&
في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر-تشرين الأول 1976، انطفأت روح أندريه مالرو الذي كان من أشهر الكتاب في عصره. ولو سؤل وهو على فراش الموت:”أية حياة كان عليك أن تختار؟" لأجاب كما أجاب ديتريش برجر، الشخصية الرئيسية في روايته:”غرقى ألتنبورغ" التي استوحى موضوعها من نضاله في المقاومة الفرنسية ضد الإحتلال النازي:”لو كان عليّ أن أختار حياة أخرى لاخترت حياتي". وحتى النهاية، عاش أندريه مالرو حياته كغامرة مثيرة، حريصا على أن يكون في قلب الأحداث الكبيرة التي وَسَمت عصره المتقلب والمضطرب. وهو ما عبّر عنه في عام 1972 حيث قال:”ما كان يميّزنا عن معلمينا عندما كنّا في العشرين هو حضور التاريخ. بالنسبة لهم لم يحدث أيّ شيء. أما بالنسبة لنا، فقد سقط بيننا قتلى منذ البداية. نحن جيل اخترق التاريخُ حَقْلَه مثل دبابة".
وقد ولد أندريه مالرو في حيّ "مونبارناس" بباريس في مطلع القرن العشرين، وتحديدا في الثالث من شهرنوفمبر-تشرين الأول 1901. ويقال أن أصوله تعود إلى منطقة"الفلاندر" الواقعة شمال بلجيكا، إلاّ أن عائلته استقرت في دانكارك على بحر المانش، شمال فرنسا منذ عهود طويلة. وكان مالرو شديد التكتم بشأن طفولته. وكان يقول:”كل الكتاب تقريبا يعشقون طفولتهم، أمّا أنا فأمقتها مقتا شديدا". لكن في أعماله، نحن نعثر على ملامح البعض من أفراد عائلته. فعن جده الذي توفي عام 1909 وهو في الثامنة والستين من عمره، كتب يقول:” هذا الجد هو جدي...كان صاحب سفن. من شخصيته استوحيت بعض ملامح جدّ بطل روايتي:”الطريق الملكي"، مركزا بالخصوص على موته، موت الفيكينغ العجوز. ورغم أنّ هذا الجد كان كثير الفخر بشهادة البراملي(صنع البراميل) التي نالها، أكثر من ما هو فخور بسفنه التي كانت قد غرقت جميعها تقريبا في البحار، فإنه كان شديد الحرص على الإحتفاظ بعادات فترة شبابه، وبفأس ذي حدين، فتح جؤجؤ آخر سفنه متقيّدا بعادات البحّارة في ذلك الوقت". أما الأب فقد كان رجلا وسيما، محبّا للحياة، عشقا للنساء حتى أنه لم يتردّد في الإنفصال عن زوجته "بارت"، والدة أندريه ليلاحق امرأة أ خرى.
تربّى أندريه مالرو بين النساء:أمه وعماته. كلّ أسبوع كان يزور أباه مرفوقا بأمه غالب الأحيان. وكانت هناك متاعب ماديّة، إلاّ أن البقّالة التي فتحتها الأم في نفس الشارع الذي تسكن فيه، أبعدت شبح الفقر المدقع عن العائلة الصغيرة. وفي حوار أجراه مع الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك، روى أندريه مالرو أنه تلقى تربية دينية صارمة قادته وهو على أبواب المراهقة إلى نوع من التصوف، إلاّ أنه سرعان ما تخلى عن ذلك بعد أن قرأ نيتشه :”أكيد أن هناك عقيدة...عقيدة يقترحها على الناس كلّ صلبان القرية، وحتى تلك الصلبان التي تقف على رؤوس موتانا. لكن أنا أرفضها رفضا قاطعا، ولن أسمح لنفسي بالإنحناء لكي أطلب منها السكينة التي يلوّح بها إليّ ضعفي".
