&
هذه وثيقة هامّة عثرت عليها في أرشيفي الخاص .وهي تتمثل في حوار بين مفكرين كبيرين من القرن العشرين،أعني بذلك الفرنسي ادغار موران والفرنسي الآخر من اصل يوناني،كورنيليوس كاستورياديس الذي توفي في باريس يوم 26 ديسمبر-كانون الأول 1997.وقد حمل هذا الحوار العنوان التالي:”بين الفراغ الغربي والأسطورة العربية".وهو منشور في صحيفة لوموند الفرنسيّة في عددها الصادر يوم 19 مارس-آذار 1991،أي بعد وقت قليل من طرد جيوش التحالف بقيادة الولايات المتحدة الامريكية للجيش العراقي من الكويت.وأعتقد أن هذه الوثيقة لا تزال تحتفظ بدقتها في وصف الواقع الراهن، وملامستها لخفاياه /وكشفها لتضاريسه وملابساته.
&
وفي البداية حذّر ادغار موران المثقفين الغربيبن من عقبتين يمكن أن تفضي بهم الى الخطأ في التقدير وفي التحليل.العقبة الأولى هي أن يعتبروا أنفسهم أسياد العقلانية ،وبالتالي فإنّ كل ما يخرج عن ذلك،أو يحيد عنه يمكن آعتباره مجانبا للصواب،بل بدعة،وتخلفا ،وفكرا سطحيّا عائما في الضلال الأوهام والشعوذة.وأما العقبة الثانية فهي أن يسقط هؤلاء في شكل من اشكال المازوخية معتقدين أن الآخرين هم دائما على حق وعلى صواب.لذلك هو ينصح المثقفين الغربيين بالتسلح بالفكر النقدي وبالإعتماد على الملاحظة الدقيقة المتأتية من الواقع الملموس.
&
وأما كاستورياديس فيركز تحليله على التخلف الذي يسود السياسات العربية،وعلى سياسة الدول الغربية العظمى التي تلعب فيها اسرائيل دورا سلبيّا ،باعثا على التشاؤم بشأن الصراع العربي-الاسرائيلي.وهو يرى أن حرب الخليج الثانية يمكن أن تزيد في تعميق الهوة بين العرب والغرب على المستوى السياسي والثقافي.ثم يتدخل ادغار موران ليقول بإن المستقبل اصبح مرهونا بالتغيّرات التي ستحدث بعد الحرب المذكورة.وهو يعتقد أن هذه التغيرات التي ستلعب فيها الولايات المتحدة الأمريكية دورا أساسيا آخذة في التشكل .وإن لم تتحقق هذه التغيرات ،وفشلت واشنطن في مهمتها ،فإن الصراع العربي الاسرائيلي سوف يزداد حدة وتعقيدا وخطورة على السلام العالمي،مانحا القوى الراديكالية الأصولية فرصة تَصدّر المشهد السياسي العربي، لتتحول عندئذ الى قوى يصعب لجمها والتحكم فيها.
