تونس العتيقة تفوح بعبق رمضان وتستعيد سحرها وتجلبُ السّمار


أمال الهلالي وإسماعيل دبارة من تونس: يبدو المشهد مختلفا تماما عن باقي أيام السنة، لكل من تعود على المرور بين أنهج وأزقة المدينة العتيقة أو quot;البلاد العربيquot; كما يحلو quot;للتوانسةquot; تسميتها. حركة غير عادية بالمرة، كر وفر وصخب ممزوج بسحب من الدخان الكثيف المنبعث من النرجيلات يذهل كل من اختار قضاء ليلة رمضانية في أحد مقاهي المدينة العربي أو تحت أسوارها العتيقة.

الشيشة والقهوة العربي تُجمّع التونسيين
رمضان في المدينة العتيقة له خصوصية وجاذبية تميزه عن سائر الأماكن في العاصمة ليس فقط لجمالية المكان وسحره المتخم بروائح الماضي الجميل بل لانه يتميز بطابعه الثقافي الفلكلوري التونسي الأصيل،إذ تسترجع المدينة بهاءها الذي فقدته قرابة قرن من الزمن.
للوهلة الأولى يكتشف زوار المدينة أن كل شيء قد تغير مقارنة بالأيام العادية كل نهج أو زقاق لبس حلة جديدة لها رونقها، أما المقاهي أو ما يطلق عليها quot;بالكافي شانطاquot; وهي ضرب من المقاهي التي تملأ البطون وتروّح عن العقول فتعرض فيها أنواع شتى من الموسيقى والعروض الفرجوية المتكاملة و الصاخبة تجمع بين رقص وموسيقى ومسرح وتنشط بشكل مكثف كامل ليل رمضان حتى الهزيع الاخير من الليل.
المقاهي العادية تعجُ بالحرفاء من كلّ الأعمار، شباب وكهول وشيوخ يتدفقون عليها مباشرة بعد الإفطار متسابقين على حجز أماكنهم ناشدين نكهة رمضانية لطالما ميزت البلاد العربي دون غيرها.


quot;لا في الحمامات ولا في المنازه ولا في المنارات يمكن أن اشعر بطعم هذا الشهر،هنا في المدينة العتيقة أين تفوح روائح البخور والقهوة العربي والشيشة أحسّ برمضانquot;.
هكذا تحدث معنا مراد 37 سنة وقد جلس على كرسيه حاملا قدح القهوة العربي بيمينه والشيشة بيساره وأضاف بعد أخذه لنفس عميق من الشيشة:quot;لرمضان بين أسوار البلاد العربي نكهته الخاصة لذلك أفضّل لقاء أصدقائي في هذا المكان دون سواهquot;.


quot;في مقهى تحت السور يصبح الظّفر بمكان مهمة شبه مستحيلةquot; هكذا حدثنا المسنّ علي 70 سنة مضيفا:quot; هذا المقهى وغيره يحتفل بقدوم رمضان على طريقته الخاصة حيث تتلألأ الأنوار وتضاء واجهات المقاهي وتوزع أنواع شتى من الحلويات التونسية الأصيلة ويكثر الطلب على القهوة العربي دون أن ننسى طبعا سلطان الكيف 'الشيشة' كل ذلك على أنغام موسيقى شعبية تونسيةquot;

مهرجان المدينة بوابة رمضان الدينية و الثقافية

وجه آخر للمدينة العتيقة لا يقل سحرا عن سابقه حيث تزدهر الأنشطة الثقافية والدينية بمختلف أوجهها وتنتعشquot; الزواياquot; حيث أضرحة الأولياء الصالحين على غرار quot;زاوية سيدي محرزquot; التي يتوافد إليها ألوف مؤلّفة من العائلات التونسية للتبرك بوليها الصالح وشرب حفنات من مائه المبارك وأكل الكسكسي بالعلوشquot; وهي الأكلة التونسية الشهيرة في إطار ولائم توزع على الفقراء والمساكين فضلا عن الاستمتاع بحلقات الذكر والإنشاد الديني أو ما يُعرف quot;بالسلاميةquot;التي تتغزل في مجملها بالرسول الأعظم وصحابته الصالحين.

فريق آخر من العائلات التونسية اختار الذهاب لمواكبة فعاليات مهرجان المدينة وهو من أعرق المهرجانات الرمضانية على الإطلاق حيث الطرب الأصيل والإنشاد الصوفي.


وقد أضحى مهرجان المدينة تقليدا مميزا منذ 26 سنة و جاء بأسماء معروفة على غرار المطرب صباح فخري.
وخلال شهر الصيام تتوزع فعاليات مهرجان المدينة بين الفضاءات والقصور التراثية التي تعيد الّسمار إلى عقود خلت من الزمن على غرار 'حدائق خير الدين' و'بئر الأحجار' و'دار الأصرم' وغيرها من الفضاءات التاريخية التي تحولت إلى فضاءات فنية يهب لها عشاق الطرب والفن الأصيل.


ويقدم مهرجان المدينة الذي بلغ هذا العام دورته السادسة و العشرين عروضا تونسية وعالمية متنوعة وأصوات طربية على غرار لطفي بوشناق من تونس ونشاط خان من الهند و صفوت صبري من سوريا وفرقة الدراويش من تركيا. كما تتوزع عروض وألوان موسيقية أخرى كالسطمبالي في ساحة باب سويقة التي تشهد - ككل رمضان- خيما رمضانية تقام فيها موائد الرحمة للفقراء وسهرات فنية تراثية والعاب سحرية وبهلوانية للأطفال.
سحر مدينة تونس العتيقة لا يقف عند هذا الحد وعلى الرغم من اختلاف الأنماط والأذواق الموسيقية تبقى السهرات الرمضانية أجمل ما يميز هذا الشهر الفضيل ونقطة التقاء التونسيين في فضاء واحد والتفافهم على طاولة واحدة.


و بحسرة تقول العمّة خديجة وهي من سكّان تونس العتيقة لإيلاف:quot;30 يوما هي عمر شهر رمضان، نستمتع فيها بعودة المجتمع التونسي إلى قيم التوادد و التراحم و التكاتف الأصيلة، و نشهد فيها رغبة في المحافظة على القليل من تقاليدنا التي ميزت الأيام الخوالي، ما يؤسفني أن رحيل رمضان بعد أيام سيحمل معه هذه الأجواء و لن نجد لها مكانا بيننا حتى رمضان القادمquot;.