منذ البداية أحبّ أندريه مالرو الكتب، ملتهما منهاكل ما كان يقع بين يديه. بل أنه عشق أيضا بيعها ومبادلتها مع الآخرين، والبحث عنها في مخازن المكتبات القديمة. وبصحبة أخيه كان يقف لساعتين أو أكثر من ذلك، على ضفاف"السين"، أو على رصيف بولفار"سان-ميشال" ليبيع بعض الكتب التي يساعده ثمنها على الذهاب إلى السينما، أو إلى المسرح.
ثم لم تلبث السماء أن تلبدت بالسحب، فاندلعت الحروب واشتعلت الثورات. ولعلّ الولادة الحقيقية لأندريه مالرو كما سيعترف هو نفسه بذلك في ما بعد، تحقّقت في تلك الفترة التي كانت فيها الدماء تلطخ أرض أوروبا، وكان الناس يموتون بأعداد وفيرة، وكان ملايين المشوهين والمصابين بمختلف العاهات يجوبون شوارع المدن في فصول الشتاء القاسية بحثا عن مأوى، وعن ما يسدّ الرّمق. ومن المؤكد أن الأحداث التي هزّت العالم بأسره في سنوات الحرب الكونية الأولى هي التي كان لها تأثير حاسم على أندريه مالرو، وعلى تفكيره الفلسفي، وتوجهاته الأدبيّة. وتحت تأثير الحركة الدادائية التي أطلقها تريستان تزارا عندما كان هو في التاسعة عشرة من عمره، كتب أولى نصوصه التي يختلط فيها العجائبي بالغرائبي:”نحن لا نقدر أن نقول لك إلى أيّ حدّ كنّا مغتبطين عندما أقيم الجحيم. القلق والحزن والميلانخولوخيا، وكلّ ما كنّا نعاني منه في السماء، بلغ درجة حدّ أننا بدأنا نهزل. غير أن المتعة التي تذوقناها في العيش في الجحيم كانت لبعض الوقت لامتناهية".
عند بلوغه سن العشرين، أصدر أندريه مالرو كتابه الأول، وكان بعنوان:”أقمار من الورق". وفي هذا الكتاب بدا متأثرا إلى حد كبير ببيار ريفاردي، وماكس جاكوب. وعن التأثيرات الأدبية التي فعلت فيه في تلك الفترة، هو يقول:”في العشرين من عمرنا، كان هناك في نفس الوقت تأثير جمالي علينا-التأثير الأكبر كان لأبولينير الذي استطاع ماكس جاكوب أن يواصل ما كان قد بدأه- وتأثيرات أخرى مختلفة، أهمها تأثير نيتشه الذي كان عملاقا بالنسبة إلينا. لافورغ، ولوترايامون، كان لهما تأثير علينا أيضا. وعندما التقيت بأندريه بروتون أول مرة، قرأ عليّ كتاب ترستان كوربيير:”الحب الأصفر".إلاّ أن الكتب والأحلام لم تكن كافية لإرضاء التوق إلى المغامرة الذي كان يلهب الشاب الذي كان قد ترك الدراسة قبل الحصول على شهادة الباكلوريا. وفي ما بعد سيقول:”قبل بلوغي سن السادسة عشرة، كنت أريد أن أكون كاتبا كبيرا غير أنني كنت مقتنعا أنا وأصدقائي أن الكاتب الكبير مثل الرسام الكبير لا بدّ أن يكون ملعونا. أي لا بدّ أن يجوع ويتعذب على طريقة الشعراء الرمزيين، وشارل بودلير. في آمالي، كان الشعور بالتمرد ينتصر انتصارا كاسحا على الرغبة في الشهرة". وبينما كان أندريه مالرو يخطط لدور مستقبلي بلائم طموحاته ومواهبه وتوقه للمغامرة، طلعت عليه فتاة يهودية تدعى كلارا غولدشيمدت التي روت لقاءها الأول به على النحو التالي:”شاب جالس بين ثلاثين شخصا حول مائدة. هذا الشاب سيكون لسنوات طويلة أهم من كلّ الكائنات الأخرى بالنسبة لي. من أجله أهملت كل شيء". مع هذه الفتاة القصير الجذابة،جميلة العينين، حادة الذكاء، سافر أندريه بروتون إلى الهند الصينية(فيتنام وكامبوديا اليوم) التي كانت في ذلك الوقت تحت الهيمنة الفرنسية. وكان العشيقان ينويان الإستيلاء على تماثيل من معبد"بانتاي-سراي" في كمبوديا. غير أن السلطة الإستعمارية ألقت عليهما القبض فأودع أندريه مالرو السجن، أما كلارا فقد