عشرات المواقع الأثرية بـquot;المسيلةquot; الجزائرية مهددة بالزوال

كامل الشيرازي من الجزائر: قال مشتغلون بالأبحاث الأثرية، إنّ عديد المواقع الأثرية في ولاية المسيلة الجزائرية (225 كلم شرق) باتت مهددة بخطر الزوال، وتعود غالبية هذه المواقع إلى نحو عشرة آلاف عام، وأتى هذا التبدد الأثري غير المسبوق نتيجة عدم الاهتمام وتسيّد ثقافة النسيان والإهمال على نحو يقلق الشارع المحلي إزاء مستقبل أهم معالم المدينة الموصوفة بـquot;عاصمة الحضنةquot;.
وفي خضم حركة التصنيع المكثفة وغير المدروسة، تتعرض المسيلة العذراء إلى انتهاك متواصل، ينتظر وقفة حازمة من وزارة الثقافة الجزائرية وكافة الغيورين على رصيد فكري جمالي يئنّ تحت سياط اللامبالاة والعبث.

ويشتكي أبناء المنطقة من شحّ الكتابات التاريخية حول المسيلة، ما جعل الأخيرة تقع بين مطرقة التغييب وسندان التبعثر، علما أنّ ثمة خارطة يعود تاريخها إلى عام 1911 وضعها المؤرخ الشهير quot; ستيفان غزال quot;، وكان يمكن الاستعانة بها لرصف مواقع quot; المسيلة quot;، الآخذة في الاندثار تباعا.
واللافت، أنّ تاريخ المسيلة على عراقته وما ينطوي عليه محطات استراتيجية، لا يزال بحاجة إلى كشف النقاب عنه بشكل واف، مع الإشارة إلى أنّ روايات تاريخية موثقة تتحدث عن المسيلة كحصن منيع استولى عليها الملك ماسينيسا ما بين سنة 200 و193 قبل الميلاد، واحتمى بها الملك يوغرطا هربا من ملاحقة الرومان له سنة 106 قبل الميلاد، كما كانت المسيلة في العهد الأمازيغي تدعى : مملكة نوميديا الشرقية (مازيلة) في إطار دولة أمازيغية كبرى في شمال أفريقيا تمتد من قرطاجة التونسية شرقا إلى نهر ملوية غربا.


وتعاقب على حكم المسيلة في عهد الحكم البربري عدة أمراء بينهمquot; ستردير بن روميquot; وكان أميرا على قبيلة أوروبة، quot;كسيلة بن لزمquot; الذي تولى أيضا إمارة قبيلة أوروبة، وفي بداية الاحتلال الروماني للبلدة أطلق على المسيلة اسم (زابي) لأول مرة وقد تحدثت عنها (رحلة أنطونا) و(الوثيقة الكرتوغرافية) المؤرخة في القرن الثالث الميلادي والمسماة ب(جدول بيتينجر)، وكذلك قوائم الأسقفية، وبين أواخر العهد الروماني وبداية العهد البيزنطي، شهدت المنطقة حروبا دينية اصطدمت فيها القوتان (الدوناتستية) و(الكاثوليكية)، وكذا المعارك التي قامت بين بربر الحضنة والأوراس من جانب ضد قوات الاحتلال الوندالي من الجانب الآخر، حيث خربت في تلك الفترة ما جعل البيزنطيين يعاودون الكرة لبنائها من جديد في عهد الإمبراطور البيزنطي (جستينيان الأول ) بإشراف قائده الجنرال سولومان .


وجرى فتح المسيلة على يد quot;عقبة بن نافع الفهريquot; الذي هزم الرومان على ضفاف وادي المسيلة، وعُرفت المسيلة في المخطوطات العربية القديمة بأسماء عديدة منها :أربة ـ أوربةـ أزبة ـ عدنة - عزبة ـ عربة، وفي العهد الفاطمي اختطها أبو القاسم محمد القائم سنة 315 للهجرة، حيث نسبها إليه وسماها:المحمدية، وولى عليها (جعفر بن علي ابن حمدون) أميرا، فأصبحت المسيلة تُعرف بإمارة ابن حمدون، وأمّ بلاط أميرها الشاعر المعروف ابن هاني الأندلسي المعروف بمتنبي المغرب.

لعلّ من بين الشواهد الأثرية المهمة في مدينة المسيلة، هناك قلعة بني حماد الجزائرية، التي احتفلت العام الماضي بمرور ألف عام على تأسيسها، حيث شيّدت أركانها عام 1007 م، ويختزن هذا المعلم الفريد، عشرة قرون من الرصيد الحضاري الإسلامي ومرايا التاريخ في منطقة المغرب، منذ حوّل القائد الشهير quot;حماد بن بلكينquot; القلعة المذكورة إلى عاصمة سياسية وإدارية لدولة الحمّاديين، بموجب الاتفاق الذي أبرمه مع quot;باديس بن المنصور بن بلكين بن مناد الصنهاجيquot; سنة 395 هجرية / 1004 ميلادية، وأنضجت أولى ثماره ثلاث سنوات من بعد مع ميلاد منارة القلعة كثاني دولة مركزية تتأسس في المغرب الأوسط.


وتقع قلعة بني حماد في سفوح جبال بلدة المعاضيد، وصنّفتها منظمة اليونسكو ضمن نفائس التراث الإنساني، وتعرّضت على مدار تاريخها الطويل إلى أحداث جسام، منذ الاصطدام الذي حصل في الزمن القديم بين الأمازيغ والعرب الهلاليين، مرورا بموجة التدمير الذي لحق قطاعا مهما من هياكلها في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وصولا بما طالها القرن الماضي بسبب الاحتلال الفرنسي للجزائر، بيد أنّ القلعة ظلت صامدة متشامخة واستوعبت قوافل من العلماء والفقهاء والشعراء والمتصوفين، وأقام بها في مختلف الفترات مزيجا من السكان المحليين وكذا من وفدوا إليها من الدول المغاربية المجاورة، ما مكنّها بحسب جمهور الباحثين والمؤرخين إلى التموقع كعاصمة لحواضر الشمال الإفريقي، وملتقى لمختلف تجليات الحياة الثقافية والنتاج الفكري، حتى أنّ الشاعر quot;ابن هاني الأندلسيquot; امتدحها، وردّد قولته المأثورة:quot; قلعة بني حماد.. جنة الله في أرضهquot;.


لكن بقاء تاريخ الحماديين في عداد المسكوت عنه، أفضى إلى تغييب الأفاريز الدينية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للقلعة، وحرمان المتطلعين إلى استنشاق عبق تاريخها المنكوء خلف مقابر وساحات وأنقاض وطلاليات القلعة.

واللافت أنّ ما خلّفه عدد من الكتّاب الفرنسيين أمثال quot;لوسيان جولفانquot; وquot;جورج مارسيquot; اقتصر على الطابع العمراني الأثري لمساجد وقصور ومنتزهات القلعة، دون الولوج إلى مكتنزاتها وما كانت تتوّج به مجالسها ومساجلاتها، ولعلّ ما زاد الطين بلّة هو ضياع أعمال مؤرخي الدولة الحماديين.
وتنفرد مدينة المسيلة أيضا بقصر الأمراء البديع الذي يتكون من ثلاثة أجنحة للإقامة تربطها قاعات وحدائق ونظام رائع لتوزيع المياه.