تصدرت السعودية قائمة الدول المستوردة للأعضاء البشرية، بينما اعتلت مصر قائمة الدول المصدرة. ورصدت تحقيقات موثقة ضلوع طبيب تركي ووكيل اسرائيلي في عمليات تجارة الأعضاء، كما تعد مدينة بريشتينا مركزًا رئيسيًا لتلك التجارة، في حين أضحت ايران الدولة الوحيدة التي تبيح التبرع بالأعضاء البشرية نظير مقابل مادي.


رصدت معطيات موثقة ظاهرة تجارة الاعضاء البشرية في مختلف دول العالم، وأوضحت المعطيات أن الطريق بات ممهدًا أمام نشاط مافيا تجارة الاعضاء المحرمة دوليًا. وردت المعطيات التي نشرتها صحيفة هآرتس العبرية ارتفاع وتيرة تلك التجارة إلى تعرض شريحة كبيرة من شعوب دول العالم لأزمة اقتصادية، واستعداد تلك الشريحة لبيع اجزاء من جسدها مقابل حفنة من الدولارات. ويحرص تجار الاعضاء البشرية والأطباء والوكلاء على إدارة صفقاتهم المشبوهة بسرية تامة، ولا يتم الكشف عن هذه الصفقات إلا في اطار ضيق للغاية، وعلى فترات متباعدة جدًا.

وتعتبر مدينة بريشتينا عاصمة كوسوفو، مركزًا دوليًا لتجارة ونقل الاعضاء البشرية. ففي هذه المدينة كافة تفاصيل رواج تجارة الاعضاء البشرية غير المشروعة.

قبل فترة ليست بطويلة، توجه محقق كندي خاص يدعى يوناتن راتل إلى بريشتينا، للوقوف عن كثب على ماهية تفشي ظاهرة نقل الاعضاء البشرية في كوسوفو. كان هدف راتل وضع منظومة قانونية تجرم تجارة الاعضاء البشرية من خلال هيئة تطبيق القانون في كوسوفو التابعة للاتحاد الاوروبي (EULEXrlm;). وخلال وقت وجيز، حمل راتل على عاتقه مسؤولية التحقيق في تلك الظاهرة، معتمدًا في ذلك على زيارات مفاجئة لمركز quot;مديكوسquot; في مدينة بريشتينا.

السمسار إسرائيلي والجراح تركي

يؤكد راتل في تحقيقاته اليومية أن مركز quot;مديكوسquot; يضم مجموعة من الاطباء باعوا ضمائرهم، استأصلوا ما بين 20 إلى 30 عضواً بشرياً، ليزرعوها في أجساد مرضى اثرياء. ويفد معظم المتبرعين من بائعي اعضائهم من اسطنبول وكشنيف عاصمة مولدوفا، فضلًا عن نسبة كبيرة من اليهود المهاجرين حديثًا إلى اسرائيل. أما المرضى الراغبون في الحصول على الاعضاء البشرية، فيتوافدون على بريشتينا من مختلف دول العالم.

الوكيل أو السمسار الرئيسي في تمرير تلك الصفقات غير القانونية اسرائيلي الجنسية، والجراح الذي يقوم بالعمليات الجراحية تركي، تطلق عليه الصحف التركية اسم quot;فرانكنشتاينquot;. كما ساهمت شبكة من الاطباء والموظفين الحكوميين في كوسوفو في تسهيل اجراء الجراحات من هذا النوع بهدف تحقيق التربح المادي.

خلال أشهرطويلة، عكفت مجلة دير شبيغل الألمانية على تعقب ظاهرة تجارة الاعضاء البشرية غير القانونية، وانطلقت عمليات البحث وتقصي الحقائق من مركز مديكوس في مدينة بريشتينا، حتى وصلت في نهاية المطاف إلى اسرائيل وتركيا وروسيا البيضاء وألمانيا. وكشفت معلومات المجلة الالمانية وتحقيقات المحقق الكندي راتل عن العمود الفقري لتجارة الاعضاء البشرية، إذ اشارت المعطيات إلى ضلوع شخصيات ألمانية عامة في رواج تلك التجارة الدولية وعمليات زرعها. كما يحذر الايروبول، وهو الذراع التنفيذية لتطبيق القانون في الاتحاد الاوروبي، من ضلوع مباشر لمنظمات الجريمة في هذه التجارة التي تتطور بشكل سريع يفوق ما كان معروفًا في الماضي.