&
هنا يتدخل كاستورياديس ليشير الى أن القضيّة الأساسية التي تكمن وراء كل هذا هي العلاقة الصعبة بين العرب والغرب.وهو يعتقد أن هناك ميلا عند العرب لتقديم أنفسهم الى العالم على انهم ضحايا أبديين للتاريخ.ثم يضيف قائلا:”وفي الحقيقة إذا كانت هناك أمّة غازية بين القرنين السابع والتاسع فهي أمة العرب.ففي البداية لم يكن هناك عربي واحد لا في مصر ،ولا على سفوح جبال الأطلس في المغرب.والوضع الراهن هو نتيجة الغزوات العربية.ثم جاء في ما بعد الاحتلال العثماني والاحتلال الغربي".وعلى السؤال التالي:ما هو الوضع السياسي للعرب راهنا؟يجيب كاستورياديس قائلا بان أنظمة الحكم في البلدان العربية تعتمد على بنى قديمة،أو على خليط من هذه البنى القديمة والستالينية.ويعني هذا بالنسبة له أن البلدان العربية أخذت ما هو أكثر سوءا في الغرب،وفرضته على مجتعاتها المشدودة الى الدين.وما يبرزه التاريخ بشكل جليّ هو أن الإستبداد في العالم العربي لم يتعرضّ الى أيّ هزات عنيفه قادرة على خلخلة بناه التقليدية الضاربة في أعماق أعماقه.وأما التشريعات فجميعها تستند الى الفرآن والسنة.والقوانين المعمول بها ليست نتيجة ارادة شعبيّة ،وإنما هي تشريعات تخضع للمقدس.لذلك فإن المجتمعات العربية ظلت جامدة أمام التطورات التي شهدها الغرب،وأمام الحداثة التي تبسط نفوذها منذ قرون عدة.وكانت هناك ثورات أدّت الى فصل الدين عن الدولة في الغرب.ومثل هذه الثورات لم تعرفها البلدان العربية .وأمام العالم العربي المشدود الى الإسلام في انظمة حكمه،وفي تشريعاته ،هناك غرب لا يعيش ولا ينتعش إلاّ من تراثه.وهو يحتفظ بما حصل عليه من دون أن يعمل على آبتكار أدوات تحرّر جديدة.فلكأنه يقول للعرب :تخلوا عن القرآن ،وآشتروا فيديو-كليب لمادونا وطائرات ميراج وأسلحة متطورة.لذلك يرى كاستورياديس أن الغرب يتحمل مسؤولية في الوضع الذي يعيشه العرب راهنا.والفراغ الذي يعيشه هذا الغرب في قلب ديمقراطياته الحديثة،لا يمكن تلافيه من خلال صنع المزيد من الالات التكنولوجية الجديدة التي لن تحدّ ابدا من التأثيرات الدينية على المجتمعات العربية.وبعد كل حرب،يزيد العرب تشبثا بماضيهم.وهنا يستشرف كاستورياديس التاريخ ،ويشير أنه إذا تمّت إزاحة صدام حسين من السلطة،فسوف يُعوّض بنظام شيعي أصوليّ ،وهو نفس النظام الذي حاربه الغرب بشدة من خلال الجمهورية الإسلاميّة في ايران.ورادّا على ملاحظات كاستورياديس ،قال ادغار موران إن ارساء الديمقراطية في الغرب تتطلب وقتا طويلا ،وجهودا مضنية،وتضحيات جسيمة.وهو يرى ان الديمقراطية تتغذى من النزعات ومن الإخلافات إن هي آستطاعت أن تتحكم فيها لجعلها إيجابيّة.وإذا لم تتمكن الديمقراطيّة من مدّ جذورها في العالم العربي ،فلأنه لم يعرف ثورة حقيقية تفصل بين الديني والسياسي.فمن دون هذا الفصل لا يمكن أن تتحقق الديمقراطية.ويحمّل ادغار موران الغرب مسؤولية عدم تحقق مثل هذه الثورة التي فضل عليها بسط نفوذه الإستعماري والإمبريالي على البلدان العربية .وهذه الهيمنة ولدت ازمة هويّة عند العرب الذين آزدادوا تشبثا بماضيهم لمقاومة هذه الهيمنة.وهذا ما يفسّر ظهور الحركات الأصولية المتطرفة.لذلك يرى ادغار موران ان حل النزاع بين الغرب والعرب لا يمكن ان يتحقق الاّ بردم الهوة بينهما،وبتصالح بين الأديان السماوية الثلاثة،وبتوافق بين الدين والعلمانية،وبين الحداثة والأصولية .
&
ويختم كاستورياديس الحوار بالفكرة التالية:”نحن نعلم أن العرب كانوا اكثر تحضرا من الغربيين.ثم آختفوا. وما نلاحظه هو أنهم لم يأخذوا من العصور القديمة ما هو سياسيّ.والإشكالية السياسية عند الإغريق ،والتي هي جوهريّة وأساسيّة بالنسبة للديمقراطية ،لم تغذّي لا الفلاسفة العرب،ولا المجتعمات العربية.ونحن لسنا هنا لمحاكمة العرب،لكن علينا ان نقول بأن شيئا من الديمقراطية لم يتحقق في الغرب إلّا بعد عشرة قرون من الصراعات والحروب والثوارت العنيفة".