يشير الحديث الشائع بين شرائح المجتمع العراقي عن الرشوة إلى مدى استفحالها،حتى إن الظاهرة لم تعد سراً، وهي بالتالي لا تحتاج أرقامًا وإحصائيات ودلائل، طالما أن كل فرد من أفراد المجتمع يتعايش معها في حياته اليومية، مشاركًا عن اختيار أو اضطرار أو مجبرًا للانخراط في وقع أحداثها من حوله.
تفشي ظاهرة الرشوة في العراق تبعث على القلق |
بغداد: تبلغ أقصى حالات الرياء في المجتمع حين تمرر تحت مفهوم quot;الهديةquot;، أو quot;التكريمquot;، أو quot;الأجر على التعبquot; في كثير من الأحيان، صفقات الرشوة والفساد، محدثة نفاقًا اجتماعيًا يزداد فعله في المجتمع العراقي في ظل توق البعض إلى جني أكبر قدر ممكن من المال، مستغلاً وظيفته أو مركزه الوظيفي أو الاجتماعي عبر شبكات من الفساد تتم عبر وسطاء.
انحسار القيم
وتبعث حالات الفساد والرشوة على القلق الكبير حين يروي لك ابو تحسين (تاجر قطع غيار للسيارات) انه نجح في تسهيل نجاح ابنه مقابل تقديم رشوة إلى أشخاص يرتبطون بإدارة المدرسة.
ورغم تأكيد مواطنين أن الرشوة في المدارس قليلة قياسًا إلى مؤسسات حكومية أخرى، إلا أنها تحدث في الكثير من المدن.
وعلى الرغم من أن العراق يشترك مع الكثير من الدول في تفشي ظاهرة الرشوة والفساد، الا انها ارتبطت في العراق بتداعيات سياسية واقتصادية أفرزتها الحروب والأزمات الأمنية والاقتصادية التي ساهمت في انحسار الكثير من القيم التي تحول دون انتشار الرشوة وغير ذلك من مظاهر الفساد.
رشوة أم هدية
أغرى كريم العتابي موظفًا في البلدية بمبلغ مائتي دولار لتمرير معاملته في الحصول على قطعة أرض. لكن العتابي لا يعتبرها رشوة، بل هدية، ذلك أن أوراقه الرسمية لا يعوزها نقص، لكنه منح الموظف المبلغ لتذليل صعوبات محتملة، ولكي يسرع الموظف في تقديم الطلب ومتابعته داخل الدائرة البلدية.
وبحسب تقارير منظمة الشفافية الدولية عام 2009، فإن العراق هو من بين أكثر الدول فسادًا في العالم.
يصف سمير الدليمي الموظف في بلدية كربلاء (108 كم جنوب غرب بغداد) كيف ان الرشوة تحولت في العراق إلى طريقة عيش.
ويتابع: الكثير من العراقيين تعودوا على اصطحاب quot;وساطاتquot; أو quot;معارفquot; للموظف المقصود، حتى وإن كان الموظف نزيهًا، لغرض تسهيل انسيابية المعاملات الرسمية.
ويروي كيف أنه يعايش يوميًا عشرات الحالات التي تعرض فيها عليه هدايا ومبالغ لأجل التغطية على النقص في الأوراق الرسمية على سبيل المثال.
قانون العقوبات
بحسب الخبير القانوني سعيد إسماعيل، فإن قانون العقوبات العراقي يشمل الراشي والمرتشي والرائش، وهي السجن نحو 10 سنوات.
يدافع اسماعيل باعتباره محاميًا، في دعوى قضائية على ضابط شرطة في بابل (100 كم جنوب بغداد) اتهم بالرشوة عن طريق تعاطي مبالغ مالي مقابل تصديق وكالات غير أصولية لأشخاص وهميين.
ويضيف اسماعيل: الدلائل تشير الى حقيقة ما حدث، لكن الضابط المتهم لا يتحمل مسؤولية ذلك وحده، فقد تبين ان الراشين زاروه مرات عدةفي البيت لإقناعه بعدما رفض في المرة الأولى المبالغ التي قدمت له، لكنه تحت إغراء المادة، اضطر الى قبول العرض.
يؤكد اسماعيل صحة القبض على آمر حماية رئيس مجلس محافظة بابل متلبسًا بتعاطي الرشوة في أب/أغسطس 2011.
والتزم اسماعيل ومجموعة من المحامين القضية التي تتضمن تلقى المتهم رشوة تقدر بآلاف الدولارات من شركة الريف لتمرير صفقة تجهيز مجلس المحافظة بالآليات، حيث أُلقي القبض على المتهم متلبسًا باستلام المبالغ.
الغبن الاجتماعي
وبحسب الباحث الاجتماعي رؤوف عسكر العتبي، فإن تحسن الوضع الاقتصادي ربما يحدّ قليلاً من حالات الرشوة، لكن استمرار الغبن الاجتماعي والروتين الإداري يسهّل تمرير صفقات الفساد بين الموظفين الصغار والكبار على حد سواء.