ثمن الكلية 160 ألف يورو

تشير تقارير الامم المتحدة إلى اجراء ما يربو على 10.000 جراحة زرع كلى سنويًا، الا أن هناك تقديرات اخرى تؤكد ارتفاع هذا العدد إلى 20 ألف جراحة سنويًا، خصوصًا أن الطلب على زرع الكلى يتزايد على خلفية ارتفاع أعمار سكان الكرة الارضية بشكل ملحوظ.

ففي أوروبا وحدها يقف 40 ألف مريض على قائمة الانتظار للحصول على كلية. وفي المانيا، ينتظر ثمانية آلاف مريض يحتاجون لكلى، ولم ينجح سوى 2.850 مريضًا في تحقيق هدفهم خلال العام الماضي.
وبحسب معطيات ألمانية موثقة، يموت يوميًا في المانيا ثلاثة اشخاص تقريبًا من عداد المسجلين على قائمة الانتظار، معظمهم من مرضى القلب والكبد.

وبحسب هآرتس الاسرائيلية، يعرض تجار الاعضاء البشرية على زبائنهم صفقة كاملة، تبلغ فيها سعر الكلية 160 ألف يورو، شاملة كافة النفقات ومصاريف النقل والحفظ. أما ضحايا الصفقة فيتقاضون فقط جزءًا ضئيلًا من المبلغ. ففي الهند وبنغلاديش، يعرض وكلاء صفقات الاعضاء البشرية على البائعين 750 يورو للكلية، ويوافق البائعون على الصفقة للخلاص من الازمات الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بهم. ومن يوافق على بيع كليته لا يمكنه التراجع عن قراره، إذ يمارس الوكلاء ضغوطًا كبيرة عليه، فضلًا عن أن بعضهم يتعرض للخداع بعد إجراء الجراحة، فلا يحصلون حتى على المبلغ الزهيد الذي تم الاتفاق عليه مسبقًا.

جريمة.. إلا في إيران!

يدار عالم الاتجار في الاعضاء البشرية ببساطة بالغة، إذ تحتل السعودية واسرائيل والولايات المتحدة وكندا صدارة الدول المستوردة للاعضاء البشرية، بينما تحتل مصر والهند والصين والفيلبين ومولدوفا قائمة الدول المصدرة.

وليس من الضروري أن تكون عضوًا في حركة مكافحة العولمة العالمية ATTAC لترى في تجارة الاعضاء البشرية ظاهرة ترادف فقدان التوازن بين القوى العالمية، يتم من خلالها نقل أعضاء سليمة من الفقراء إلى الاثرياء، ومن السود إلى البيض، ومن الجنوب إلى الشمال.

تعد تجارة الاعضاء البشرية جريمة في مختلف دول العالم باستثناء ايران، التي تبيح للانسان الذي لا يزال على قيد الحياة التبرع بأحد اعضائه نظير مقابل مادي. وبعيدًا عن القانون، تفيد آخر الاستطلاعات التي أجريت في مصر والهند وبنغلاديش والفيلبين إلى أن معظم من خضعوا لعمليات جراحية لبيع اعضاء من اجسادهم يعانون مشاكل صحية ونفسية بالغة التعقيد. وأشار معظمهم إلى انهم انفقوا الاموال التي تلقوها نظير بيع اعضائهم خلال أشهر معدودة، وأن ظروفهم المعيشية لم تتحسن كما كانوا يعتقدون، خصوصًا أنهم لم يعودوا قادرين على تحمل العمل الشاق، ومعظمهم لم يعد قادرًا على العمل أبدًا. لم يكن في حسبان هؤلاء أن بيع خلية بشرية لا يتجاوز وزنها 160 غرامًا سيلقي بهم على هامش المجتمع، إذ يعترف معظم بائعي أعضائهم في مولدوفا بأنهم يلقبون بألقاب دنيئة مثل quot;سيئي السمعةquot; أو quot;انصاف الرجالquot;، خصوصًا بعد عجزهم عن معاشرة نسائهم بالمستوى المطلوب.