عادت إلى باريس لتقوم بحملة واسعة في أوسط المثقفين والفنانين بهدف إطلاق سراحه. وقد استجاب لدعوتها كتب كبار بينهم أندريه جيد، وفرانسوا مورياك، وأندريه بروتون. وفي الزنزانة، لمس مالرو الجانب اللإنساني للإستعمار الفرنسي والغربي، وعاين ظروف القهر والإذلال التي تعيشها الشعوب المستعمَرَة. ورغم عذاب السجن، ظلّ محافظا على رباطة جأشه، بل لعله وجد في تلك التجربة المريرة متعة لا تضاهيها متعة إذ أنها جعلته يتأكد من أن توقه للمغامرة لم يكن مجرد وهم، بل حقيقة لا تقبل الشك. وعندما أطلق سراحه، عاد إلى باريس بعد ثلاثة أعوام من الغياب، لينظم حملة واسعة لمساندة كفاح شعوب الهند الصينية، مصدرا صحيفة:”الهند الصينية المغلولة".
وفي عام 1925، سافر أندريه مالرو مرة أخرى إلى المنطقة المذكورة، برفقة كلارا، إلاّ أن مرضا ألم به هناك، أجبره على العودة إلى باريس ليصدر كتابا بعنوان:”إغواء الغرب". وهو عن عالممين يعيشان مواجهة مستمرة، وأيضا عن تأملات في عبثية الحياة في أوروبا، وعن موت القيم، وانحلال العقيدة، واختفاء الله فيها:” لكي يحطم الله، بعد أن كان قد حطمه، أعدم الفكر الأوروبي كلّ ما يمكن أن يتعارض مع الإنسان: عند وصوله إلى نهاية جهوده تماما مثل"رانسي" أمام جسد حبيبته، هو لم يجد إلاّ الموت. وبصورته التي أصيبت أخيرا، هو يكشف أنه لم يعد بإمكانه أن يتحمس إليها".
بعد مرور عامين على صدور هذا الكتاب، أصدر أندريه مالرو روايته الأولى:”الغزاة". موضوع الرواية مستوحى من الثورة الصينيّة. في مقاطعة كانتون عام 1925، أي في الفترة التي قرّر فيها الوطنيّون الصينيّون إلحاق الضرر بالقوات العسكريّة البريطانية، وبالموالين لها. وخلافا للأسطورة، يبدو أن مالرو لم يساهم في تلك الثورة إذ أنه كان آنذاك في سايغون. مع ذلك تمكن من أن يصيغ أحداثها بدقّة، وأن يحيط بملابساتها إحاطة رائعة. شخصيات رواية"الغزاة" مختلفة، بل أنها متصادمة في ما بينها. فهناك الإرهابيون الذين يجسدهم هونغ. وهناك المناهضون للعنف مثل تشانغ داي. أما المجموعة الثالثة فتتكون من ثوريين محترفين مثل بارودين، في حين تتكون المجموعة الأخيرة من التقنقراطيين الذين يضعون مشاكلهم الشخصيّة جانبا ليهتموا بتنفيذ الأوامر القادمة من موسكو. وهؤلاء يمثلهم غارين. لكن رغم الخلافات القائمة بين هذه المجموعات، فإنها تلتقي في النهاية على المستوى الميتافيزيقي، أمام ما يسميه مالرو بالقدر. كما تلتقي أمام الموت وعبثيّة الحياة، ومرارة الوحدة. وقد أحرزت الرواية على نجاح هائل.إلاّ أنها منعت في روسيا البلشفية، وفي إيطاليا الفاشية. ومع أنه أبى الإنتساب إلى الحزب الشيوعي، فإن مالرو أصبح بفضل "الغزاة" الناطق الرسمي باسم:”اليسار الجديد". وعو هذه الرواية، كتب الناقد ايمانويل بارل يقول:”أعتبر رواية"الغزاة" حدثا أدبيا بالغ الأهمية في التاريخ الأخلاقي لهذا العصر. وأنا أندهش كثيرا لأن هناك من لم يستسغها، وأن هناك من ناقشوا فيها قضايا جمالية حيث لا جمالية على الإطلاق. أمّا بالنسبة لي أنا، فإنّ غارين يمثل أنموذجا جديد للإنسان. وجوده وحده يحلّ الكثير من المشاكل، ويزيح العديد من الصعوبات، ويخلق أخرى في نفس الوقت. إن البورجوازيين الذين بهرهم فن مالرو سيفهمون غدا، إن لم يكونوا قد فهموا اليوم، الخطر الذي يضعه أمامهم هذا الكاتب ، وسوف يتوقفون عن البحث في الكتاب عن معلومات عن الصين، وعن أحداث، وعن سايكولوجيا".
