في ذكراها الخامسة والخمسين مازالت تثير جدلا
23 يوليو .. حساب غير ختامي لحركة الضباط


كتب ـ نبيل شرف الدين: في مثل هذا اليوم الثالث والعشرين من تموز (يوليو) عام 1952، شهدت مصر quot;انقلاباًquot; أو quot;ثورةquot; ـ لن نتوقف الآن مع التسمية ـ لكن لا يمكن للمرء إلا الاعتراف بأنها غيرت وجه الحياة في مصر، بل وانتقلت عدواها بدرجات متفاوتة إلى بقاع كثيرة من المنطقة، وشكلت حاجزاً تاريخيا يفصل بين زمنين : زمن الملكية وزمن الضباط ، وحتى هذه اللحظة لا يوجد ثمة اتفاق على ما إذا كانت ذكرى يوليو مناسبة للاحتفال أم للحداد. وفي هذه السطور سنرصد أبرز ما لدى الجانبين من رؤى ودفاع ودفوع، الجانب المؤيد والمناهض لما حدث في مصر قبل خمسة وخمسين عاماً، وانتقلت آثاره إلى العديد من بلدان الشرق الأوسط وحتى أميركا اللاتينية.


وتأتي الذكرى الخامسة والخمسين لحركة الضباط بقيادة جمال عبد الناصر، بينما تشهد المنطقة حالة من التوتر والاحتقان يراها البعض أمراً إيجابياً من شأنه أن يمهد في نهاية المطاف للديمقراطية، بينما يرى القوميون والناصريون والبعثيون أن المنطقة باتت تتعرض الآن لاستعمار جديد، وأنها مقدمة على حالة من الفوضى واختلال الاستقرار.
لكن بعيدا عن تقييم التفاؤل والتشاؤم فلا يختلف أحد على أن المنطقة، مقدمة على مرحلة تاريخية جديدة، وأن التغيير بات حتمياً، وهو الأمر الذي يتجلى في الكثير من التحولات السياسية التي تشهدها المنطقة .

انقلاب مشؤوم
وعلى الرغم من كافة الانتقادات التي توجه لحركة الثالث والعشرين من يوليو 1952، غير أن ثمة جاذبية

مازلت تغري المرء بالتوقف عند التساؤل الأول بالنسبة لمن يكتب عن ثورة يوليو في ذكراها السنوية التي تمر اليوم، أولها أن ثورة يوليو ظلت على مدى نصف قرن تشكل تجسيداً لحالة خاصة، اكتسبت وهي خارج مقاعد السلطة نفوذاً وجاذبية لم يكونان لها من قبل حين وليت أمور البلاد والعباد.
ما حدث وفق رؤية الوفديين ـ وهم أشرس خصوم حركة 23 يوليو ـ أن ثلة من الضباط استولوا بالقوة من خلال انقلاب عسكري على الحكم في مصر، وأعلنوا قيام الجمهورية لتحل مؤسسة الرئاسة محل معادلة سياسية تتألف من : القصر الملكي والبرلمان والطبقة السياسية التي تقود أحزاباً وحركات تتفاوت بين الشعبية والنخبوية، وبدأ عبد الناصر تنفيذ سياسته بتهميش كافة المؤسسات المدنية لكيان الدولة فأعلن حلّ الأحزاب وإلغاء مجلس النواب والشيوخ وأحل محلهم ما سمي وقتها بمجلس الأمة.
أما الأحزاب السياسية فقد أحل محلها ما سمي حينذاك بهيئة التحرير ثم الاتحاد القومي فالاتحاد الاشتراكي، وحكمت هذه التنظيمات من خلال قاعدة تخصيص نسبة للعمال والفلاحين لا تقل عن 50% حتى تصبح كيانات يسهل السيطرة عليها، وهو ما حدث بالفعل الآن.


وبذلك هدم الضباط المجتمع المدني وضربوا مؤسساته، وبعدها أبرموا اتفاقية الجلاء وهي الاتفاقية التي دفعت بريطانيا إلى فصل السودان عن مصر، وبذلك تحطمت وحدة منطقية، مقابل السعي العابث لوحدة وهمية مع سورية، انفضت بموقف مأساوي بعد عمر قصير.
الباحث الدكتور سيد القمني، وهو من أبرز المفكرين المناوئين للثورة، ويطلق تعبير quot;الفاشيينquot; على الناصريين ممن يعتنقون الرؤى القومية والإسلامية، ولا يرى في حركة الضباط عام 1952 أي إيجابيات تذكر، غير أنه عاد ليؤكد quot;أن عبد الناصر كان وطنيا مخلصا أحب بلاده ولم يخنها بل كان نظيف اليد وهي كلها صفات حميدة ولكنها غير كافية لتحقيق النهضة، فالطريق إلى الجحيم مفروش بحسن النواياquot; .
ورأى القمني أن معظم ما ينسب لثورة يوليو من انجازات quot;غير صحيح، لأن الحكم يكون بالنتائج وليس العواطف، فالصناعة في عهد الثورة تلفت بسبب سوء الإدارة والإصلاح الزراعي تحول إلى تفتيت للملكية الزراعية الأمر الذي أدى إلى نكسات وخيمة على الزراعة والسد العالي على الرغم من أنه لعب دورا كبيراً في حماية مصر أعوام المجاعة فإن تراكم الطمي خلف شيئا خطيراً جداً على الأراضي الزراعية الممتدة أمامه من أسوان جنوبا إلى مصب النيل في المتوسط شمالا، أما الكلام عن الاستقلال الوطني فهي نغمة يصاحبها كرامة المواطنquot; واستشهد هنا بالحالة العراقية quot;التي كان لديها استقلال وطني لكن لا كرامة لمواطنيه، وهو ما ظهر جليا بعد سقوط نظام صدام حسينquot;، حسب تعبيره.
وواصل القمني هجومه على الثورة، معتبرا quot;أن خطاب النوايا الذي تبنته الثورة لا يحقق النجاح، فردود الفعل دائما عشوائية وهو ما أدى إلى الهزائم والنكسات المتتالية التي يعيشها العرب حتى الآن وكانت السبب في ضياع فلسطينquot; .
وفي الختام أكد القمني أن الثورة لم تنتج مفكرا واحداً بل إن المفكرين الليبراليين الكبار مثل توفيق الحكيم وطه حسين والعقاد كانوا من بقايا العهد الليبرالي قبل الثورة .

