جنازاتٌ جماعية ومظاهرات احتجاج في وادي ميزاب
عشرات الآلاف من العائلات المشردة تبيت في العراء
سليمان بوصوفه من لندن و ب.نصر الدين من غرداية: بينما تحدث شهود عيان عن مئات القتلى والمفقودين إثر الفيضانات العارمة التي سوت ثماني قرى في ولاية غرداية جنوب شرقي الجزائر، تُصر السلطات على أن عدد القتلى لم يتجاوز خمسين قتيلا، وهذا ما أدى بالمئات من المنكوبين إلى التظاهر أمام مقر الولاية لمطالبة السلطات بإعلا ن غرداية منطقة منكوبة، غير أن وزارة الداخلية أرسلت تعزيزات أمنية كبيرة من المدن القريبة وتسلحت بالهراوات والغاز المسيل للدموع لحفظ الأمن العام.
مطالبنا مشروعة والسلطات تعيش حالة الإنكار:
هذا ما يقوله (ع شخار) وهو شاب فقَد محلّه لبيع الألبسة النسوية ومنزله الذي يقع في منطقة (باب الحداد) وعوض أن يهتم بتنظيف منزله من الأوحال لإعادة إسكان عائلته، انضم إلى المئات الذين تظاهروا ويضيف:( مطالبنا مشروعة، نحن نطالب بإعلان ولاية غرداية منطقة منكوبة، فالمساعدات شحيحة ولانجد حتى حليب الأطفال).
ما لاحظناه هو تسامح قوات الأمن مع المحتجين الغاضبين الذين فقدوا الأمل في الوعود المزيفة، باستثناء وجود بعض المشاحنات والتدافع من الشباب الناقم على الأوضاع. وتقدّم المتظاهرين الفرعُ المحلي لحزب القوى الاشتراكية وممثلوا العشائر والجمعيات الرسمية إضافة إلى ناشطين حقوقيين.
وحسب ممثلي المظاهرة فإن السكان يطالبون بأن تخرج السلطات من حال الإنكارالتي تعيشها، فالقتلى والمفقودون يُعدون بالمئات، وهذه الحالة لا تساعد في لملمة الجرح وإعادة الطمأنينة إلى المنطقة. كما طالب المحتجون السلطات بإعفاء كل سكان الولاية من دفع فاتورة الكهرباء والغاز في الأشهر المقبلة نظرا للخسائر الهائلة التي تكبدها الأهالي.
جنازات جماعية وسط تعتيم رسمي على الخسائر البشرية:
المقبرة الواقعة في حي (باعيسى أوعلوان) شرق غرداية شهدت خمس جنازات جماعية وحسب شهود عيان فإن ثلاثين شخصا ووري جثمانهم الثرى، من بينهم شاب ينتمي إلى عائلة (بن شيشة) توفي غرقا في حي باب السعد، وسيدة عجوز غمرتها المياه في قبو منزلها تنتمي إلى عائلة (عوشت) إضافة إلى زوج (رجل وامرأة) قضيا مع ابنتيهما عندما كانا في سطح منزلهما قبل أن تجرفهما المياه.
وقد شهدت مقبرة (الشيخ عمي سعيد) قرب محطة الحافلات المركزية جنازات جماعية أيضا، كما تم نقل جثمان ستة عمال من مدينة (تيميمون) في أقصى الصحراء بعدما عثر عليهم السكان جثثا منتفخة ومشوهة بالأوحال حيث قضوا في غرفة واحدة وهم نائمون في حي (عقبة) هذا إضافة إلى الجثث التي نُقلت من مسجد (أوجرينت) في الواحات إلى المستشفى، حيث قدرها شهود عيان بخمسين جثة. وتمكنت فرق الإنقاذ من انتشال عدد من الجثث، إحداها لصبي كان مغمورا في قبو منزله.
هذا عدا عن الجنازات التي شهدتمها مدن: بريان، العطف، بنورة، متليلي، وسبسب، إضافة إلى مئات المفقودين، الذين عُلقت أسماؤهم (الصور غير متوفرة بسبب الطوفان) في دور العشائر ومقار الجمعيات المحلية، وبين الفينة والأخرى يستوقفك شاب ينتحب ويسأل عن والدته أو أحد أقربائه الذين لم يظهر لهم أثر منذ يوم العيد ويشرح تفاصيلهم وملامحهم، وهو لا يعلم أن السيول شوهت الجثث ونفختها بل شوهت كل معالم المدينة.