في نفس هذه الفترة،أصدر مالرو كتابا آخر سمّاه:”المملكة الغريبة"، وفيه تخلى تماما عن الثمات التي استهوته في "الغزاة" ليعود إلى تلك الغرائبية التي طبعت كتاباته الأولى، أيام كان مأخوذا بالحركة الدادئية، وبماكس جاكوب بالخصوص. عن هذا الكتاب، يقول جان لاكوتير، كاتب سيرة مالرو:”علينا ألاّ نهمل عند مالرو البعد الغرائبي،وحدّة التشاؤم الذي تبرزه الإحتفالات والمواكب المقامة في ظلّ الموت. إن "المملكة الغريبة" هو كتاب التكشير، واللاوجود،والقدر، وكل ما يتعذّر إصلاحه”. بعد صدور هذه الكتب التي خولت لصاحبها كسب مكانة بارزة في الوسط الثقافي الفرنسي، دخل أندريه مالرو دار"غاليمار" المرموقة من بابها الواسع ليعمل فيها مديرا فنيا. ولم يمنعه عمله هناك من القيام برحلات إلى إيران، والهند، وأفغانستان، والولايات المتحدة الأمريكية، والصين. وفي عام 1930، أصدر مالرو روايته الثانية، وكانت بعنوان:” الطريق الملكي". وقد استوحى موضوعها من تلك المغامرة التي قام بها بصحبة كلارا للإستحواذ على بعض التماثيل البوذيّة. وتنتهي الرواية بالإخفاق كما هو الحال في المغامرة، إذ يموت بركين، البطل الرئيسي. وفي هذه الرواية، ابتعد مالرو عن المشاكل السياسية والإجتماعية التي شغلته في الغزاة، والتي ستشغله في ما بعد في أعمال أخرى، ليهتم بموضوعين أساسيين:الموت والمنفى:”أنت لا تعرف ما هو القدر المحدد، المتعذّر دحضه،الذي يهوي عليك كما يهوي قرار الحكم على السجين: اليقين بأنك ستكون ذلك وليس شيئا آخر، وإن لم تتمكن من الحصول عليه، فإنك لن تحصل عليه هذه المرة".ويقول بركين:”ما يُثقل عليّ هو كيف أعبر عن مصيري كإنسان: إنني أشيخ، وهذا الشيء المرعب،أي الزمن، يتطور داخل جسدي مثل سرطان بطريقة يتعذّر إيقافها. الزمن هو هذا".