سلوك مافيوي

فيما تؤكد ابحاث واستطلاعات الرأي أن معظم بائعي اعضائهم البشرية لا يمتلكون حرية اتخاذ القرار، يؤكد راتل أن مافيا تجارة الاعضاء التي تجند بائعي الاعضاء تعتمد اسلوب الجريمة المنظمة.
يقوم الوكلاء باغراء بائعي الاعضاء البشرية ويتعهدون بمنحهم مبالغ مادية يتفقون عليها. وبعد الموافقة المبدئية على إجراء الجراحة، يمارس الوكلاء أسلوب الترهيب على المتبرعين، فيفرضون عليهم الاقامة الجبرية، وفي احيان أخرى يتم اعتقالهم حتى يحين موعد اجراء الجراحة.

وبعد استئصال العضو المتفق عليه وزرعه في جسم المشتري، يواجه البائع في كثير من الاحيان أساليب غش وخداع من الوكلاء، وغالبًا ما يُلقى بهم خارج المستشفى من دون الحصول على أي مقابل مادي.

حتى في دول الربيع العربي!

على الرغم من التأكيد على أن كوسوفو هي مرتع تجارة الاعضاء البشرية، الا أن معطيات هآرتس تشير إلى أن كوسوفو هي مجرد نموذج لتلك التجارة غير القانونية.
فالصين على سبيل المثال اعتبرت المحكوم عليهم بالاعدام مصدرًا للحصول على الاعضاء البشرية. كما حققت الأجهزة الأمنية المصرية مع 57 سودانيًا اعترفوا بتهريب رجال ونساء واطفال سودانيين إلى مصر بغرض بيع كلاهم.

عصابات تجارة الاعضاء البشرية هي المحرض الرئيسي على عمليات التهريب وبيع الاعضاء. وبحسب منظمة COFS الدولية المعنية بتقديم متبرعين باعضائهم البشرية بشكل قانوني، ازدهرت عمليات تجارة الاعضاء البشرية في منطقة الشرق الاوسط في اعقاب ما يُعرف بالربيع العربي. فبين الفينة والاخرى، تتناقل وسائل الاعلام معلومات حول جرائم قتل الهدف منها سرقة الاعضاء البشرية، غير أن تلك الحالات لم يتم رصدها رسميًا.

الطاقم الطائر

يعرب المحقق الكندي راتل في تحقيقاته عن تقديره وجود مجموعة صغيرة من الجراحين، يعرفون بالطاقم الطبي الطائر، يتجولون في مختلف دول العالم لاجراء عمليات زرع اعضاء بشرية من دون أي رقابة. وعندما تداهم السلطات مستشفى في جنوب افريقيا أو البرازيل على سبيل المثال، تضطر مجموعة الاطباء هذه إلى نقل نشاطها الى دولة أخرى.

وطبقًا لخبراء في هذا المجال، تتصدر قبرص وكازاخستان قائمة أشهر الدول التي تجري فيها جراحات زرع الاعضاء البشرية في الوقت الراهن. ولا يعلم مشترو العضو البشري مكان الدولة التي ستجرى فيها عملية الزراعة إلا قبل ساعات من استقلالهم الطائرة، وذلك في إجراء أمني للحيلولة دون تسرب أية معلومات.

وفي بريشتينا، تجرى تحقيقات موسعة منذ العام 2011 مع اربعة أطباء وأحد كبار موظفي الحكومة السابقين، إثر اتهامهم بالضلوع في عمليات غير قانونية لنقل الاعضاء في مركز مديكوس. كما يواجه هؤلاء اتهامات أخرى بالاتجار بالبشر والجريمة المنظمة وبارتكاب أنشطة طبية غير قانونية.

