تمثل مدارس الطين في العراق تحديا كبيرا أمام خطط تطوير برامج التربية والتعليم في العراق منذ السبعينيات حيث لم تنجح الحكومات المتعاقبة من القضاء على هذه الظاهرة. ويشكو الطلاب وطاقم التدريس على حدّ سواء من نقص الخدمات وغياب التأطير والعناية بهذه المدارس التي ازدادت عددا.


مدرسة عراقية تمّ تشييدها بالطين

بغداد: مازال المعلم عريبي كاظم يعطي الدرس لتلاميذه في قرية (الحراكصة) جنوبي بابل (100 كم جنوبي بغداد) ضمن مدرسة طينية، يتألف طاقم تدريسها من معلمين فقط.

وفي الساحة الترابية للمدرسة تلمح العين ما يقارب التسعين طالبا، يعلو وجوههم الغبار، وتلفح وجوههم شمس حارقة، لا يجد التلاميذ فيها، ظل شجرة أو سقف يحتمون به.

ويقول عريبي الذي تمتد تجربته التعليمية لأكثر من عقدين، إن الصيف على حرارته هو أخف وقعا على التلاميذ من شتاء قارص، حيث يعاني الطلاب في الصفوف الأربعة التي تضمها المدرسة الحر الشديد من دون تكون هناك وسائل تدفئة عدا مدفأتين زيتيتين تنتقل بين الإدارة والصفوف. وفي حالة نفاذ الوقود فان الحاجة لهما تنتهي تماما.

التحدي الكبير

تمثل مدارس الطين في العراق تحديا كبيرا أمام خطط تطوير برامج التربية والتعليم في العراق منذ السبعينيات حيث لم تنجح الحكومات المتعاقبة من القضاء على هذه الظاهرة.

ويقول المعلم كريم حسن الذي يخدم في سلك التعليم منذ ثلاثة عقود ان المدارس الطينية ازدادت عددا في العراق مع مرور الزمن وليس العكس .

انتكاسة التعليم

أحدثت الحرب التي دخلها العراق مع ايران عام 1979 انتكاسة كبيرة للتعليم في العراق، ومنذ ذلك التاريخ لم تبنى الا أعدادا قليلة من المدارس في بعض المدن الكبرى.

ويضيف حسن: حتى مدارس المدن تعاني من نقص الخدمات وتقادم البنايات، إضافة إلى الازدحام الكبير في أعداد الطلاب.

وفي مدرسة المنامة في بابل، يضم الفصل الواحد نحو أربعين طالبا، وينطبق هذا على الكثير من مدارس العراق.

وبحسب إحصائية لوزارة التربية العراقية عام 2011 فان عدد مدارس quot;الطينquot; في العراق يبلغ أكثر من ألف مدرسة، تضم حوالي خمسة عشر ألف طالبا، ويخدم فيها حوالي سبعة آلاف معلما.

وشاركت الناشطة النسوية عادلة محمود في آذار عام 2011 في حملة وطنية لحث الحكومة على زيادة عدد المدارس في العراق. وقالت عادلة ان الحملة ستستمر على مدى عام كامل بعدما تفاقمت أعداد الطلبة في المدارس بشكل يصعب معه استمرار العملية التعليمية.

وتتابع عادلة: حتى في مناطق مستقرة منذ فترة طويلة مثل كردستان ، فان المدارس تعاني من الزحمة بسبب النقص في الأبنية المدرسية.

وتؤكد عادلة ان التعليم الحكومي بدأ يفقد هيبته أمام المدارس الأهلية مع تفضيل أصحاب الدخل الجيد لها على المدارس الحكومية.

وأضافت: يبلغ عدد المدارس الأهلية في عموم العراق، حوالي ثلاثمائة وخمسين مدرسة ، وسيزداد العدد مع تحسن المستوى الاقتصادي للعائلة العراقية التي ترى في المدارس الأهلية، المكان الأفضل لتعليم أبنائها.

وتقول المعلمة أحلام سعيد إن (اكتظاظ) الصفوف بالطلاب يجعل من الدرس ليس ذا جدوى. وتضيف: تضيع المعلومة بين صخب الطلاب، حيث يصعب إيصالها إلى كل التلاميذ.

نقص في اعداد المعلمين

في الوقت الذي تعاني فيه المدارس من الزحمة، هناك نقص واضح في اعداد المعلمين، ومقابل ذلك فان هناك أعدادا كبيرة منهم عاطلون هن العمل.
هذه المعادلة غير المتوازنة توضح عقم الخطط التربوية وعدم منهجيتها. فمازالت سرى التي تخرجت من معهد المعلمين تشكو البطالة على رغم مضي أربع سنوات على تخرجها.

ولم تنجح سرى حتى في الحصول على عمل تطوعي في احد المدارس تمهيدا لشق الطريق نحو الحصول على وظيفة.

ويقول المشرف التربوي في كربلاء (108 كم جنوب غربي بغداد) حاتم مالك ان سبب البطالة بين المعلمين يعود الى عدم امتلاك الوزارة الأموال اللازمة لتعيين معلمين جدد على quot;الملاكquot;.

ويجد حاتم في تقارير المسؤولين عن انجازات كبيرة في قطاع التعليم ، يجدها بعيدة عن الحقيقة ويعتبرها محاولة لتغطية الفشل.

ويتساءل: زيادة رواتب المعلمين والموظفين ليس تقدما، و الانجاز الحقيقي هو في تشييد المدارس الحديثة عوضا عن المئات من مدارس الطين في العراق، إضافة إلى (المدارس الأكواخ).

