&
يوجد في العراق الكثير من الرسامين المعنيين بالرسم الواقعي, الا ان بعضهم اكتسب تميزه ليس من خلال تحقيق المشابهة وترديد النسخ الاصلية كما هي, بل لانهم اشتغلوا بمنطقة (الداخلي) واكساب اللوحة سمات عاطفية خاصة, فطبيعة العراق ومحيطه وبيئته يسمح بذلك, اذ انها تحفل بالتنوع الطبوغرافي, حيت وجود الجبال والانهار وتنوع من الاراضي الخصيبة والصحراوية والوهاد والاهوار والتلال والجبال, وكان سابقا يطلق على العراق اسم (ميزوبوتيميا) اي بلاد بين النهرين ويطلق عليه, ارض السواد لكثرة مزروعاته, ويطلق عليه ايضا بلاد الهلال الخصيب, هذه البلاد التي مجدها التاريخ وتأسس على اديمها الكثير من الحضارات الام التي صاغت للبشرية اجمل حليها.
نحن هنا لا ندرس خصائص المناهج الواقعية في فن الرسم, بقدر تعلق الامر بدراستنا لتجارب الفنان العراقي (المقيم في اميركا) احمد الكرخي, هذا الفنان الذي ولد وترعرع في مدينة المحمودية وكرس جل اهتماماته لرسم معالم الحياة في مدينته, وهذا جزء من رد الدين والوفاء, وكما يعرف الجميع بأن مدينة المحمودية تقع في خاصرة العراق ويحف بها نهر دجلة العظيم وقد تشيدت عليها, ومنذ تاريخ الحضارات البابلية المبكرة اهم الصروح المعمارية الخالدة, وهذه المدينة ترقد على مواقع اثارية على درجة عالية من الاهمية, كما ان ابنائها تميزوا بالطيبة وكرم النفس والشجاعة والصبر, واحمد الكرخي كان يرسم معالم هذه المدينة ومناظرها الخلابة ويرسم ايضا حياة الناس وهم يزاولون نشاطهم اليومي بمنتهى الحب والتهذيب والرقي, فكيف لنا فض افواه المعاني, واستخراج الكلمات وجعلها جملا مفيدة مستوفية للغرض المطلوب؟
قلنا قبل قليل: بأن ثمة نوع من الرسم الواقعي المحمول بالعاطفة وهذا الكلام ينطبق على الفنان احمد الكرخي, والسبب يكمن في كون الفنان, يرسم بروحه وجوارحه وقبل لحظة البدء بالرسم كان يجري حوارا سريا بينه وبين كل مواد التنفيذ لا سيما مع السطح الابيض للوحة, واضعا ضمن حساباته الكيفيات التي سيتم انجاز لوحة فنية مؤهلة وناجحة من جميع جوانبها التخطيطية والتلوينية وصناعة الشكل وضخ اعلى قدر من الطاقة التعبيرية الخلاقة.
ان الرسم الواقعي يعني, ذلك الرسم الذي يقبل التصديق من جميع جوانبه مثل دراسة المنظور الفني, البعيد والقريب, ودراسة الاضواء وانعكاساتها ومن ثم ايلاء اهمية لجميع التفاصيل المتداخلة في بنية اللوحة, هذا من حيث النظرة الاولى, وينبغي على الفنان ايجاد صيغة مناسبة لوضع التصميم وتشييده على الاسس السليمة التي تقبلها بصيرة المتلقي على نحو متوازن, وبهذه الحالة فأن اللوحة تكون ناجحة اذا تم التسليم بهذه الاسس الفنية ولكن للرسم سحره الاخر, الذي يتيح التعبير عن الداخلي واستقراء الجوهر الى جانب ما ذكرناه من دراسة قيم المظهر أو التعبير عن الملمح من الخارج فكيف يكون ذلك؟
منذ عبد القادر الرسام (اول رسام عراقي معاصر) ومحمد صالح زكي مرورا بفائق حسن وحافظ الدروبي وخالد الجادر واسماعيل الشيخلي ومحمد مهر الدين وصولا الى صلاح جياد ونعمان هادي وفيصل لعيبي وكان اغلب الرسامين يجسدون صورا من معالم الاثرية والحضرية العراقية ورسموا الكثير من ملامح الحياة في البيئة العراقية مثل: الحرفيون والصناع والعادات والتقاليد وسوى ذلك, وكان ضمن مقتنيات المتحف البغدادي العشرات من اللوحات الفنية العراقية المرسومة بمنتهى العناية والتي تروي سفر الحياة العراقية في ماضيها التليد وحاضرها المفعم بالامل, وكان الفنان عبد الامير علوان (الذي اشتهر بالرسم المائي) يرسم ملامح مدن بغداد وكربلاء (مسقط رأسه) وقد اجاد وكرس جهوده من اجل استظهار المعاني الداخلية في رسومات المناظر الطبيعية, واعتقد بأن الفنان احمد الكرخي كان متأثرا بالفنان عبد الامير علوان, وقد استعار طرائق ترديده لصور الواقع العراقي, ولكن في هذه المرة اخذ احمد الكرخي على عاتقه مهمة التفتيش في ذاكرته ورسم ملامح مدينة المحمودية, واريافها الزاهرة وقصباتها الحافلة بالحياة, والمحمودية مدينة النخيل والاشجار لأنها خصيبة وثرية بأبنائها و أحمد الكرخي يشتغل بتقنيات لونية تطبع &اللوحة بطابع عتيق يوحي بالقدم, وعندما يرسم اكداس السعف والبيوت والازقة والشناشيل والسواقي فأنه يحاول استقصاء المشهد بعيون متطلعة وطموحة وروح مفعمة بالحيوية, لا لشيء الا لأنه منهمك في تجسيد ممتلكاته الحسية وذاكرته الشخصية, وبهذه الحالة فأن طابع الصدق مع الذات هو الذي يحدد مساراته ويفضي الى عالمه وحريته.
وفي بعض الاحيان نجد الفنان أحمد الكرخي يرسم بطريقة تزاوج بين الاتجاهين التعبيري والواقعي وذلك في محاولة منه لرسم لوحات تجريدية نوعا ما, ولكن هذه الطريقة بالاشتغال الفني مختلفة عن منهجه الواقعي, الا انها تحضى بوجود بعض الوحدات الصورية والعلامات والمفردات المؤكدة على رؤية متبصرة للعالم والمحيط, وفي هذه الحالة فأن ممكنات الرسم على هذا النحو ستؤدي الى اعادة ابتكار شخصيته, وستسمح له بالتطرق للمواضيع الخطرة وخاصة مواضيع الحرب في العراق وما اسفر عنه من تاريخ كامل للخسائر, ولعل الفنان لا يستطيع تجاهل مراتع امله ونشيده ومواطن محبته الاولى, وكل شبر في مدينة المحمودية له فيها ذاكرة يحسب لها الف حساب فأن رسم ملامح واقعية, واذا رسم صورا تجريدية فالامر سيان ومتطابقان, والمغزى يكمن في دراسة الجدوى وفتح افاق التجربة على مصراعيها من أجل البوح بالكلمة الحرة المعبرة عن وضوح الرؤية المسوغة بالموقف الفلسفي من الحياة والزمن المغادر على عجل مثل خيول مذعورة, ان ملغزات الرسم تعني التحري الدقيق بين مفردات الحياة والمحاولة لتأديدها بمنتهى الصدق والحرية.
& & & &