&وعيٌ على ذكرياتي (10)
لم يكن في وداعي في مطار شيرميتيفا غير (لودا) الباكية
.. اقبلها من عينيها الدامعتين..&
- بالطبع ياحبيبتي ساستدعيك الى السودان.. بالطبع، بل ستكونين مساعدتي في علاج المرضى هناك في عمق الادغال.. بالطبع ستكونين برفقتي ونحن نجوب مجاهل افريقيا حيث الاسود والنمور والفيلة، وحيث رقص افراد القبيلة نصف العراة الترحيبي حولنا.. - كونيجنا - بالطبع، - مايا مالينكايا- يا صغيرتي- بالطبع.. بالطبع - كونيجنا !!
حطت الطائرة في براغ وهي المحطة الاولى في الرحلة الطويلة المزمعة.&
في المساء كنا جميعا - جواهريو براغ (الجواهري وأم نجاح ونجاح وظلال وانا) نجلس حول مائدة الشاي التوديعية، فأم نجاح قد قررت العودة الى العراق وبصحبتها اختنا الاصغر ظلال.. الجواهري منشرح يمازح الجميع ويشتكي من وحشة البيت ووحدته الآتية.. أم نجاح تنظر اليه بعينين ساخرتين وكأنها تقول " لن تطول وحدتك فالحبيبة جاهزة لتطرق الباب بعد ساعات من مغادرتنا "..&
- تعال معنا الى العراق يا فلاح ودعك من مغامرة السودان.&
- ياليت والف يا ليت ولكن ! انتما امرأتان وبعيدتان كل البعد عن اي نشاط سياسي لن تُحسبان على الجواهري.. أما انا فصوفتي موسكوفية حمراء..&
في صباح اليوم التالي غادرتا عائدتين الى العراق.&
لم أبق إلا ايام معدودات، كان الجواهري لا يغادر البيت الا في المساء فهو في انتظار رنة الهاتف او جرس الباب التي طال غيابهما.&
لا صدى هاتفٍ يرنّ & &ولا الجرسُ مُعـلِـنا
ننحدر سوية عند الغروب مشيا من تلال (بتجيني) حيث شقتنا اللطيفة صوب (سلافنسكي دوم) -البيت السلافي، وهي مسافة تقرب من خمسة كيلومترات.. يجلس هناك في مكانه المفضل وسط زحمة رواد البار القديم ويجيل البصر في وجوه حسان براغ المنتشيات وراء اقداح البيرة الكثيرة المرصوفة على الموائد الطويلة.. يمازح نادلات البار بأزيائهن الجديدة (الميني جوب).. يرصد كل زاوية من المكان وحين تتسع الابتسامة على وجهه اعرف انه قد راى وجها متميز الجمال.. ادير وجهي صوب ذلك المكان فاتأكد انني لم أكن مخطئا.. يعدل من جلسته ويضع كفه على طاقيته الكردية ويحني رأسه انحناءة خفيفة محييا ذلك الوجه الصبوح.. تُرد التحية بابتسامة جذلة.. يستدير مزهواً بعد ان يعدّل من طاقيته ليواجهني..&
- اذاً وجهتك السودان دكتورنا.. لم السودان تحديدا ؟
- الحاجة هناك أمس من غيره لطبيب، والبلد يمر بتجربة جديدة اريد أن أشهدها.. وربما من هناك بعد عام اوعامين الى عمق افريقيا حيث الحاجة أمس .&
في الليلة السابقة لمغادرتي وبعد عشاء احتفالي اعده الوالد من سمك الكابري، سلمني الجواهري ثلاث رسائل بإسم (لجنة الدفاع عن الشعب العراقي) التي يرأسها والتي كانت تلفظ انفاسها الاخيرة..&
وصلت الى القاهرة في المساء ودلني سائق التاكسي الى بنسيون صغير في شارع محمد علي وسط القاهرة.. على طاولة عشاء البنسيون تجاذبنا الحديث انا ومعلمة عراقية شابة قدمت كسائحة في اجازتها الصيفية.. بضع عبارات وبدأت تشكو لي من الوحدة القاسية في العاصمة المثيرة.. دعتني الى جولة في الغد بين اهرامات الجيزة.. ابديت موافقتي.&
