&
&
هذه وثيقة مهمة للغاية عثرت عليها في المجلة الشهريّة"Tunisie” التي كان يصدرها فرنسيون في زمن الحماية االفرنسية، وتحديدا في الثلاثينات من القرن الماضي. وقد نُشرت هذه الوثيقة في عدد شهر نيسان -ابريل 1938 تحت عنوان:”المسافرة البعيدة". ولم تكن هذه "المسافرة البعيدة" غير البريطانية الليدي ماري فورتلاي مونتاغي التي ولدت في الخامس عشر من مايو-ايار 1689. ومبكرا تعلمت اللغة اللاتينية لتصبح وهي في سنّ المراهقة نجمة الأوساط الثقافية والفنية في لندن. وبعد أن تبادلت معه رسائل حب كثيرة، فرّت الليدي ماري مع ادوارد مونتاغي الذي كان ينتسب الى عائلة ارستقراطية، وتزوجته عام 1712. ولما عيّن سفيرا في القسطنطينية، سافرت معه الى هناك. وقد آستغلت إقامتها في عاصمة الامبراطورية العثمانيّة لتتعرف على خفايا الحريم، وعلى العديد من الأسرار الأخرى التي سوف يتضمنها كتابها الشهير:”رسائل تركيّة”. وبعد اصابتها بمرض الجدري الذي ترك آثارا على جسدها، تركت الليدي ماري فورتلاي مونتاغي القسطنطينية لتتجول في العديد من البلدان الاوروبية التي عيّن فيها زوجها سفيرا. ثم لم تلبث العلاقة بين الزوجين أن فترت، وأصابها الذبول. عندئذ تعلقت الليدي ماري فورتلاي مونتاغي بشاعر ايطالي يدعى فرانسيسكو الغاروتي، إلاّ أن هذا الأخير لم يبادلها جنون الحب، فعذبتها تلك الخيبة كثيرا. وظلت تطوف في ايطاليا، ولم تعد الى لندن الاّ سنة 1762. وهي السنة التي توفيت فيها بعد مور أشهر قليلة على وفاة زوجها.
وفي الوثيقة المذكورة،تتحدث الليدي ماري فورتلاي مونتاغي عن رحلة قامت بها الى تونس في 31 يوليو -تموز سنة 1718. وكانت قد قدمت اليها من القسطنطينية عبر اليونان. وقد كتبت تقول:
في تونس، آستقبلنا من قبل قنصل انكلترا الذي يقيم فيها. تقبّلت بكل سرور عرْضَ الإقامة في بيته لبضعة أيّام، وبي فضول أن أرى هذا الجزء من العالم، خصوصا آثار قرطاج. آنطلقتُ إذنْ في عربته في الساعة التاسعة ليلا، وكان القمر في آكتماله. والبلاد يمكن رؤيتها واضحة كما لو أنها في ضوء النهار، والشمس في مثل هذا الوقت غير محتملة حدّ أنه يصعب السفر في النهار. ويمكن القول إن الأرض ليست غير تراب، لكن كان هناك نخل كثير، وزيتون ،وتين ،وكل هذه الأشجار تنبت من دون فنّ ولا عناية مع أنّا تمنح أجمل الثمار في العالم. حقول العنب والبطيخ محاطة بأسيجة من الصبار الشوكي. وهذه الأسيجة توفّر حماية رائعة يصعب على أيّ حيوان وحشيّ آجتيازها. ويرتفع الصبار الشوكيّ عاليا، وأشواكه طويلة وجارحة مثل المخارز. ثمرته يحبّّذها الفلاحون وليس لها مذاق سيئ.
نحن في شهر رمضان. وبما أن سكان البلاد كلهم مسلمون، فإنهم يصومون حتى غروب الشمس، ويمضون الليل حول المآدب، وفي الإحتفالات. وقد رأينا تحت الأشجار جماعات من الريفيين كانوا يأكلون، ويغنون، ويرقصون على أنغام موسيقاهم المتوحشة. وهم ليسوا سودا تماما، ولكنهم خلاسيّون، وهم الكائنات الأشد فظاعة في العالم! وهم شبه عراة، تُغطي أجسادهم قطعة من الصوف المتين. أما النساء فقد زيّنّ أذرعهنّ وأكتافهن، وأعناقهن، ووجوههنّ بأزهار، وبنجوم، وبأنواع من الرسوم مثبتة بالمسحوق، وهوما يزيد في بشاعتهنّ الطبيعية. والتي تتزين أكثر هي التي تحظى بالإعجاب. وأعتقد أن كل هذا يؤلمهنّ.