حركة مباركة
ومقابل هذا الهجوم الكاسح فقد دافع الناصريون عن ثورة يوليو بكل وسيلة ممكنة، ونفوا بشدة أن تكون مجرد quot;خطاب حسن نواياquot; وقالوا إن الثورة لم تتوقف عند حدود الشعارات بل جعلت المصريين يعيشونها واقعا غبر قانون الإصلاح الزراعي، وتوزيع الأراضي على الفلاحين وتحديد حد أقصى للملكية، وكذلك عبر تمصير وتأميم الشركات الأجنبية، وطرد الاحتلال، وبناء مصانع ومدارس وإتاحة فرص عمل وتطهير الحياة السياسية، واعتبروا أن التجربة قد أجهضت بمجرد وفاة جمال عبد الناصر وبعد فترة وجيزة من اعتلاء الرئيس الراحل أنور السادات سدة الحكم في البلاد، وامتد الأمر طيلة عهد حسني مبارك .
وعن الخطايا السياسية المنسوبة للثورة كالإجراءات الاستثنائية والاعتقالات التي طالت جميع ألوان الطيف السياسي بدءاً من جماعة الإخوان المسلمين حتى الشيوعيين, يقول رئيس الحزب الناصري ضياء الدين داود : إن هذا كلام حق يراد به الباطل، وأن من يتحدثون عن الحريات في عهد الثورة ينسون أو يتجاهلون عن عمد أن الثورة كانت في مرحلة تحول، فقد كانت مصر تتحول من مجتمع متخلف، يحكمه المندوب السامي البريطاني والقصر والرأسمالية المتحالفة معهما والإقطاع الذي استغل الملايين من الفلاحين, وأن الأوضاع قبل الثورة كانت في أسوأ حالتها كما كانت أغلب الدول العربية واقعة تحت الاحتلال, وحين قامت الثورة تحول هذا الوضع تماماً، حيث قضت على الاستعمار والرجعية وتم بناء نظام تعليمي جديد يتيح لجميع أفراد الشعب تلقي العلم وبناء المصانع والمساجد والمستشفيات، وفي إطار هذا التحول كان لابد أن تحدث إجراءات استثنائية تتخذها الثورة وعلى الرغم من ذلك كان ضحايا الثورة أقل كثيرا مما حصل بعد ذلك في مصرquot;.


ومضى داود مدافعاً عن ثورة يوليو بقوله quot;إن هناك نوعا من الانتقام من الثورة، خاصة ممن أضيروا منها، وهذا أمر طبيعي وليس عيباً في الثورة ذاتها، حيث إن ثورة يوليو عملت لصالح جماهير الشعب على حساب الأغنياء، وخلقت نوعا من المساواة بين فئات المجتمع، ولا شك أن هؤلاء المضارين من الثورة وجدوا الفرصة في الهجوم على بعض مبادئ الثورة ولكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح .


سألت داود : لكن هناك من يرون أن الناصرية ماتت برحيل عبد الناصر، فكيف ترد على ذلك؟
ـ هؤلاء مصابون بالعمى السياسي، بل إنهم أيضاً مصابون بعمى القلب، حيث لا توجد ثورة في العالم أو التاريخ البشري تنتهي بمجرد موت مفجرها وقائدها وزعيمها، كما لا توجد أيضاً ثورة تظل موجودة في جذوتها كما هي، ومن الطبيعي أن يحدث بعض التغيير لكن ليس الهدم، وحتى الآن مازالت ذكرى عبد الناصر قائمة في قلوب الناس ويحتفون بها، بل إن هناك مقاومة شديدة برزت في مواجهة محاولات تصفية سياسات الثورة سواء في الداخل أو الخارج وحتى الآن لا يجرؤ معارضو عبد الناصر على مهاجمته بشكل سافر، والأمر نفسه في الوطن العربي أيضاً، حيث لم يستطع أي قيادي عربي مهما كان تناقضه مع ثورة يوليو مهاجمة الثورةquot;، على حد تعبيره .
[email protected]