وقُدمت لائحة اتهام ضد الطبيب لطفي درويش، الممثل الرسمي لمركز مديكوس، على خلفية تعاونه في حالة واحدة على الاقل، تم خلالها زرع كلية لأحد المشترين. وتشير لائحة الاتهام إلى أن درويش هذا استغل علاقاته الوطيدة بالسلطة لتمرير اجراء هذه الجراحات في المركز، كما أجرى لقاءات في هذا الصدد مع شخصيات سياسية بارزة في مقدمتها وزير الصحة ومستشار رئيس الوزراء. كما قدمت لائحة اتهام أخرى ضد مسؤول كبير في وزارة الصحة بكوسوفو بعد اتهامه بمنح مركز مديكوس تراخيص لاجراء عمليات زرع اعضاء بشرية مخالفة للقانون.

هاشم تاجي متورط

احتلت عمليات الاتجار في الاعضاء البشرية صدارة القضايا السياسية في كوسوفو، إذ تشير المعطيات إلى أن كارلا أدي بونتي، النائب الاول في المحكمة الدولية المعنية بالجرائم التي ارتكبت في يوغوسلافيا، وديك مارتي، المحقق الأوروبي الخاص، ادعيا أن رئيس وزراء كوسوفو هاشم تاجي، الذي حارب في الصفوف الاولى للجيش من اجل تحرير كوسوفو في تسعينيات القرن الماضي، صادق على قتل أسرى في حرب الصرب لاستئصال اعضائهم البشرية الداخلية.

الا ان بونتي ومارتي لم يتمكنا حتى الآن من الحصول على أدلة قوية تؤكد ادعاءهما، ومنذ ايلول (سبتمبر) في العام 2011، يتم التحقيق في القضية من خلال هيئة الاتحاد الاوروبي لتطبيق القانون في كوسوفو EULEXrlm;، كما وصلت تحقيقات المحقق الكندي راتل إلى مرحلة متقدمة للغاية.

نسر يتباهى

كشف المحققون عن رجلين تدور حولهما شبهة الضلوع المباشر في عمليات الاتجار بالاعضاء البشرية وزرعها، هما الطبيب الجراح التركي والوكيل أو السمسار الاسرائيلي.

الجراح هو الطبيب يوسف سونمز، هزيل الجسد اصلع الرأس. لا يُعرف يوسف فقط بلقب فرانكنشتاين، وانما بلقب آخر هو الدكتور نسر، ويتباهى دائمًا بأنه اجرى ما يربو على 2.200 جراحة زرع كلى، على الرغم من أنه يعلم أن معظم هذه العمليات تم بشكل غير قانوني.

وفي العام 2005، داهمت الشرطة التركية عيادة سونمز في اسطنبول، وقامت باعتقاله وهو يقف إلى جوار طاولة الجراحة. واجه سونمز اتهامات بالحصول على اعضاء بشرية من شرق اوروبا، وبنقلها إلى اثرياء في الغرب. وعلى الرغم من أنه حوكم، الا أنه حصل على عفو في نهاية المحاكمة.

وبعد عامين، واجه اتهامات أخرى تحمل المضمون عينه، وحُكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات، غير أنه استأنف الحكم. توجه راتل إلى الانتربول مطالبًا بإصدار أمر باعتقال الجراح التركي، فاعتقل في العام 2011، لكن اطلق سراحه بكفالة مالية. وترفض تركيا حتى اليوم تسليمه إلى الجهات القضائية، الا أنه يقف أمام لائحة اتهامات طويلة في المحاكم التركية، في وقت يدعي أنه لم يرتكب اعمالًا منافية للقانون في كوسوفو.

وتشير نتائج التحقيقات التي اجراها راتل إلى سونمز الذي عمل خلال السنوات الماضية بالتعاون مع موشي هارئيل، الذي يحمل الجنسيتين الاسرائيلية والتركية. ووفقًا لتحقيقات راتل، هارئيل هو المسؤول عن البحث عن بائعين لاعضائهم البشرية الداخلية، والمسؤول مباشرةً عن الحسابات المالية الخاصة بالصفقات.

يقيم هارئيل في رام الله، وتم اعتقاله سابقًا في بريشتينا خلال مداهمة الشرطة لمركز مديكوس. وبعد اربعة اسابيع، سمحت له المحكمة بالسفر إلى تركيا لمدة شهر، بعد ادعائه أن والدته مريضة، الا أنه لم يعد إلى كوسوفو ثانية.