من شأن الشعوب التي تكسر قيد الدكتاتورية أن تحيد بسهولة عن طريق الحرية إلى الفوضى. ورغم أن حادثة اعتقال محامية دولية وغيرها تنذر بأن ليبيا ربما بدأت تظهر أعراض عراق ما بعد صدام، فثمة أسباب للتفاؤل وواجب أيضًا على حكومة طرابلس يتعلق بسمعة البلاد في الخارج.


صلاح أحمد: هل تنزلق ليبيا إلى الفوضى الشاملة؟... السؤال تطرحه وتحاول الإجابة عنه صحيفة laquo;تايمزraquo; البريطانية في افتتاحية رئيسة لها. وتبرر السؤال أولاً بأنه بعد انقضاء ثمانية أشهر على سقوط العقيد معمّر القذافي ونهاية حكمه الإقطاعي، صار الأمر أشبه بسلسلة متصلة من الأنباء عن التناحر بين مختلف الفصائل المسلحة.

جانب من عملية لواء الأوفياء لاقتحام مطار طرابلس

فقد جاءت الأخبار بأن جماعة laquo;لواء الأوفياءraquo; استولت لفترة وجيزة على مطار طرابلس خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي. ومن بنغازي حملت التقارير نبأ الهجوم على موكب السفير البريطاني، السير دومينيك آزكويث، استخدمت فيه راجمات القنابل اليدوية. وألقيت المسؤولية في هذا الهجوم على laquo;لواء عمر عبد الرحمنraquo; الذي نفذ سابقًا هجمات أيضًا على السفارة الأميركية والصليب الأحمر.

جاءت أيضًا أنباء عن هجوم آخر في إحدى مدن ليبيا الجنوبية قتل فيه 14 شخصًا. ثم ورد اعتقال فريق تابع للمحكمة الجنائية الدولية في الأسبوع الحالي. وضمن هذا الفريق المحامية ميليندا تيلر، التي ألقت على كاهلها مهمة مساعدة سيف الإسلام القذافي على إعداد الدفاع عن نفسه في محاكمته المقبلة.

الجهة التي تقف وراء هذا الاعتقال هي laquo;لواء الزنتانraquo; (التي تحتجز أيضًا جثمان أحد أبناء القذافي القتلى). لكن الملفت للنظر في هذا الشأن هو أن أفعال هذا الفصيل وجدت، عملياً، سندًا قويًا لها من أحد أعضاء المجلس الوطني الانتقالي هو محمد الحريزي. فقد صرّح بالقول إن تيلر ستخضع للاستجواب فترة 45 يومًا، الا إذا باحت بمكان شخص يُعتبر أحد رموز نظام القذافي، ويعتقد أولئك الثوار الليبيون أن تيلر كانت على اتصال به.

ليس من قبيل الدهشة أن يكون الانطباع العام هو الخوف من أن ما يحدث في ليبيا الآن شبيه بما حدث في عراق ما بعد صدام، وشبيه بأماكن أخرى كانت نهاية الدكتاتورية فيها أيضًا لا تعني إحلال الديمقراطية تلقائيًا، وإنما الفوضى الشاملة.

رغم كل هذا فحري بنا ألا نستسلم للتشاؤم. ولنتذكر على الدوام أن المدهش في ما يتعلق بليبيا تحديدًا - وبالنظر إلى تاريخها - ليس هو سلسلة الأعمال العنيفة التي تحدث الآن، وإنما نفور أهلها العام من العنف والانتقام. ولنذكر أيضًا القدر الضئيل - نسبيًا - من الأذى الذي صاحب الانتقال إلى مجتمع ما بعد القذافي.

ميليندا تيلر

وقد عاش الليبيون لفترة أربعة عقود في ظل نظام كان الفيلم السينمائي الكوميدي الأخير laquo;الدكتاتورraquo; وصفًا حقيقيًا لغرابة وحشيته أكثر مما كان سخرية على الحال الذي كان في عهد العقيد. وبلغ خوف الليبيين في بلاهم حد أنهم كانوا يخشون عواقب الكلام بحرية مع أقاربهم وأصدقائهم في مجالسهم الخاصة، دعك من نشرها على الورق وعبر الأثير. وبالنسبة إلى الغربيين فقد كان هذا الوضع بحد ذاته عسيرًا على الفهم والتصور.

في المقابل، فبوسع المرء الآن السير ليلاً في طرقات طرابلس وبنغازي وكبريات المدن الأخرى بلا خوف من بطش وتعذيب، ولا أحد يذيق النساء الأمرّين بحجة عدم الاحتشام. وفي الآونة الأخيرة أجرت بنغازي انتخاباتها البلدية في جو لم يُشهد له مثيل من قبل، وانتخب أهلها عناصر تتسم بالاعتدال.

ورغم أن البلاد تطفح بالسلاح - ومعظمه بأيدي شباب صغار السن يحملون من هرمون التستوسترون أكثر مما يتمتعون به من الروية والحكمة - فإن عدد الحوادث التي يستخدم فيها هذا السلاح فعلاً صغير نسبيًا. ومن المهم الإشارة إلى أن حادثة المطار الأخيرة، رغم خطورتها والحرج الكبير الذي تسببت فيه للحكومة، فقد تمكنت السلطات من التحرك بسرعة، ونشرت 3 آلاف جندي نظفوا المنطقة من العناصر المارقة.

محمد الحريزي

لكن المسألة الكبيرة التي تبقى الآن - والبلاد تتجه نحو انتخاباتها العامة الأولى في السابع من الشهر المقبل - هي العدالة. فالبلاد تعجّ بسجون وأقفاص حديدية تديرها مختلف أنظمة الميليشيا. وتكتظ هذه بدورها بأناس يتهمون بأنهم رموز النظام البائد المكروه، ولكن من دون محاكمة وإدانة قانونية. هؤلاء السجناء يظلون من دون مصير معروف. وربما كان أفضل نموذج لهذا الوضع الشاذ اعتقال المحامية ميليندا تيلر ورفاقها، وهذا أمر يشوّه صورة النظام الليبي في الخارج.

وتختتم الصحيفة افتتاحياتها بالقول: laquo;باعتبارنا أصدقاء ليبيا الجديدة، ومن منطلق حرصنا على سمعتها، نهيب بالحكومة الليبية إطلاق سراح تيلر ورفاقها من دون شرطraquo;.