على بعد حوالي ستّة اميال، رأينا آثار تلك "الحنايا" البديعة التي كانت تأتي بالماء الى قرطاج من فوق عدة جبال عالية. ولها من الطول 40 ميلا. ولا تزال هناك "حنايا" محافظة على شكلها الأصلي. وقد ظللنا نتأملها بإعجاب وآنتباه على مدى ساعتين. والسيد ...W أعلمني أن ما يوجد في روما أقل منها جمالا. الأحجار لها أشكال هائلة، وجميعها مصقولة، ومنتظمة بقدر قليل جدا من الإسمنت، وربما ستظل على هذه الحالة ألف سنة أخرى ولن يقدر أحد على زحزحتها.
وصلت الى تونس بعد طلوع النهار. وهي مدينة جميلة مبنية بالحجر الأبيض لكن من دون حدائق. ويقال أن الأتراك هم الذين دمروها ولم يعد ترميمها أبدا. منظر الرمل الجاف مُؤْذ للعين، ونُدْرة الظل تزيد في قسوة الحرارة، وتجعلها مُفرطة الى درجة يصعب آحتمالها.
وعلينا أن نقول أنه في منتصف كل يوم، يأتي نسيم البحر الذي بدونه ليس بآستطاعتنا أن نحظى بقليل من البرودة، وليس هناك ماء بارد إلاّ ذاك الذي يتمّ الإحتفاظ به في الصهاريج المخصصة للأمطار التي تتهاطل في الخريف. نساء المدينة محجّبات من الرأس حتى القدم، ومُتخفّيات خلف لباس أسود. ويقال أن البعض منهن من اللاتي آختلطن بمرتدّين فائقات الجمال. وهنّ كثيرات.
آنطلقت باكرا (بعد ليلة آستراحة) كي أشاهد آثارَ قرطاج. غير أن الشمس أحرقتني. لذا كنت سعيدة أن أقاد الى واحدة من تلك المغاور التي تسمى "اسطبلات الفيلة"، إلاّ أني لا اعتقد أنها كانت مخصصة لذلك. في البعض منها وجدت أجزاء من الأعمدة ومرمرا بديعا، ،بل ووجدت فيها حجر السمّاق. وأنا لا أظنّ أنه بُذل كلّ هذا الجهد غير المفيد لكي يتمّ نقل كلّ هذا الى هنا، ولا أتصور أن الهدف منه هو آستعماله في الاسطبلات. بل بالأحرى أنا أعتقد أنها مغاور صيفيّة تحت القصور تتطلبها حرارة الطقس. وأهل البلاد جعلوها مخازن للمؤونة. وعندما كنت أستريح هناك، جاءت من الخيام المجاورة نساء كثيرات يرغبن في التمتع بالنظر اليّ. وأنا وجدتُّ أيضا متعة في النظر اليهنّ. طريقتهنّ في الجلوس، لون بشرتهنّ، خصلات شعرهنّ السوداء التي تنزل على جانبي وجوههن، ملامحهنّ وشكل أعضائهنّ تتقارب مع جيرانهن الأفارقة السود حتى أنه يصعب القول بإنهن ينتسبن الى جنس آخر. وهذا ما يجعلني أعتقد أنه كانت هناك علاقات زواج قديمة بين أهل هذا البلاد والبلدان الافريقية!
وعندما ساعتدني هذه الإستراحة على آستعادة حيويتي، صعدت الهضبة الصغيرة التي يوجد عليها قديما حصن"بيرصة"، ومن قمتها تمكنت من أن أرى بوضوح الوضع الرائع لمدينة قرطاج التي كانت تستريح على برزخ، والبحر يضربها من جانبيها. لم يعد هناك غير مستنقع على جانب حيث الملح. وكان سترابون يقول بإن قرطاج لها 40 ميلا من الدوائر. واليوم لم يعد هناك شيء من الذي وصفته، والتاريخ معروف ولا يحتاج الى أن ألخّصَه.