أمام هذه المأساة الفريدة من نوعها والتي لم تشهدها البلدة منذ أكثر من خمسين عاما، تمارس السلطات تعتيما إعلاميا لا سابق له والأهالي يتساءلون لماذا؟ هل نحن لسنا جزائريين؟
الصحف المستقلة اعتمد أغلبها على بيانات وزارة الداخلية واخترق بعضها الطوق الإعلامي واعتمد على جريدة إيلاف كمصدر ونقلت فقرات مطولة من تقريرها الأول عن السيول التي أغرقت سهل وادي ميزاب، وهذا ماقامت به جريدة (الجزائر نيوز) التي أشارت إلى مئات القتلى. فيما كرر التلفزيون الحكومي حصيلة وزارة الداخلية وقال إن الوضع تحت السيطرة، رغم أن الصور التي بثّها تشير إلى تسونامي جزائري، لا يمكن محو آثاره إلا بتدخل مؤسسات دولية مدربة على البحث تحت الأنقاض واكتشاف الآبار المطمورة التي تتهدد السكان وإلى معالجة الأطفال والشيوخ من الصدمة. وهنا تكمن المشكلة.
عائلات تفترش ساحات المدارس:
في مرتفع (بولنوار) في واحة غرداية تفترش نحو ألف وثمانمئة عائلة فقدت كل ما عندها ساحة مدرسة (عمي سعيد) وبين أقسامها يركض الصغار في كل مكان، هنا، الرجال يقومون بمهام الطبخ وغسل الصحون والأواني لآلاف المنكوبين، هكذا يقول (عيسى مصباح) : (إنهم يتحدثون عن المساعدات، أين هي؟ خمسة أيام ونحن نعيش هذه المعاناة، قبل قليل فقدت فتاة جنينها من هول الصدمة واضطررنا إلى حملها في غطاء مسافة ثلاثة كيلومترات، أين وجدنا أول سيارة نقلتها على جناح السرعة إلى 'عيادة الواحات' في حي بوهراوة)
بين الفينة والأخرى يصعد أحد المحسنين إلى المدرسة التي تطل من مرتفع على حي (بوشمجان) الذي سوّي بالأرض، ويُنزل من على ظهره كيسا أسودا مليئا بالثياب القديمة لتُوزع على المنكوبين، وتستمر تبرعات الناس حتى ساعات المساء الأولى حيث تصل شاحنات المحسنين المُحمّلة بالحليب والخبز والتمر وبعض الأغطية. سألنا سائق شاحنة عن سبب غياب الدولة، فضحك وسألنا بدوره: عن أي دولة تتحدثون!
التضامن الذي شهدته المناطق المنكوبة تحدّث عنه النائب عن المنطقة في البرلمان الجزائري صالح بوبكر الذي انتقد بشدة حال الإهمال والتسيب الممارسة على أبناء المنطقة. بوبكر الذي تجوّل في حي (بوشمجان) قال إن النكبة كبيرة والسلطات لم يظهر لها أثر إلا في اليوم الرابع من الدمار، وأن المساعدات لم تصل بسبب الطرقات المقطوعة.
فقدان الخدمات
أحد المسعفين في جمعية الهلال الأحمر قال إن الأغطية والمواد الغذائية التي كانت بحوزتنا قد نفذت ونحن ننتظر المساعدات التي تتحدث عنها السلطات، وقال إن نقص الماء الصالح للشرب والدواء خصوصا أدوية مرضى السكري سيتسبب في كوارث مقبلة، أما عن الحلول فاستبعد أن تتمكن الجزائر لوحدها من إعادة إعمار المنطقة من جديد على الأقل في السنوات العشر المقبلة.
تركنا واحات غرداية واتجهنا نحو المدينة القديمة وسط الدمار الهائل: شبابٌ غارق في الطين يحاول سحب المياه عن طريق المحركات الكهربائية، وشيوخ بثياب متسخة يركنون إلى جدران المنازل المحطمة قالوا إنهم يقومون بحراسة ما تبقى من ممتلكاتهم المطمورة مع كثرة عمليات السرقة والسطو. وفي أزقة البلدة القديمة، سمعنا بكاء ونواحا في بيوت ظلامها دامسٌ ينبعث منها نور الشموع الخافت وسط تلاوات للقرآن الكريم بصوت النساء والأطفال المفجوعين.
التعليقات