عبد الجبار العتابي من بغداد: في السنوات الست الماضية كان العد العكسي لاندثار المقاهي في بغداد يتضح بشكل لافت للنظر، لاسيما منها تلك التي تمتلك النكهة الخاصة والذاكرة الحية والعناوين الواضحة، والتي تمد اذرعها الى خارج المساحة التي هي فيها، حيث تعود البغداديون على عشق مثل هذه المقاهي التي تكون في الهواء الطلق، المطلة على الشوارع والتي لا تحدها حدود ولا جدران، وتحيط بها جماليات تبدو صورها واضحة من خلال اندماجها بالحياة العامة، وقد عانت المقاهي التي تحمل هذه الطبيعة خلال السنوات الماضية الكثير من المصاعب وتكورت داخل شرنقة المكان التي هي فيه، بسبب اعمال العنف العشوائية والخوف من رذاذها المتطاير، حين باتت الطرقات عرضة للانفجارات، وقد ادى ذلك الى اغلاق العديد من المقاهي التي تتميز بالحضور النوعي.. قسريا، ومن ثم موتها التدريجي، وما عدنا نراها الا من خلال شبابيك الذكريات، حتى سمعت احاديثا عن مقهى في الكرادة.

وحقا.. حين يحلو لك التجول هناك، ستلفت انتباهك قطعا هذه المقهى البغدادية الشعبية، التي تقع في ركن من اركان منطقة (ارخيته) في حي الكرادة / داخل، وستتوقف ازاءها ناظرا اليها وما حولها من حياة تدب في عروق المنطقة، فهي ضمن مساحة لا يمكنك الا ان تعاينها بمتعة كبيرة ودهشة واضحة ومن ثم فضول يدعوك الى الجلوس على مقاعدها، ولا تستغرب حين تجد في المكان ذاته ان ثمة اشياء مترابطة كالمطعم والمخبر وقاعة العاب وكازينو ودكان حلاق وصباغ احذية وغير ذلك، ولا تستغرب اكثر ان علمت ان المكان هو مستقرثابت للفنانين والادباء والاعلاميين مثلما هو للمواطنين العاديين، تجدهم من وقت ما بعد الظهر الى الليل، يتجمعون ويتناقشون باحوالهم الادبية والفنية وحتى السياسية، تدور فيما بينهم (استكانات) الشاي (السنكين) و (الناركيلة) المعمرة بالمعسل، وما يطلبون من مكملات (العرض) اليومي لجلوسهم البهيج المريح، بل ان اي حديث عن مقهى تجد الاخرين ينصحونك بهذه المقهى لانها كما يقولون تمتلك مؤهلات الجلوس فيها براحة واستمتاع، سيقال ما المدهش في هذه المقهى ؟، نقول انها ترسم اجواء جديدة لبغداد بعد ان اغلقت اكثر المقاهي ولم تبق الا قلة داخل جدران اربعة، ستشعر بالدفء الانساني والجمال البيئي، وتجد انك تجلس في واحة متكاملة، هذه المقهى عبارة عن مساحة رحبة لكل شيء، تقرأ في قسمات الوجوه استمتاعا جديدا، كما لفت انتباهي ان العديد من الفنانين والمثقفين المغتربين يلتقون فيه ويتعيدون بعضا من الحميمية الغائبة عنهم في غربتهم.

قال لايلاف المخرج المسرحي عماد محمد: (هذا المكان.. هو من اجمل الامكنة التي نرتادها بعد الانتهاء من عملنا في المسرح الوطني، تعودنا عليه بعد ان وجدناه مفتوحا على الامكنة التي حوله، ونلتقي باصدقائنا من المثقفين والفنانين، تعرفنا عليه بعد ان اعيتنا الحيلة في ايجاد مكان يجمعنا، وحينما لم تكن الحياة مفعمة كما هي الان، لكننا في تواجدنا المستمر اضفى عليه صورة مغايرة عما كان عليه، فكما ترى ان المقهى حيوي من خلال الحركة التي تدب في جسمه، فيمكننا التطلع الى الناس في الشارع ويمكننا ان نعاين السماء من فوقنا، نشعر فيه اننا نعيش على خشبة مسرح ومنه من الممكن ان نستمد بعض الافكار والجماليات، الا تشعر انك في مسرح حياتي جميل ؟، واضاف عماد : صرنا نشعر بمرور الوقت بحميمية مع هذه المقهى وصار عدد الفنانين يزداد حتى تحول الى ملتقى دائم لايمكننا الا ان نزوره يوميا ).

