تزدحم شوارع منطقة الشورجة وسط بغداد بعربات يجرّها أو يدفعها حمّالون يعتمدون فقط على قوّتهم العضلية لنقل الحمولة والبضائع، منهم من يعينه نشاط شبابه ومنهم من تزيد كهولته من ثقل الحمولة. ويقول الحمّالون رغم كونها مهمّة مضنية إلا أنها تؤمن قوتهم وقوت عائلاتهم.


يعملون في مهن شاقة من اجل القوت اليومي

يلفت انتباه العابر من أي مكان في منطقة الشورجة التجارية وسط بغداد وما حولها، تلك الأمواج المتلاحقة من عربات يدفعها او يسحبها شباب، من خشب ومن حديد، طويلة او قصيرة، تمر بسرعة تكاد هي الاخرى تلفت الانتباه وتدهش الناظر فالحركة دائبة بلا توقف والعربات تمرّ متجاورة او متتالية او متوازية دون ان تصطدم ببعضها ودون أن يبدو أن التعب قد وصل مداه عند البعض، لكن تتعالى في كل الاحوال كلمة (الله) مع كل رفعة أو دفعة.

هذه صور ربما لا يمكن مشاهدتها في مكان آخر واللافت فيها أنها لا تشبه القرن الحادي والعشرين حيث وسائل النقل تطورت كثيرا ولعبت الالة دورا مهما في تخفيف الجهد عن الانسان، لكن هؤلاء يعتمدون القوة العضلية لا غير. لكن الشورجة بشطريها الممتدين على مسافات عرضا وطولا من شارعي الرشيد والجمهورية، تشتهر بهذا النوع من النقل و(التحميل). فالعربات تسبح في نهر الشارعين وما حولهما بأعدادها الكبيرة جدا وبأشكالها المختلفة، منها الكبيرة ذات العجلتين الكبيرتين في وسطها وتتميز بطولها ولكن بعرض اعتيادي، وهي تعتمد على السحب، والصغيرة التي تعمل بعجلات ثلاث صغيرات وتعتمد على الدفع، او الحديدية الصغيرة الافقية القابلة للدفع ايضا.

ولا يدهشك ربما حين تشاهد اكواما من البضائع على ظهور العربات وهي تدور نصف دائرة من شارع الجمهورية الى شارع الرشيد مرورا بتمثال الشاعر معروف الرصافي الذي لم يعد له في وقوفه اية هيبة هناك، فهو يشهد كيف تدور حوله دوائر الشباب الكادحين الباحثين عن لقمة العيش وسط هذا الجهد العضلي وهم يتحولون في المقارنة الى (احصنة) تجرّ تلك العربات، ولا تستغرب ايضا حين ترى رجالا من كبار السن وهم يجهدون انفسهم مع هذه العربات تنافسا مع الشباب من اجل كسب قوت يومهم.

ويتحدث أحد الشبان عن اعمالهم هذه، وعن جهدهم المبذول وقواهم العضلية وعن اسباب العمل في هذه المهنة المتعبة المضنية التي تحتاج الى صبر ومطاولة، ويقول: quot;هكذا نحن... نأتي من الصباح الباكر، لا يهمني البرد ولا الحر، لدينا عرباتنا ونتعامل مع التجار، ننقل لهم ما تأتي به سيارات الحمل الكبيرة التي لا يسمح لها بالدخول الى حيث المحال التجارية والمخازن، وهم يتعاملون معنا حسب حجم البضاعة، اي حسب العلبة، وكل علبة ننقلها بألفي دينار، والحمد لله ان هذا العدد يجمع لدينا في آخر النهار وتكون اجرتنا اليومية جيدةquot;.

وقال اخر: quot;انها مهنة متعبة جدا ولكن هل نبقى عاطلين عن العمل وعندنا عائلات لا بد ان نوفر لها لقمة العيش. هذه المهنة تعلمناها بعد ان بحثنا كثيرا عن اعمال ولم نجد ما يمكن ان نستمر به. عملنا في البناء (العمالة) ولكن نعمل يوما ونجلس عشرة ايام، والحمد لله اننا نستمر في هذه وان كانت متعبة الا اننا تعودنا عليها وصرنا نعرف التجار ولدينا اصدقاء ومعارف يمكن ان نجد لديهم العمل هذا، ونحن مطلوبون في الشورجة لان السيارات لا تدخل الى الشوارع الضيقة ولا الى الرئيسة لاسباب امنية حيث يمنع مرور السيارات في شارع الرشيد من تمثال الرصافي الى البنك المركزي، ولان المخازن اغلبها في العمارات فنحن نوصلها مقابل اجور معينة، والحمد لله فنحن نحصل على رزقنا ورزق عائلاتناquot;.

وفي شارع الجمهورية الذي تفصله عن الرصيف كتل أسمنتية عالية ليكون سير السيارات في الشارع سهلا، والرصيف ضيق ليس بمقدور الا العربات ان تنقل البضائع فوقه، سواء للناس العاديين الذين يتبضعون كميات كبيرة او للتجار الصغار او الكبار الذين يجدون صعوبة في نقل بضاعتهم من والى المخازن، فلا يجدون سوى اصحاب العربات، كون مرورها سهلا.