ويتابع: حتى المدارس التي تم تحديثها اُسندت مهمة بنائها الى مقاولين فاسدين لم يستثمروا إلا عشرة بالمائة من المبلغ المرصود. ويشير حاتم الى مدرسة تم تأهيلها حديثا، انهار سياجها بعد فترة قليلة من انتهاء الترميم، كما ان طليت بأصباغ ، لم تجف الى الآن .

ويضيف: كان التحديث عبارة عن تزويق ، سرعان ما كشف عن عمليات الفساد التي رافقته.

المناطق النائية

غالبا ما تبنى مدارس الطين بناء على طلب أهالي المناطق النائية، شرط ان لا يقل عدد الطلاب عن 45 طالبا في المرحلة الواحدة مع توفير الأهالي قطعة ارض لإنشاء مدرسة من الطين أو أعواد القصب أو النخيل.

لكن المفتش التربوي ليث الجبوري من النجف ( 160 كم جنوبي بغداد) الذي قضى نحو أربعة عقود في سلك التعليم لا يرى ان الاستجابة لطلب الأهالي، مبررا لإنشاء مدارس لا تفي بشروط التعليم الصحيح .

ويتابع: من الممكن جدا رصد الأموال اللازمة لتشييد مدارس بطريقة البناء الجاهز أو (الكرفانات) التي تتوفر فيها ظروف ملائمة لإعطاء الدرس.

ويقول: هذه المدارس لن تكون مكلفة إضافة إلى أنها سريعة التشييد. ويرى الجبوري ان تعليم الجيل الجديد أهم من تأهيل أرصفة الشوارع او بناء الدوائر الحكومية.

الدوام المزدوج

تفتقر اغلب المدارس في أرياف العراق الى الشروط الصحية اللازمة والخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء، إضافة إلى انعدام وسائل التعليم الحديث.

يقول المعلم في الأرياف على صاحب حميد انه يعاني صعوبات كبيرة في الوصول الى المدرسة الطينية في قرية (العوادل) جنوبي بابل.

وفي مواسم الأمطار والبرد الشديد حيث تغلق الطرق الترابية، فان حميد يضطر إلى التغيب.

وبسبب قلة المدارس فان مسئولي التربية في العراق اعتمدوا الدوام المزدوج، حيث يستقبل المدرسون وجبتين من الطلاب يوميا.

ويقول المعلم كريم سيد حسين، المعلم في مدرسة نائية في أرياف جنوب بابل، ان هبوب الرياح او الأمطار يثير فزع الطلبة والأساتذة معا.

ويتابع: لكن هذه المدارس الطينية تعكس صور ايجابية عن رغبة العراقيين لاسيما أبناء الريف على التعلم على رغم الصعوبات، ويضيف : اذا خيّرت أهالي المناطق الني تتواجد فيها هذه المدارس، بين غلقها او الإبقاء عليها هكذا، فانهم يفضلون استمرارها على رغم قلة الخدمات.

ويقول الحاج سالم الخزاعي ان المدرسة مهما نقصت خدماتها فإنها ضرورية لتعليم الأبناء ، لكننا نهيب بالحكومة دعم المعلم والطلاب وزيادة طواقم المعلمين.

المئات من المدارس الطينية

توجد في العراق نحو خمس عشرة الف مدرسة من ضمنها المئات من المدارس الطينية ومدارس الأكواخ، وغالبا ما تتألف مدرية الطين من معلمين اثنين او ثلاثة.

كان العراق من الدول المتقدمة في مجال التعليم في السبعينات والثمانينات حيث حصل على جائزتين من اليونسكو قبل عام 2003، بسبب الانجازات المتحققة في قطاع التربية والتعليم.

وتعد فترة التسعينات بحسب تربويين عراقيين انتكاسة كبرى للتعلم في العراق بسبب الحصار الاقتصادي الذي خلق أزمة كبيرة في عدد المدارس ومستوى الخدمات، إضافة الى هجرة أعداد كبيرة من المعلمين والتدريسيين الى خارج العراق .

ويؤكد سعيد رحيم المشرف على بناء ثلاث مدارس في محافظة بابل ان تشييد المدارس في انحاء العراق قائم على قدم وساق، ولا يمكن مقارنته بالحالة قبل عام 2003 حيث انحسر بناء مدارس جديدة بشكل تام، بسبب افتقار الدولة الى الأموال اللازمة لذلك بسبب الميزانية السنوية التي كانت تذهب في اغلبها إلى التصنيع العسكري والجهد الحربي.

صورة متفائلة

ويرسم المشرف التربوي علي العيساوي صورة متفائلة للتعليم في العراق، ويقول ان عدد المدارس المشيدة في عام 2011 كثير جدا، مما يبعث الأمل على عملية تعليمية ناجحة في العراق.

جيوب الفاسدين

لكنه في ذات الوقت، ينتقد الاعتماد على مقاولين محليين لا يمتلكون الخبرة في تشييدها، ويطالب بإشراف هندسي من قبل أصحاب الاختصاص، ورقابة دقيقة، لتلاقي صفقات الفساد عند بناء هذه المدارس كما حدث في مناطق كثيرة من العراق.

ويضيف: زرت الكثير من المدارس المشيدة حديثة، وجدت أنها دون المستوى المطلوب قياسا الى حجم المبالغ الطائلة المخصصة لتشييد كل مدرسة.

ويعتقد الكثير من العاملين في قطاع التعليم في العراق ان اغلب المبالغ المخصصة لتأهيل المدارس ومؤسسات التعليم في العراق تذهب في جزء كبير منها إلى جيوب الفاسدين.