتبدل الامر ليقوم المستشفى العسكري في البصرة بهذه المهمة.. (سآتي على هذا الامر بتفصيل اكبر في حلقة قادمة).&
.. يا للعالم الصغير العجيب.. بعد عدة أعوام، وفي مطلع الثمانينات تكون زوجتي (إلهام) هي من تقوم باجراء عملية قيصرية لابنة الرئيس الراحل السيدة وفاء ، في مستشفى الحلة..&
تأتي إبنته عام ثمانية وثمانين الى عيادتي في المنصور ومعها زوجها العسكري المتقاعد في استشارة طبية.. تتكرر الزيارة ويعوداللقاء الحلو معهما مرات ومرات خارج نطاق المجال الطبي.&
لم ينشر الجواهري قصيدة " يا عبد حربٍ.. " بعدها في اي من مجلدات اشعاره و لم يلقها في اي محفل.&
&
التعليقات