عند بلوغه سنّ الثلاثين، أحرز أندريه مالرو على جائزة"غونكور" لروايته:”الوضع الإنساني" التي صور فيها ما سماه ب"الفعل التدميري لتجسيد الحلم الثوري". أحداث الرواية تدور في الصين، وفي مدينة شانعهاي تحديدا، وذلك خلال الإنتفاضة التي قادها الحزب الشيوعي هناك عام 1927. إلاّ أن الرواية لم تكن لا وثيقة، ولا روبورتاجا عن هذه الإنتفاضة، بل كانت عملا فنيا متكاملا. ومقابل الأسئلة السياسية والإجتماعية ، طرح مالرو أسئلة ميتافيزيقية عبر الشخصيات الرئيسية من أمثال كيو وكاتا وكلابيك وفرال وجيزور. وجميع هذه الأسئلة تتصل بالموت، والحب، والوحدة، والفشل والضياع والدمار. وفي النهاية لا يبقى غير جهد الإنسان البطولي من أجل أن يمنح شكلا لتلك الأهداف التي تتجاوز قدرته وطاقاته، وتلك الأخوة التي تجسد شرفه أمام قسوة العالم و"لابالاة النجوم". عن هذه الرواية كتب رامون فارنانديز يقول:”لقد تمكن أندريه مالرو من أن يحوّل روايته إلى حدث أدبيّ هام في الأدب الفرنسي. هذا الأدب الذي يتأرجح بين التحليل والفعل كما بين قطبين متناقضين. وميزة أندريه مالرو أنه أصلح هذا الخطأ وذلك من خلال إبراز أن الفعل إذا ما اختير بشكل جيّد، وتمّ سياقه حتى بلوغ نهايته، فإنه يكون أروع كاشف للحقيقة الأخلاقية. منظورا إليها من الداخل، ربما تعتبر أعمال مالرو كما لو أنها تجديد للإرادة التراجيدية، أو بمنظار أدق كتقدير إراديّ للإرادة. بمعى آخر، الجدار التراجيدي، الجدار المرمري عند هذا الكاتب، لم يعد في الخارج، وإنما في داخل روح شخصيّاته. والنتيجة تكون مدهشة: إن بروموثيوس المحافظ على صفاء ذهنه لا يفقد شيئا من قوته، بل بالعكس، تتضاعف هذه القوة بفعل شكوكية خفيّة، لكنها عنيدة تتركها في حالتها الطبيعية. إن الإرادة عند مالرو تبدأ هناك حيث تنتهي عادة أي بعد تصفية الأوهام والمعتقدات".
في نفس عام المجد ذاك، فقد اندريه مالرو والدته، إلاّ أنه تخفى وراء قناع سميك من الصمت،ولم يذرف دمعة واحدة. وربما لكي يهرب من سواد الحداد، ومن الأضواء التي سلطت عليه، مضى إلى مغامرة جديدة أخذته إلى "اليمن السعيد" بحثا عن آثار الملكة بلقيس. وفي ما بعد قال للذين سألوه عن سبب مغامرته الجديدة تلك:”كلّما عدتّ من عمل محفوف بالمخاطر إلاّ وشعرت أنني إنسان كامل". وقد اختار اندريه مالرو السفر إلى اليمن في طائرة صغيرة يقودها طيّار مشهور في ذلك الوقت يدعى إدوار-كورلينيون مولينيي. و كانت بداية الرحلة في الثاني والعشرين من شهر فبراير-شاط 1934. وفي القاهرة توقفت الطائرة لفترة قصيرة لكي يحصل مالرو ومرافقه على خريطة بريطانية عن منطقة حضرموت، وعو جيبوتي. وخلال الإستراحة، زار صاحب"الطريق الملكي" متحف القاهرة الذي أبهره. كما أمضى سهرة مع مثقفين مصريين من الجيل الجديد، بينهم الشاعر السوريالي جورج حنين الذي تحدث لاحقا عن ذلك اللقاء قائلا:” على مدى ساعات طويلة، حدثنا مالرو عن القديس بولص.ولأننا كنّا قد قرأنا للتو"الوضع الإنساني"، فقد كنّا نتظر أن يحدثنا صاحبها عن أشياء أخرى معاصرة. وكان علينا أن نبذل كثيرا من الجهد لكي نفهم أخيرا أن المقصود بالقديس بولص هو ستالين!”. وقبل أن يغادرهم، سألوه عن ما يجب أن يقرؤوه في الحين، فأجابهم:”تاريخ الثورة الروسية لتروتسكي، وجريدة"البطة المغلولة".