في الغالب فإن عمليات الرشوة تحدث بين موظفين ليسوا أهلاً لمناصبهم، بسبب ضعف تحصيل مستواهم العلمي، وانحدار قيمهم الأخلاقية، وضعفهم أمام المال والإغراء، في حين يكونمعظم الراشين هم من الذين يسعون الى تمرير صفقات مشبوهة.
وفي غالب الأحيان لا تتم حالات الفساد هذه بصورة مباشرة، بل عبر وسطاء خوفًا من انكشاف الأمر.
سلوك اجتماعي
بحسب الاختصاصي في علم النفس في جامعة بغداد علي حسين، فإن الرشوة في العراق تعد سلوكًا اجتماعيًا قديمًا في المجتمع، لكنها استفحلت بسبب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي سببتها الأزمات والحروب.
ويتابع: الروتين الإداري وضعف الرقابة الحكومية، وسيادة الإدارة البيروقراطية وانحدار مستوى التعليم، وسوء استخدام السلطة، كلها عوامل تسهم اليوم في تفشي مظاهر الفساد.
لكن رجل الدين محمد باقر في الكاظمية (من المناطق المقدسة في جانب الكرخ من بغداد) فيرى ان القيم الدينية تساهم الى حد كبير في الحدّ من مظاهر الفساد، لاسيما الرشوة، فرجال الدين يحثون في المناسبات المختلفة على حرمة هذه الأعمال.
اختلاط المفاهيم
ويتابع: تحرّم الشريعة الإسلامية الرشوة، حيث قال الله في سورة البقرة (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
ويتابع: كثيرون يستفسرون مني عن تحليل أو تحريم بعض الحالات التي يقدمون فيها مبلغًا نقديًا أو هدايا إلى بعض المسؤولين والموظفين، مدّعين أنها ليست رشوة، مما يوضح حقيقة الالتباس في المفاهيم في المجتمع.
ويتابع: الاختلاف شاسع بين الرشوة وبين التكريم والهدية، لكن كثيرين يتعمدون الخلط لتمرير أعمالهم تحت غطاء شرعية ما يقومون به دينيًا وقانونيًا.
يمتعض الكثير من العراقيين مما ينشره الإعلام عن أخبار فساد المسؤولين التي كثرت في الآونة الأخيرة.
فساد النخب
ويقول الإعلامي في بابل عباس الطائي إنه على رغم الشفافية في تداول خبر المفسدين إلا أن نتائج التحقيقات تبقى مبهمة.
ويتابع: الأخبار حول تعاطي الرشوة من قبل مسؤولين صارت حدثًا عاديًا في كل يوم، لكن ما يسعى اليه المواطن هو كشف تفاصيل التحقيقات عبر وسائل الإعلام، والعقوبات المترتبة على ذلك.
وبحسب الطائي، فإنه حتى التحقيقات يشوبها الفساد ايضًا في بعض الأحيان، وإلا فكيف نفسّر التعتيم على العقوبات بحق المدانين.
ويؤكد ان موظف حكوميا في كربلاء قبض عليه متعاطيا الرشوة، ونشر خبر صفقة الفساد في وسائل الاعلام لكن القضية سويت بليلة على اكثر تقدير حيث مازال الموظف يمارس عمله في مركز حساس.
ومن اشهر عمليات الرشوة ما تناقلته وسائل الاعلام الشهر الماضي، حول القاء هيئة النزاهة القبض على رئيس مجلس إدارة الشبكة الإخبارية العراقية متلبسا بالرشوة مع ثلاثة آخرين يعملون على تزوير أوامر وزارية بالتعيين في مختلف المؤسسات الحكومية.
وبحسب موظف النزاهة في بابل غازي عبد فان دوائر التسجيل العقاري والجنسية والضريبة تتصدر بقية المؤسسات والدوائر الحكومية في تعاطي الرشوة في المحافظة.
وفي ذات الوقت فقد اشار استبيان شهري تجريه هيئة النزاهة في 2011 بأن وزارت النفط تصدرت حالات الفساد والرشوة تليها العدل ثم أمانة بغداد، كما تصدرت ذي قار المحافظات الأخرى، تلتها النجف ثم وكركوك.
ويشير الباحث الاجتماعي رحيم الكعبي الى ان شيوع حالات الفساد بين المسئولين الكبار والوزراء، يتيح جوا يشجع الموظفين الصغار على القيام بأعمال مشابهة. ويتابع : الطريق الأقصر لانجاز المعاملات الرسمية وكل ما يتعلق بقضايا المواطنين لدى الدوائر الرسمية هو اصطحاب مبلغ من المال يمرر عبر وسطاء لحسم انجاز الطلبات.
التعليقات