عراقيون يبحثون عن أسماء مفقوديهم

مازال العراق غير قادر على طي صفحة المفقودين والقتلى مجهولي الهوية الذين سقطوا على مدار سنين مضت في مختلف الحروب التي خاضها أو تعرض لها هذا البلد، فيماما زال ذوو الضحايا يبحثون عبثا عن جثث أبنائهم.


انقضت الحروب الداخلية والخارجية في العراق، لكن آثارها مازالت ماثلة في نفوس الذين فقدوا أشخاصا لم يعرف مصيرهم الى الآن، والى جانب الآثار النفسية، هناك آثار مادية مازالت تحفر بأدلتها في الذاكرة العراقية . وهذه الأدلة هي المقابر الجماعية المكتشفة بين الحين والآخر أو الجثث التي يجدها الناس بين من وقت لآخر.

وطيلة عقود، وبالتحديد منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988) لم تتحول قضية المفقودين إلى ماض يمكن طي صفحاته، لان القضية تجددت منذ العام 2003 حين اجتاح الجيش الأميركي العراق، وفقد العراقيون أبناءهم و أقرباءهم وأخوة لهم لاسيما في فترة العنف الطائفي التي خلفت آلافا من الأسماء التي لا يعرف مصيرها إلى الآن .

ففي عام 1982، فقد حسين الصافي أخاه في الشلامجة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ولم تفلح جهوده طيلة عقود في معرفة المصير الذي انتهى اليه أخوه سوى انه مفقود. والصافي واحد من آلاف العراقيين الذين تقطعت بهم السبل في معرفة مصير أبنائهم حيث باتوا يدورون في حلقة مفرغة من البحث غير المجدي.

مسلسل القتل
ومع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ظلت أخبار المفقودين يتداولها العراقيون بهمس، مستسلمين لقدرهم، بسبب القبضة الأمنية الحديدية للنظام وقتذاك . لكن قصص مفقودي الحرب، عاودت العراقيين بوتيرة أكثر إيلاما وبشاعة منذ العام 2003، مع ظهور بوادر حرب طائفية لم تنته آثارها الى اليوم.

وسليم كريم احدى ضحايا العنف الطائفي كان يقود سيارته جنوب بغداد وهي المنطقة التي كان يطلق عليها مثلث الموت، ومنذ العام 2005 لم يعثر له او لسيارته على اثر . وبحسب شقيقه ساجت فان شهود عيان رووا له ان كريم انطلق بسيارته من كراج (العلاوي) مع شخصين استأجراه، ليغيب ذكره منذ ذلك اليوم .

أمل زائف
وفي منطقة زيونة في بغداد اختطفت عصابة الضابط السابق في الجيش العراقي أمين قادر عام 2006، ولم تفلح جهود زوجته وابنه عصام ( 27 عاما ) من الوصول الى لغز اختطافه، سوى أن عصام واثق من أن اختطافه كان لأسباب طائفية .

يقول الحقوقي العراقي ليث الجادرجي ان اكبر مشكلة عالقة خلفتها حروب العراق هي المفقودون، لانها خلفت آمالا زائفة بالعثور على اولئك المغيبين من الحياة، ففي الكثير من الاحيان تكتشف ان المفقود ليس أسيرا أو مختطفا كما يظن أهله بل هو مدفون في مكان ما في ارض الله الواسعة.

ويشير الخبير الامني المتقاعد أحمد الجنابي الى أن القتل على الهوية في اعقاب تفجير قبة الامامين العسكريين في شباط 2003 في سامراء، خلف الكثير من الجثث المجهولة الهوية . ويضيف ... اليوم نحصد النتائج ذلك، فالأشخاص المفقودون هم بين تلك الجثث المدفونة، المجهولة الهوية.

وتدرج المنظمة الدولية للصليب الاحمر اسماء الاف المفقودين في سجلاتها منذ الثمانينات، يشكلون بمجموعهم حوالى 4% من سكان العراق وهي نسبة كبيرة جدا تكشف هول ما لاقاه العراقيون من الحروب الداخلية والخارجية.

زوجات المفقودين
واستسلمت كريمة حاجم أخيرا لليأس بعد طول بحث عن زوجها المفقود العام 1982 في البصرة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وكان الذي يصبرها ما يتناقله كثيرون من ان أسرى عراقيين لا يزالون في إيران. وكريمة التي تعيش مع أهلها، لم تستطع حتى ان تبدأ حياتها من جديد، لانها ما زالت الى الان على ذمة زوجها، فالأعراف الاجتماعية لم تسمح للآخرين بطلب يد زوجة على ذمة رجل لم يقرر مصيره الى الآن .

واغلب الأمهات العراقيات، لا يقبلن بالأمر الواقع حتى وان توفرت دلائل موت أبنائهن، فما زالت أم علي تحلم بعودة ابنها الذي وجدت جثته في مقبرة جماعية في منطقة المحاويل (30 كلم شمالي مدينة الحلة جنوب بغداد) . وكان علي شارك في انتفاضة مسلحة ضد نظام صدام حسين عام 1991، ومنذ ذلك الحين لم يعرف مصيره .