استمرت الرحلة شهرأ كاملا.عند العودة التي تمت في 23 مارس-آذار من العام المذكور، كتب مالرو تحقيقا مطولا فيه وصف وقائع ما كان قد شاهده، ما كان قد أحسّ به في ما سمّاه ب"مملكة العجائب". كما وصف المصاعب التي تعرض لها ورفيقه الطيار بسبب العواصف الهوجاء التي كادت تسقط الطائرة الصغيرة في أكثر من مرة. وفي كتابه:”المذكرات المضادة" الذي أصدره عام 1967، عاد من جديد إلى تلك الرحلة ليتحدث عنها باستفاضة. ولم يتوقف أندريه مالرو عند حدود المغامرة الفرديّة، بل تخطّاها لكي يجد نفسه في قلب المعارك السياسية والفكرية التي تهمّ عصره. ولعل أول من حفّزه على السير في هذه الإتجاه هو برنار غروتياسن الذي كان يحتل موقعا مُهمّا في "المجلة الفرنسية الجديدة". وقد عرّف هذا الرجل الذي كان يتمتع بقدرة هائلة على التأثير في الآخرين، بكل من فرانز كافكا،وبالأدب الروسي، وبالفلسفة الألمانية. وكان من أفضل أصدقاء الناقد المرموق جان بولاّن. وربما هو الذي جرّ أندريه جيد إلى الشيوعية في مرحلة معينة. وقد ظلّ هذا الرجل العارف بالفلسفتين الألمانية والهولندية ، والذي كانت له طبائع سقراط، وحركات فلاح روسي من السهوب، لسنوات طويلة،"المعلم الروحي" لأندريه مالرو الذي تحدث عنه لجان لاكوتير قائلا:”بين كل الرجال الذين عرفتهم، كان غروتياسن الأكثر قدرة على فرض فكرة عبقرية المثقف. إلا أنه لم يهتم بما كان يكتب. إنه الحالة الوحيدة التي عرفتها، والتي تنطبق عليها بامتياز العبقرية الشفوية. لقد التقيت في حياتي العديد من المرات بالعديد من الثرثارين، لكني لم ألتق أبدا بواحد يشبهه، قادر أن يسحرك بالكلام. لقد التقيت به ذات مرة بصحبة هايدغر، وأشخاص غريبين آخرين، وكان يهيمن على الجميع بشكل واضح. إنه مزيج من سقراط ومن أفلاطون في نفس الوقت. لعله الرجل الذي فتنت به أكثر من غيره. الآخرون كانوا من حوله جُعْلانا تئزّ!”.
بتأثير من غروتايسن، انخرط أندريه مالرو في العمل السياسي من بابه الواسع بحميّة المغامر الذي لا يعرف حدودا للمغامرة. وها هو في برلين بصحبة أندريه جيد ليسلم غوبلس"شيطان" الداعية النازية، عرائض تطالب بإطلاق سراح المناضل الشيوعي تايلمان، المتهم ظلما بحرق"الرايشتاغ". في ذات الوقت يقف مدافعا عن ديميتروف ، ويصبح عضرا في اللجنة الرئاسية للجمعية العالمية المناهضة لمعادة السامية. ثم ها هو يعيّن رئيسا للجمعية الماهضة للحرب وللفاشية.مع ذلك لم تمنع النشاطات السياسية المكثفة أندريه مالرو من مواصلة الكتابة. ففي عام 1935، أصدر رواية أخرى حملت عنوان:”زمن الإحتقار"، وفها يروي قصة مناضل شيوعي الماني سجن ثم أطلق سراحه بفضل تضحية رفيق له:”في نظر كاسنار، كما في نظر العديد من المثقفين الشيوعيين، تعيد الشيوعية للفرد خصبه ونضارته.إنه من الصعب على الإنسان أن يكون إنسانا. لكن ليس ذلك أصعب من أن يكون الإنسان إنسانا من خلال تعميقه لمفهوم التضامن، أو لمفهوم الإختلاف مع الآخرين. إن لهذين المفهومين نفس القوة، بهما يكون الإنسان إنسانا، وبهما يتجاوز نفسه، ويبتكر، ويخلق، ويكتشف، ويدرك ذاته".