كنت استرخي على احد المقاعد في بلكونة غرفتي.. شاهدتها على شرفة غرفتها & تقف في رداء منزلي فضفاض.. لوّحت لي بيدها، فلوّحت.. أشارت بكفها اشارة لم افهم مغزاها او تعمدت عدم فهمها.. دخلتْ الى غرفتها وانارت ضوئها.. بعد دقائق سمعت طرقا خفيفا على الباب.. خادم البنسيون الكهل يحمل بيده رسالة بمظروف صغير.. " أدعوك الى فنجان قهوة في غرفتي .. هناء ".. طلبت من الخادم الانتظار.. تحت سطور الرسالة اعربت عن شكري واعتذاري عن الدعوة لاني منهك اثر السفر الطويل وسأخلد الى النوم، وكتبت في النهاية "في الغد ملتقانا لجولة الاهرامات " .. منحت الخادم عشرة قروش وأعدت اليه الرسالة لايصالها.&
.. في الصباح الباكر وقبل ان يصحو الآخرون كنت قد غادرت البنسيون دون افطار.&
.. حين وصلت الى شقة محمد المشرفة على ساحة التحرير.. لامني كثيرا لضياع فرصة الليلة الماضية.&
يحتل نائل -صديق الصبا- الغرفة الثانية من الشقة..&
بدأت جولاتنا انا ومحمد في الاماسي بعد ان يعود من عمله الصحفي التدريبي في مؤسسة اخبار اليوم.. نرتاد بعض مقاهي القاهرة القديمة.. نتنزه على رصيف شارع النيل المطل على النهر الوسيع وبايدينا كيس (الترمس) او (كوز) الذرة المشوية او قدح من شراب عرق سوس.. نسترجع ذكريات موسكو.. نخطط لمشاريع قاهرية.. نبحر في احلام مستقبلية.&
عند اول يوم لوصولي الى العمارة، يستقبلني عم عبدو البواب بـ" اهلا يا باشا".. بعد أيام من تكرار جلب طلبات الفول والطعمية الى الشقة، بدلا من الكباب والفراخ اصبح يستقبلني اثناء دخولي بـ" اهلا يا بيه ".. حين لم اتعد الخمسة قروش كبقشيش لجلبه عشاء الفول التقليدي اصبح استقباله لدخولي باب العمارة " اهلا يا افندم ".. ايام تمضي ويتشاغل عم عبدو بعدها عني عند دخولي بترتيب كرسيه او النظر بحثا عن شيء يفتقده في زوايا المدخل. .&
حين تكون لمحمد خفارات ليلية في الجريدة يكون نائل في غرفته بصحبة احدى (الشراميط) اللواتي يدلهن عم عبدو على الشقة بعمولة من الطرفين.. احيانا حين لا يكون منغمسا في الجنس او ثملا في بار قريب، يأتي بقدحه ويجلس الى جانبي في البلكونة المشتركة ليسترجع الذكريات عن ايامنا في مدرسة الغربية المتوسطة او زياراتي له في دارهم في الوزيرية..&
نائل من عائلة بغدادية موسرة معروفة.. والده احد اكبر رجالات التعليم في الثلاثينات والاربعينات ومن اقدرهم.. اديب معروف وله صداقة متينة بالجواهري.. نائل ابنه الوحيد.&
اشتركنا كثيرا بروايات الجيب في بداية المتوسطة، بـ(أرسين لوبين) وشرلوك هولمز و روايات اجاثا كريستي ولويس ستيفنسون واسكندر دوماس الابن ومغامرات روكامبول وبالطبع عنترة وزيد الهلالي.. اختلفنا في الثانوية فـ(كفاحي) كان كتابه المقدس وكل قراءاته حينها لا تتعدى ما يتعلق بسيرة هتلر، وحين كان يحدثني عن بطولات القائد الحديدي يحمر وجهه من الحماس في ترديده قول هتلر ".. واني سارسل الى الحديد والنار بخيرة شباب المانيا في سبيل مجد المانيا وعظمة الرايخ الثالث ".. انا كنت في تلك الفترة غارقا بين صفحات (الأم) و(طفولتي) لمكسيم غوركي وسراب نجيب محفوظ وجسر على نهر درينا ..&
حين التقيته في موسكو في مطلع الستينات قادما للدراسات العليا في المحاماة مع زوجته الجميلة ابنة جارهم في الوزيرية، كان قد انتقل الى مرحلة جديدة.. الإندفاع الثوري للماركسية اللينينية الحماسية.. لم يمض وقت طويل حتى كان قد انتقل الى مبدأ جديد آخر ابحر فيه، وغرق في بحر ايمانه واصبح احد مبشريه الصادقين الورعين : " الجنس!.. الجنس هو الحياة .. الجنس هو الاصل والغاية "&