ورغم ان الجهات الجنائية والصحية العراقية تستخدم فحوصات الحامض النووي للتعرف إلى الجثث في مراكز الطب العدلي، الا ان هذا الامر ما زال محدودا جدا، كما انه مكلف من الناحية المادية، وتستغرق عملية الفحص عدة اشهر. وبحسب احصائات أمنية فقد دفنت حوالي 2300 جثة مجهولة الهوية خلال عام واحد (2006 ndash; 2007 ).

المفقودون من القاعدة
ويرى شاهد عيان هو كامل فاضل الذي عمل في سلك الشرطة منذ العام 2004، أن أغلب المفقودين هم من ضحايا القاعدة والميليشيات من مختلف الطوائف. ففي مناطق ديالي وطريق بغداد الموصل وفي مثلث الموت غيبت القاعدة الكثير من رجال ونساء العراق . وفي الوسط والجنوب كانت الطرق الخارجية، وأطراف المدن ساحة للميليشيات، قتل فيها الكثير من العراقيين المختطفين ورميت جثثهم في الانهر والبراري.

وعن طريق التحري غير المقصود عثر حسين كامل من اليوسفية (30 كلم جنوب بغداد ) على سيارة أخيه المفقود منذ عام 2006 في منطقة اللطيفية بجانب ضفة نهر . وكان الضحية واسمه ضيف كامل في رحلة عمل بسيارته الى بغداد .
ومازال الأهالي في المناطق والقرى المحاذية للطريق الدولي بين العراق سوريا والأردن يعثرون بين الآونة والأخرى على جثث مجهولة.
وشارك حميد الفياض مع الأهالي والجيش عام 2007 في العثور على حوالي ثلاثين جثة في منطقة الثرثار . وبحسب الفياض فانه لم يتم التعرف إلى الجثث.

المقابر الجماعية
وغالبا ما تكون المقابر الجماعية والأنهار والبراري والمناطق المهجورة و قنوات تصريف المياه، المكان المثالي للتخلص من الجثث، إذ يتعمد الفاعلون رميها هناك لغرض إبعادها عن الأعين والتخلص منها بأسرع وقت ممكن .
وغالبا ما يؤدي تفسخ الجثث الى غياب ملامحها وبالتالي يصعب التعرف إلى أصحابها.

ومنذ العام 2008 صارت عمليات معالجة الجثث المجهولة الهوية تحظى باهتمام أكثر بسبب استتباب الوضع الأمني الى حد ما وانخفاض أعمال القتل على الهوية... وفي منطقة الدورة في جنوب العاصمة بغداد شارك حميد العلواني العامل في الطب العدلي في انتشال 35 جثة متفسخة في الدور المهجورة في منطقة هور رجب.

ويشير بعض أهالي الضحايا الى الفوضى الأمنية والسياسية في سنوات الاقتتال الطائفي الى الحد الذي فقد فيه المواطن ثقته بمراكز الشرطة التي تعاون بعض منتسبيها مع الميليشيات، كما شكك آخرون حتى في دور بعض الوزارات التي اخترقتها الميليشيات، لتغيب بين تلك المؤسسات حقائق القتل التي غالبا ما سجلت ضد مجهول في تلك السنوات. وكانت تحقيقات اشارت الى ان الميليشيات نجحت في اختراق أجهزة وزارة الصحة لتمرير جرائمها لاسيما ما يتعلق منها بالتعرف إلى الجثث في تلك الفترة.

حوادث الاختفاء
ويمكن قياس حجم المشكلة التي مر بها العراق حين نرى ان حوادث الاختفاء، كانت ترتكب في وضح النهار كما حدث مع كادر اللجنة الاولمبية و اختطاف موظفي وزارة التعليم العالي، الذين لم تنفع درجاتهم الوظيفية العالية في اكتشاف لغز اختفائهم، ومنهم سلام سويدان مدير دائرة البعثات في وزارة التعليم العالي والذي يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، حيث لم يتمكن شقيقه من العثور على جثته طوال عام من البحث، حتى عثرت عائلته على جثته مدفونة في مقبرة خاصة بمجهولي الهوية ليتم نقلها الى مقبرة العائلة في الرمادي.

وبحسب وزارة حقوق الانسان العراقية، فان هناك نحو 14 ألف مفقود عراقي منذ عام 2003 .والمفقودون الـ14 ألف اختفوا غالبيتهم في ظروف غامضة خلال العنف الطائفي الذي ضرب البلاد عامي 2006 و 2007، ولم تتمكن عائلاتهم من العثور على جثثهم أو التوصل الى معلومات تدلل على إنهم أحياء أو أموات أو معتقلون.