تمثل مدينة كراتشي الساحلية العاصمة الاقتصادية لباكستان، وقد كانت العاصمة الإدارية حتى عام 1960 منذ إنشاء باكستان. وهي تضم الميناء وتعتبر شريان الحياة للبلاد كونها حلقة وصل بين باكستان والعالم عن طريق البحر. وهي من أكبر المدن على المستوى الدولي سكانا إذ تؤوي أكثر من 14 مليون نسمة. ومن ميزاتها التي لا تضاهيها فيها أي مدينة باكستانية أخرى، أنها تجمع المواطنين من كل أنحاء البلاد مثل الأم الحنون التي لا تفرق بين أولادها.


كانت كراتشي تسمى quot;مدينة الأنوارquot; بسبب سهر سكانها ليلا وإنارة طرقها وشوارعها التي لا يتوقف فيها السير، لكن من جديد، وكما حدث مراراً، تشهد سفك الدماء يوميا. ولا يرى لهذا العنف أي نهاية، لأن الجهات المعنية تفشل في الوصول إلى أهدافها رغم أنه تم نشر عدد كبير من عناصر الحرس في المدينة مع منحهم صلاحيات الشرطة. إضافة إلى منع ركوب شخصين لدراجة نارية واحدة منذ سنتين، لكن مع ذلك تستخدم الدراجات النارية في الاغتيالات.
ومع أن كراتشي تشهد هذا الوضع المأساوي منذ أشهر، إلا أن اغتيال النائب الإقليمي الشيعي على لوائح الحركة القومية المتحدة حيدر رضوي أوائل هذا الأسبوع أثار ضجة كبيرة، لا تزال أصداءها تسمع في البلاد، مع مواصلة تراشق الاتهامات بين الحركة والحزب الشعبي القومي.
والمشكلة أنه ليس هناك من يستطيع الوصول لأسباب هذا العنف. ومن هذا المنطلق تجب الإشارة إلى اللاعبين على ساحة كراتشي لتتضح الصورة.

الحركة القومية المتحدة
هناك أولا الحركة القومية المتحدة، وهي أكبر حزب برلماني منتخب من كراتشي وتتحالف مع حزب الشعب في حكومة السند والحكومة المركزية وزعيمها ألطاف حسين يعيش في المنفى الاختياري بلندن منذ عقد من الزمن. وهذه الحركة تعمل مثل العصابات أكثر من حزب سياسي، ولديها وحدات حزبية في معظم المناطق من كراتشي، ولديها أسلحة. وقد قامت الحكومة الباكستانية بإجراء عمليتين عسكريتين في كراتشي ضدها، مرة زمن نواز شريف والمرة الثانية في عهد حكومة بناظير بوتو. وقد تم الكشف آنذاك عن السجون الخاصة والمشانق وغرف التعذيب. إلا أن برويز مشرف تحالف معها بعد انقلابه العسكري على نواز شريف. وبذلك أصبحت أقوى أكثر.
وألغى مشرف آلاف القضايا الجنائية ضد عناصر هذه الحركة عن طريق مرسوم المصالحة الوطنية، كما تم تعيين عشرة العباد المنتمي للحركة حاكما لإقليم السند رغم أن هناك أكثر من عشرين قضية مسجلة ضده. ولعله أول حاكم يتم تعيينه على أسس سياسية، لأن التقليد في باكستان تعيين حكام الأقاليم من الشخصيات غير السياسية. كما أن عشرة العباد لا يزال يعمل على هذا المنصب.
وهناك خلاف دائر بين الحركة القومية المتحدة وحركة المهاجرين المتحدة المنشقة عن الأولى. وتقوم المجموعتان باغتيال عناصر وقادة المجموعة الأخرى إذا سنحت لها الفرصة. والمعركة بينهما محتدمة منذ أواخر التسعينات. ومنذ ذلك الوقت هما تتقاتلان وفي الوضع الراهن أيضا معظم القتلى ينتميان إلى هاتين المجموعتين.