.. طرد من المعهد الذي يدرس فيه لقصوره الدراسي، بعد ان قام هو قبلها بطرد زوجته واعادتها لاهلها في بغداد.. قدم الى القاهرة مقنعا اباه انه سيكمل دكتوراه في مصر.. حين عرض عليّ ساقه في القاهرة بورمته الصمغية الضخمة كان مبدأه الجديد قد وصل به الى اعلى مراحل الايمان المعتنق.. الى الدرجة &النيرفانية العليا.. السفلسية الثالثة.&
.. يحضر والده لزيارته فاجلس معه على شرفة الشقة.. يشكي لي همه المرير.. " لقد انهكنا انا والمسكينة امه نفسيا وماليا.. ارسل له شهريا ستين جنيها، اي ما يعادل اربعة اضعاف راتب الطبيب المصري المتخرج حديثا وهو يستدين فوق ذلك من الآخرين.. لابد وانه استدان منك ايضا.. يا لفرحة الجواهري بك يا ولدي، ها انت تشق دربك الواعي في الحياة ".. لم اطلعه انني اضطررت فعلا الى الاستغناء عن بضعة من جنيهاتي المعدودة بعد توسله، وكنت احوج ما اكون اليها في رحلتي الى السودان.&
التقيت في مقهى ريش بعبد الوهاب البياتي بعد غيبة تزيد على سنتين .. اتصل بأم على فأعدت لنا الكوسا المحشية على الطريقة المصرية.. كانت شقتة في منطقة (الدقي) متواضعة جدأ.. اخذنا نلتقي في مقهى ريش كل يوم تقريبا.. لم يكن لأبي علي وظيفة رسمية او غير رسمية معينة.. كان ضجراً الى ابعد الحدود واصبح مفرطا في التدخين.. بعد ان نقضي ساعة او ساعتين في المقهى العريق، نجد مطعما مناسبا باسعاره وبه طاولات معدودة على الرصيف نتناول غدائنا - الرز بمرقة الخضار (من غير لحمة) وهذا ارخص بكثير.. من البيت الذي يسكنه ومن المطاعم التي يرتادها امكنني ان اعرف ان البياتي لم يكن في بحبوحة من العيش في القاهرة.. &"لكنها مستورة والحمد لله ".. مرتين ذهبنا الى السينما وكان هو من يختار الفلم وبعد الخروج من دار السينما يعلق على التمثيل والاخراج وموضوع الفلم.. آخر فلم معه كان مليون سنة قبل الميلاد لراكيل ويلش.. " وهكذا يناضل الانسان ليزرع حياته من جديد بعد اي كارثة او دمار " كان تعليقه بعد المشاهدة.. احتضنته وقبلته قبل ان اغادره بعد منتصف الليل فقد كانت تلك آخر ليلة لي في القاهرة قبل أن اواصل رحلتي الى السودان.&
.. كان موعد المقابلة معخالد محي الدينهو الثانية بعد الظهر من يوم غد وكان محمد قد رتبّ الموعد من خلال عمله في دار اخبار اليوم.. سألته :
- كيف تراه انت وما الذي يقوله فيه الآخرون من زملائك في دار اخبار اليوم.&
- الجميع يقول عنه وانا اولهم.. " خالد ! دي آخر حلاوة "..&
.. إذاً ساقابل احد الاربعة الأوائل من الضباط الاحرار، رفاق عبد الناصر، احد اولئك الذين غيروا مصير الامة العربية كلها.. (الصاغ الاحمر) كما يدعوه عبد الناصر.. اليساري الديمقراطي الذي طالب عبد الناصر وقادة الثورة العسكريين عام 54 بالعودة الى ثكناتهم لافساح المجال لانتخابات ديمقراطية نزيهة لكي يقول الشعب المصري كلمته دون وصاية من الجيش.. كان هذا اول الخلاف مع عبد الناصر ورفاقه.. ابتعد عن المعترك السياسي لفترة ثم عاد كأحد مؤسسي حركة السلم العالمي في مصر.. دخل معترك الصحافة ليصدر اول جريدة مسائية، ثم ليتولى بعدها ادارة دار اخبار اليوم، اكبر مؤسسة اعلامية في مصر.&