عند إندلاع الحرب الأهلية في شهر يوليو-تموز 1936، ترك مالرو الديمقراطيين والشيوعيين الفرنسيين يتخبطون في شعاب ترددهم، وانطلق إلى مدريد ليضع نفسه في خدمة الجمهورية الإسبانية المهدّدة بالإنهيار. وقبل أشهر من تأسيس "الألوية الحمراء"، وبينما كان ستالين لا يزال مترددا في اتخاذ قراره بشأن ما كان يحدث، قاد مالرو فربقة طيران(Espana )، وأصيب بجراح وهو يقاتل الكتائب الفاشية في العديد من المناطق. عن تلك الأيام النضالية، كتب الزعيم الإشتراكي الإيطالي بياترو نيني يقول:”كان فندق فلوريدا شبيها بقلعة بابل. هو يحتضن الطيارين الذين يقودهم مالرو، والصحافيين، وضيوف الشرف المدعوين من قبل الجمهورية الإسبانية، والمغامرين الذين لا يتخلفون عن حرب أو عن ثورة. وكان مالرو قد نظم الطيران بطريقة دقيقة ضمنت نتائج لا يستهان بها. وكان هزيلا، ووجهه الجميل يسطع بالذكاء والفطنة. وكان يبدو متحفزا كأي مناضل حقيقيّ، مؤمن إيمانا عميقا بالقضية التي يدافع عنها. وقبل أن تتكون "الألوية العالمية"، كان يشاهد كل يوم، عند الظهيرة، في بهو الفندق، حليق الوجه.إنه وقت الأخبار، والتعليقات. كل واحد يروي ما كان قد شاهده على الجبهة، وفي المدينة. كان هناك الروسيان إليا إهرنبورغ، وكولتزوف، والشيلي بابلو نيرودا، والأمريكي دوس باسوس، والشاعر الإسباني الكبير رافئيل ألبرتي. إنه الصالون الأدبي الأرقى في ذلك الوقت. وقد استمعت هناك إلى مناقشات مدهشة".
من تجربة الحرب الأهلية، استوحى مالرو موضوع روايته الشهيرة:”الأمل" التي أنهاها في أول اربيع عام 1937. وتبرز هذه الرواية كما لو أنها تأملات حول الحرب والشجاعة، وحول ما سمّاه هو ب"تنظيم الرؤيا" الذي سيمنح نجاعته للنضال، ويديم الأخوة من خلال التسجيل التاريخي لها. وكما يقول الناقد دانيال كازنيف فإن هذه الرواية هي قبل كل شيء"تاريخ تغيّر الحلم الذي عليه أن يواجهه الواقع، والذي يجب أن يتغير هو أيضا في نفس اللحظة لكي يظل فيها أمينا لنفسه".ويقول مالرو:”إن الثورة لاتمنح الرجال غير إمكانية كرامتهم، وواجب كل إنسان هوتحويل هذه الإمكانية إلى امتلاك".وفي هذه الرواية لمّح مالرو إلى بداية خلافه مع الشيوعية. وبإمكاننا أن نتبيّن ذلك من خلال الحوار التالي:
-قل لي يا آمر...ما رأيك في الشيوعيين؟
-صديقي جرنيكو يقول: إنهم يمتلكون كلّ فضائل الفعل. وهذه فقط لا غير".
بعد فقرات من هذا الحوار، يكتب مالرو:”في بداية الحرب، كان الكتائبيون النزهاء يموتون، ويهتفون:فلتحيا اسبانيا! في ما بعد أصبحوا يهتفون:فلتحيا الكتائب! ألا تعتقد أن الطيارين الشيوعيين الذين أنت تقودهم ، والذين كانوا يهتفون بالأمس وهم يموتون:فلتيحا البروليتاريا!، أو:فلتحيا الشيوعية! يمكن أن يأتي
يوم، ويهتفون هم أيضا في نفس الظروف:فليحيا الحزب!