الحزب الشعبي القومي وآخرون
هو حزب بشتوني يحكم إقليم خيبر بختونخواه، وحليف لحزب الشعب والسند والحكومة المركزية. وله نفوذ في بعض المناطق من كراتشي حيث يعيش البشتون. وقد دارت خلافات حزبية بينه وبين الحركة القومية في الماضي. ويقال أنه أيضا يمتلك السلاح.
هذا إضافة إلى المجموعات المتطرفة المحظورة وهي في معظمها مجموعات جهادية سابقة. ورغم الضجة الكبيرة ضد عناصرها، فإنها قد تكون متورطة في العنف الطائفي؛ لكن لم تكن لها يد في قتل العمال أو المارة في الماضي.
كما هناك مافيا المخدرات والعقارات، التي تتاجر بالمخدرات والأسلحة وتغتصب الأراضي في مختلف أنحاء كراتشي، لكن حروبها تكون داخلية عادة، ومحصورة في قتل الخصوم وتصفية العراقيل في طريقها. ولا تعود إليها أي فائدة بقتل الأبرياء والناس العاديين.

ضحايا يومياً
يقتل كل يوم في كراتشي من المواطنين الأبرياء إضافة إلى نشطاء الأحزاب المختلفة ولاسيما الحركة القومية المتحدة والحزب الشعبي القومي. ومع أن الضجة عالية، لكن ليس هناك من يرفع الصوت إذا قتل شخص كان نائما على قارعة الطريق أو في حديقة أو عامل كان عائدا إلى بيته أو ذاهبا إلى عمله.
وهنا السؤال من وراء العنف في كراتشي؟ والرد عليه أنه بالعودة لما جرى خلال الأعوام الأخيرة في باكستان، ولاسيما في كراتشي يمكن الوصول إلى المتورطين في العنف وإنشاء الفوضى في كراتشي.
من المعروف أن الحركة القومية المتحدة كسبت نفوذا أكبر خلال السنوات التسعة لمشرف في الحكم. فشكلت حكومة مدينة كراتشي وأمسكت بزمام الأمور، وقد قام وفود للحركة بزيارات عديدة إلى الولايات المتحدة. كان أهمها زيارة عمدة كراتشي د. مصطفى كمال حيث أجرى لقاء مع نائب الرئيس الأميركي وقد أثارت أوساط مختلفة آنذاك أسئلة حول ذلك اللقاء والأهمية التي تم تعليقها عليه.
كما أن الحركة القومية بدأت حملة شعواء على طالبان وهي تصيح منذ سنتين بأن مدينة كراتشي تتعرض للطلبنة، وطالبان من البشتون وهم يجدون ملاجئ آمنة في المناطق التي تؤوي البشتون وبها نفوذ للحزب الشعبي القومي. ومن هذا المنطلق أعلنت حكومة السند العام الماضي تسجيل البشتون في كراتشي، إضافة إلى معارضة شديدة من قبل الحركة القومية لإيواء المشردين من سوات جراء العمليات العسكرية في كراتشي، مبررة بإمكانية انتقال عناصر طالبان إلى كراتشي ضمن المشردين. كما وأن الحركة أكدت أكثر من مرة أن طالبان هم وراء العنف في كراتشي، إلا أنها قامت بتوجيه بنان الاتهام إلى الحزب الشعبي القومي بأنه يؤوي عناصر طالبان لديه.

العنف المبرمج
إن فكرة الحركة القومية عن البشتون هي فكرة أميركية، والحركة تحظى بمباركة أميركية في برامجها. وقد أكدت مصادر مستقلة أن نشطاء الحركة القومية هم الذين يقومون بإحراق ممتلكات البشتون في كراتشي، مبررة ببيانات أدلى بها بعض المعتقلين لدى الشرطة. وهذا ما لا يمكن رفضه من قبل المصادر المحايدة.
ويؤكد هذا الرأي تصريحات وزير الداخلية لإقليم السند د. ذو الفقار مرزا والذي قال في المجلس الإقليمي قبل نحو شهرين، عندما ازداد العنف في منطقة لياري التابعة لكراتشي، quot;نحن الذين نقوم بقتل الناس، لماذا لا يقتلني أحد؟ لماذا لا يُقتل النواب؟ لماذا يقتل المواطن العادي؟ من يريق دماء الأبرياء؟ العراقيل السياسية جعلتنا عميا وصما، لا بد أن نفكر في أننا سنقوم أمام الله عز وجلquot;.
طبعا هذه التصريحات لم تعجب الحركة القومية. وبالتالي قاطعت الحركة اجتماعات مجلس الوزراء الإقليمي، ووصل الأمر أن يتصل وزير الداخلية عبد الرحمن ملك برئيس الحركة ألطاف حسين الذي يعيش في لندن وتوسل إليه بمواصلة التحالف مع الحكومة. وبعدها أصدرت الحكومة quot; صك براءةquot; بحق الحركة القومية بأنها ليست وراء العنف.