.. قبل الموعد بدقائق كنت امام استعلامات الدار في فسحة المدخل الوسيعة.. قدّمت نفسي و اخبرتهم عن موعدي معه.. رفعوا سماعة التلفون ثم تحدثوا بعبارتين.. هبّ واحد من موظفي الاستعلامات ليرافقني.. صعدنا السلالم العريضة امام المدخل .. & " ما شكل هذا الرجل المهم ؟!.. فاتني أن اسأل محمد عن ذلك.. هل هو بملابس عسكرية مزينة بالنجوم والنياشين ؟!.. هل ساستعد امامه ؟! ارفعُ يدي امامه بتحية عسكرية ؟!.. لا تكن سخيفا يا هذا ! وهل انت ضابط او مجند !.. هل أجده ببدلة رسمية كحلية ورباط عنق ضخم متجهم الوجه مطرقا ينظر في كومة من البيانات واشرطة التلغرافات من حوله.. احييه فلا يجيب ثم سيشير برأسه ان اضع الرسالة وانصرف ؟!.. هل سيدعني انتظر في مكتب السكرتارية وبعد ساعة او اكثر ستخبرني مسؤولة المكتب أن اسلمها الرسالة وانصرف.. "
فتح موظف الاستعلامات بابا كبيرا من الساج الى جانبه لوحة نحاسية خط عليها (مكتب الادارة).. غرفة واسعة يجلس بضعة افراد على الكراسي الكثيرة المرصوفة على اليمين واليسار " اذاً هذه غرفة الانتظار.. هنا ساجلس.. ".. استمر الموظف المرافق ففتح بابا آخر على غرفة فسيحة تجلس بها سيدة انيقة جميلة وراء مكتب كبير بعدد من الهواتف فوقه.. نهضتْ مرحبة فاحنيت رأسي بتحية جوابية.. ادارت أكرة الباب غير البعيد عن مكتبها وفتحته ووقفت جانبا لادخل وبابتسامة حلوة & & " تفضل يا افندم "..&
.. كانت الغرفة وسيعة جدا باثاث فاخر.. وراء مكتب ضخم من الماهكوني يجلس رجل في العقد الخامس من عمره بقميص ابيض بياقة مفتوحة.. المسافة بيني وبين المكتب الذي اتجه اليه غير قليلة.. تقدمت (بشجاعة) وانا حائر كيف وما هي التحية التي سالقيها على الرجل الهام.. وقبل ان اصل الى نصف المسافة سمعت صوته العميق من وراء المكتب " أهلا بابن الكَـواهري.. اهلاً بابن الشاعر الكبير.. " اضطربت اكثر فقد ضاعت مني التحية التي كنت قد توصلت اليها.. مد كفه الضخمة لاصافحه وتوضحت ابتسامته الترحيبية اكثر.. لم يرفع نفسه او يميل تجاهي اثناء المصافحة.. اشار اليّ للجلوس على مقعد مجاور للمكتب.. جلست وحين ادار بوجهه صوبي قال مرحبا بتحفظ " اهلا أهلا ".. استطعت ان اقولها اخيرا واجيب بصوت واضح غير مضطرب " لي الشرف الكبير ان التقي بسيادتكم "
- بتشرب إيه ؟ ومد يده وضغط على احد الازرار ففتح الباب على الفور عن رجل ضخم، يبدو من هيئته أنه حارس شخصي، ووقف قرب المدخل منتظرا الاشارة.&
- بتشربهاعالريحةْ ولّه سكّر زيادة ؟ سألني خالد محي الدين بابتسامة خفيفة.&
ادرت راسي صوب الرجل الضخم عندالباب وخاطبته " على الريحة لوسمحت "
- وازاي الوالد ؟، كنا التقينا من زمن قريب في مؤتمر للسلام.&
- بخير ويبعث اليكم بتحايا حارة ورسالة احملها لسيادتكم.. اخرجت الرسالة من محفظة اوراق صغيرة .. وقفت وقدمتها اليه.&
بعد أن اكمل قراءة الرسالة ادار وجهه صوبي وقال&
- نحن - وانا بالذات قبل غيري كما يعلم الجواهري - نحرص على قضية الشعب العراقي قبل حكوماته.. بلّغه سلامي، ثم واصل، انت طبيب حديث التخرج كما تقول الرسالة.. هل تنوي البقاء هنا في مصر؟، علي ان اُعلمك ان راتب الطبيب المتدرب في مستشفى القصر العيني لا يتجاوز الخمسة عشر جنيها.&
- اشكر سيادتكم وكلي فخر ان اخدم في بلدي مصر، لقد كنت طالبا هنا في حلوان في مطلع الخمسينات وما احب تلك الايام اليّ، لكني متوجه الى البلد الشقيق السودان.. اكرر شكري.&
احسست ان المقابلة اتت على نهايتها فاستأذنت للمغادرة.. حين وصلت الى باب الغرفة وقبل ان اغادر استدرت وانحنيت محيياً.. اجاب التحية بابتسامة.&
&
التعليقات