في ربيع عام 1937، سافر مالرو إلى الولايات المتحدة الأمريكية مدعوا من جامعات أمريكية كبيرة. وقد استغل تلك الفرصة للقيام بندوات عدة دفاعا عن الجمهورية الإسبانية. وفي محاضرة ألقاها في نيويورك في 13 مارس-آذار من العام المذكور، قال مالرو:”ما الذي تقدمه الفاشية؟ تمجيد الفروقات الأساسية، الثابتة، المتعذّر القضاء عليها مثل الجنس والأمة وغيرها. إن الفاشية في طبيعتها، ثابتة وتخصيصيّة. الديمقراطية والشيوعية يختلفان بشأن ديكتاتورية البروليتاريا، لكنهما تتفقان اتفاقا كاملا بشأن القيم العامة. إن هدفنا ليس الإحتفاظ بقيم ثابتة وخاصة، أو ابتكارها من جديد، وإنما هو يطمح إلى إلغاء الفوارق على المستوى الإنساني بأكمله".
عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، ولجوء الجنرال ديغول إلى لندن، انضم مالرو إلى حركة المقاومة الفرنسية، إلاّ أنه سرعان ما تمّ القبض عليه، وذلك عام 1940. بعد أشهر أمضاها في المعتقل، تمكن مالرو من الفرار ليلتحق بزوجته الثانية جوزيت كلوتيس التي كانت تقيم في بيت صغير على الساحل اللازودري. وهناك شرع في كتابة روايته:"صراع مع الملاك". كما ألف كتابا عن سيرة لاورنس العرب الذي كان إحدى شخصياته المفضلة. وفي عام 1944، عقب إيقاف أخيه رولان، التحق مالرو ثانية بحركة المقاومة ليتم القبض عليه مرة أخرى وهو جريح. ولم تطلق السلطات النازية سراحه إلاّ في نهايات الحرب الكونية.
وفي عام 1945، التقى مالرو بالجنرال ديغول للمرة الأولى. وكان هذا القاء بداية لعلاقة متينة وعميقة بين العملاقين، عملاق السياسة وعملاق الأدب. وفي الحكومتين اللتين ترأسهما الجنرال ديغول، شغل مالرو، منصب وزير الإعلام، ثم منصب وزير الثقافة. وخلال الموكب المهيب الذي انتظم في التاسع عشر من شهر ديسمبر-كانون الأول 1964، بمناسبة وضع رماد جان مولان، قائد المقاومة الفرنسية الذي قتله جيش الإحتلال النازي، في "البانطويون" حيث يرقد عظماء فرنسا، ألقى أندريه مالرو خطابا أمام الجنرال ديغول، مجد فيه بطولة المقاومة، وقيم الحرية، مُشيدا بشجاعة جان مولان الذي ضحى بحياته لكي يعيد لفرنسا إشعاعها العالمي. وخلال عقد الستينات، انشغل بالفن، وأسس العديد من المتاحف، وألف كتابه الشهير"المتحف المتخيّل" مظهرا معرفة واسعة وعميقة بالفنون القديمة والحديثة. كما نظم العديد من المعارض الفنية، وساهم في حملات أطلقتها منظمة اليونسكو لإنقاذ الكنوز الفنية في مختلف مناطق العالم. وخلال الحرب التحريرية الجزائرية، أدان التعذيب، وندّد بمرتكبيه. وقد أتاح له منصبه السياسي الرفيع مقابلة شخصيات عالمية كبيرة مثل الرئيس الأمريكي جون كينيدي، والزعيم الهندي نهرو، والرئيس المصري جمال عبد الناصر، والزعيم الصيني ماتسي تونغ. وفي"المذكرات المضادة"، روى تفاصيل تلك اللقاءات، راسما بورتريهات بديعة للشخصيّات المذكورة، ومستعرضا بأسلوب بديع محطات من حياته، ومن أسفاره ومن معاركه ونضالاته من أجل الحرية والعدالة. وبعد مرور عشرين عاما على وفاته، نقل جثمانه إلى"البانطيون"في احتفال كبير حضره الرئيس جاك شيراك، وكبار الشخصيات السياسية، والفكرية والأدبية.