صكوك براءة للبعض
ومن الغريب أنه وبعد اغتيال النائب على لوائح الحركة حيدر رضا في كراتشي، خرج وزير الداخلية ليقول quot;يمكن لي القول بأن الحركة القومية والحزب الشعبي القومي ليسا وراء العنف في كراتشي، بل المجموعات المحظورة من (سباه صحابة) و(لشكر جهنكوي) وراءهquot;. مما أثار أسئلة كثيرة في الأذهان أولها: لماذا احتاج وزير الداخلية إلى إصدار quot;صك البراءةquot; لهذين الحزبين المتحالفين لحكومة حزب الشعب؟ رغم أن القانون يقول إنه لا يمكن تجريم أحد قبل أن تكون الدلائل كافية للإدانة. فهل وصل وزير الداخلية إلى نتائج عن طريق التحقيق؟ والرد على هذا السؤال سلبي.
كما أن المفتش العام لشرطة كراتشي أكد يومها أن quot;القوى السياسية لا تترك لنا مجالا للعملquot;، مشيرا أنه quot;كلما اعتقل أحد، يأتي اتصال من السلطات العليا لإطلاق سراحهquot;. وفي هذا الوضع المعقد من السهل إلقاء المسؤولية على عاتق quot;القوة الثالثةquot; أو quot;المجموعات المحظورةquot; أو quot;طالبانquot; أو quot;القاعدةquot; لتغطية ما يجري من الظلم والتخلي عن مسؤولية حماية المواطنين.
وكلما تحرك حزب الشعب للعمل ضد المجرمين، تبدأ الحركة القومية الصراخ بأنه يتم استهداف نشطائه وتهدد بالانسحاب من الحكومة. وبالتالي تبدأ الاتصالات بين الحزبين لمواصلة quot;سياسة المصالحةquot;، وينتهي الأمر بخنوع الحكومة أمام مطالب الحركة. وهذه اللعبة مستمرة منذ مجيء حزب الشعب إلى الحكم نتيجة انتخابات عام 2008.
وليس أدل على ذلك من الضابطة الأخلاقية التي وقعها حزب الشعب والحركة القومية والحزب الشعبي خلال آب -أغسطس الماضي، بعد جهود مضنية من رئيس الوزراء جيلاني الذي توصل لتلك الاتفاقية بعد لقاءات جرت مع الحزبين خلال زيارته لكراتشي. واتفق بموجب ذلك على عشر نقاط، ثلاث منها عن طالبان والكشف عنهم، لكن رغم ذلك لم يتوقف العنف بعد.

بين طالبان والقاعدة
يرى البعض أن ما يجري في كراتشي والمناطق الأخرى من باكستان من العنف والفوضى هو وفق خطة القاعدة للمنطقة، إذ أنها ترغب في قطع خط الإمدادات عن القوات الدولية في أفغانستان. وتخدمالفوضى في كراتشي هذه المصلحة لكونها نقطة انطلاق تلك الإمدادات. وتشير المصادر إلى أن القاعدة ترغب في إشغال الجيش الباكستاني في البلاد لتخفيض ضغطه على القوى المناوئة للولايات المتحدة والمقاتلة لها في أفغانستان.
وترى هذه المصادر أن القاعدة قد نجحت في هذه الخطة ففتحت عدة جبهات في المناطق القبلية لتوزيع قوة الجيش الباكستاني. وفعلا رفضت القوات الباكستانية استهلال أي عملية عسكرية جديدة في المنطقة إلى حين احتواء العمليات الجارية وتعزيز الوضع الأمني في المناطق التي تم إخلاؤها من المسلحين. وهذا ما دفع قائد الجيش الباكستاني الجنرال كياني إلى رفض الطلب الأميركي بشن عملية عسكرية على المسلحين في وزيرستان الشمالية ولا سيما شبكة حقاني.