ويعتمد التجار الكبار على العربات الكبيرة التي يتعاون اثنان او اكثر على جرها ودفعها، وهنا يتقاسم الاثنان المبلغ الذي يحصلان عليه، وفي الاغلب تتراوح اجرته حسب الحمولة (العلبة)، اي ما بين 2000 و 3000 دينار عراقي، اي بين دولار ونصف او دولارين ونصف. ويكون مبلغ الزجاجيات الا على كون (العربة) لا تتحمل الكثير من العلب ويجب ان يكون هناك حرص كي لا تنكسر، اما البضائع غير القابلة للكسر كالاقمشة وسواها فالكميات تعلو فوق العربة حتى تشعر احيانا بالعطف على الحمّال.

وفي متابعة لعملية النقل، ترى العربات الصغيرة تخرج بالبضاعة الى حيث تقف سيارات الاجرة، اي ما وراء الكتل الأسمنتية، اما العربات الكبيرة فهي تدور في شوارع عدة ابعد منها الى حيث الدكاكين اذ ان السيارات غير مسموح لها بالدخول. وهناك من يجد صعوبة حين ترتقي عربته الرصيف لتنزل في الازقة الضيقة عبر سلالم وهو ما يحتاج الى جهد عضلي ودقة، وعلى الاغلب في هذه الحالة يتعاون اثنان، بل ان الرصيف في شارع الجمهورية لا يستوعب سوى عربة احيانا لذلك تجد الزحمة لا سيما ان الارض طينية والكثير من النفايات تقف على الطريق.

والمشهد لمن يعاينه بعين الحكمة يجد انه عالم مذهل، عالم من عربات بأشكال مختلفة تحمل ربما الواحدة منها براءة اختراع مميزة. عالم يستغرق الناظر بدهشته وهو يرى المكان من حوله وقد تحول الى عربات تدور وتملأ الشوارع وتستعجل الذهاب والاياب ممتلئة وفارغة، وثمة شباب تتبدد طاقاتهم في ايصال ما تحمله العربات الى الاماكن المختلفة. كما يمكن مشاهدة من تتجاوز اعمارهم الخمسين عاما وهم يحاولون بكل ما يمتلكون من طاقة ايجاد مكان لانفسهم ومزاحمة هؤلاء الشباب او ربما إقامة علاقة صداقة معهم للحصول على مساعدة تؤدي دورها في كسب رزقهم الذي يبكرون اليه صباح كل يوم. ولا يخلو المشهد من محاولات لتفادي الاحراج من هؤلاء الشباب الذين تتحول ملامحهم الى أقنعة مرسومة عليها علامات الخجل، وحتى عندما حاولت كاميرا إيلاف التقاط صور لهؤلاء، كان هناك من يشيح بوجهه او يرفع يده ليغطي وجهه.

وعندما سألت إيلاف رجلاً كبيراً في السن عما يعمله، قال بعفوية: quot;اعمل حمالا، هذه عربتي التي ادفعها لاحصل على رزقي اليومي، احيانا اجد صعوبة لان اغلب العاملين هنا من الشباب لكنهم يساعدونني ويعطونني شيئا اضعه على عربتي، فأنا منذ سنوات طويلة اعمل حمالا في الشورجة، احمل الاشياء على ظهري ولكن لم تعد لي تلك القوة، فقد ذهب شبابي وجاء هؤلاء الشباب الكثيرونquot;.

أما الشاب العشريني فقال لإيلاف: quot;العمل ليس عيبا وسواء عملت حمالا او صباغ احذية، فلا يهمني الا ان اكسب عيشي بعرق جبيني، كانت الناس في السابق تستهزئ بالحمّال ولكن الان كما ترى الاف الشباب يعملون هنا لكسب رزقهم، هنا يوجد عمل على عكس أماكن أخرى، والبطالة تزداد. نحن ننقل البضاعة للتجار من مكان بعيد الى اخر، اما من المخازن الى الدكاكين او من سيارات الحمل التي تقف بعيدا الى المخازن، وفي الحالتين نحن نجد لنا عملا، والتجار صاروا يعرفوننا ويثقون بنا، وكل مجموعة تتعامل مع تاجر، المهم عندي ان اعود الى اهلي وجيبي ليس فارغاquot;.

وقال زميل له: quot;اغلب العاملين هنا هم من المحافظات الني لا توجد اعمال فيها، فاضطرتهم الظروف إلى العمل هنا وبينهم من يحمل شهادات دراسية، ويبدأون عملهم من الصباح الباكر الى ما بعد الظهر حيث تقل عمليات النقل. ففي الصباح الحركة كبيرة والزحام كبير ومن الصعوبة احيانا ان نستطيع ان نمر بعرباتنا بين الجموع، انها عملية متعبة ومضنية جدا ولكن افضل من اللاشيء او من الجلوس في البيت، وبعد الظهر نربط عرباتنا بسلاسل حديدية في اماكن مختلفة في ساحة الرصافي على الاغلب ونذهب الى الفنادق الرخيصة للمبيت فيها، والحمد لله مصروفنا اليومي نحصل عليه وما نحفظه لاهالينا ايضاquot;.