وفي الحقيقة انك سوف تتذكر قصيدة للسياب، تسمعها مثل اغنية شجية : (في المقهى المزدحم النائي، في ذات مساء / وعيوني تنظر في تعب، في الأوجه و الأيدي و الأرجل و الخشب : والساعة تهزأ بالصخب وتدق - سمعت ظلال غناء / أشباح غناء / تتنهد في الحاني، وتدور كإعصار بال مصدور/ ينتفس في كهف هار / في الظلمة منذ عصور).

ولكنك حين تعاين المقهى تأتي كلمات غيرها، تناقضها حتما، ستراه دانيا، وتشاهد وجوها منشرحة، وتسمع احاديث لينة، وتشعر ان مجالس الاصدقاء تصعد بأنفاسها، لا تشاهد دخان السكائر الا متراقصا، ولا البخار المتصاعد من (استكانات) الشاي الا لغة شعرية، اما الغناء فهو يأتيك رخيما من جهات مختلفة، وعلى الرغم من قرب المكان من الشارع العام للكرادة الا ان الهدوء يرسم ملامحه وليس من صخب مزعج ابدا، وثمة اشجار عالية ترسل ظلالها، وان كان هذا الوقت شتاء، فليس هنالك من شعور بالبرد، فالدفء يحيط بالمكان.

الممثل مرتضى سعدي قال لايلاف: (في لحطات البحث عن مكان جميل نقضي فيه (عصرياتنا) وامسياتنا، وقد تباعدت علينا الامكنة وصارت المقاهي التي كنا نرتادها سابقا غير مؤهلة او بالاحرى غير مريحة، ربما لبعد المسافة او لانغلاقها، وجدنا هذه المقهى فأقتربنا منها فاعطتنا متعة كانت مفقودة، ثم انها تقع وسط الكرادة التي صارت تمتليء بالحياة، فامتلأنا بحب الحياة مجددا، واضاف : هذه المقهى صارت تحتضن طموحاتنا، صارت ملتقى ثقافي نجتمع فيه ونتداول في امور التمثيل خاصة والحياة بشكل عام، واعتقد ان اجمل ما في المقهى هو جوها الخارجي المندمج مع الحياة العامة، فحينما ترفع رأسك تجد متعة في النظر، ومن ثم عليك ان ترى ان المكان حافل باشياء عديدة لاسيما المطعم الملاصق الذي يقدم اكلات بغدادية باسعار زهيدة والاجمل هو ما تراه على منضدة صاحب المطعم من عطور وحبات الهيل والجكليت وغيرها يقدمها للزبائن بعد وجبة الطعام).

كلام مرتضى جعلني اذهب الى المطعم واعاينه واشاهد ما قاله عيانا، وهو عبارة عن مطعم بغدادي (معاصر) هويته في تقديم الاكلات البغدادية المختلفة، بل واسأل صاحبه الذي قال ان هذه من مكملات المطعم البغدادي، حيث على الزبون ان يجد قبل خروجه حبة هيل، اوقطعة حلوى (جكليته) يحلي بها فمه،او رشة عطر يعطر بها يديه بعد تناول الطعام، وهو تقليد معروف في اغلب المطاعم البغدادية.

اما الممثل مهران عبد الجبار فقال : (انه اجمل مكان، فنحن نسترخي فيه، ونأتي باصدقائنا اليه، واصدقاؤنا من الفنانين المغتربين الذين يعودون الى بغداد يأتون هنا وتراهم في غاية المتعة والسعادة لانهم كما يقولون يتنفسون الرائحة البغدادية التي فارقوها منذ زمن بعيد، فيتلذذون بالطقس الحميم، هنا ننفض عنا هموم مشاغلنا، (استكان ) شاي ساخن وناركيلة وصحبة جيدة هي عبارة عن نشاط حياتي ليس هنالك اجمل منه).

ذهبت الى المكان مرة، فجعلني اعود اليه، وكلما عاينته متأملا اشعر به يتجدد !!، وكنت اقول اذا ما كان الشتاء يبعث كل هذه المتعة فكيف بالصيف حين المساءات تصبح اجمل.