تنتظر العلماء عدةأشهر وربما سنوات من التحليل للتأكد من أنّ quot;جسيم الربquot; أو ما يعرف بquot;بوزون هيغزquot; الذي تمّ التلميح مؤخرا إلى اكتشافه هو فعلا الشيء الذي يبحثون عنه.


اعتمد البحث عن الجسيم النظري المعروف باسم بوزون هيغز على أكبر الأجهزة العلمية في العالم وعلى جهود آلاف الباحثين لأكثر من عشرين عاما. ويعتبر اكتشاف بوزون هيغز الذي يُسمى احيانا quot;جسيم الربquot; ، انتصارا للعلم والهندسة والعمل الجماعي والفرقي. ولكن العمل الحقيقي يبدأ بعد الاكتشاف.

إذ تنتظر العلماء أشهر وسنوات من التحليل للتأكد من أن الجسيم الذي أعلنت المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية quot;سيرنquot; اكتشافه هو حقا بوزون هيغز. وإذا كان بوزون هيغز فإن علماء الفيزياء يريدون أن يعرفوا إن كان أبسط جسيم تطرحه النظريات الفيزيائية أم انه شيء أكثر غرابة وأشد إثارة.
وقال ستيفن واينبرغ أستاذ الفيزياء في جامعة تكساس الاميركية الذي فاز بجائزة نوبل للفيزياء عام 1979 ان عملا اكبر يتعين إنجازه تجريبيا حتى بعد إعلان الاكتشاف.

يجري العلماء تجاربهم في مختبرات ضخمة

ويظهر بوزون هيغز في نظرية طرحها عام 1964 بيتر هيغز من جامعة ادنبرة الاسكتلندية مع خمسة فيزيائيين آخرين. ويثبت العثور على الجسيم ان هناك مجال طاقة يملأ فراغ الكون المرئي. ويقوم هذا المجال بالدور الحاسم في إضفاء كتلة على جسيمات تحت ذرية معينة تشكل اللبنات التي بُني بها الكون.
وتتمثل المهمة الشاقة التي تواجه العلماء بعد الاكتشاف في ما إذا كان جسيم هيغز هو الجسيم البسيط الابتدائي والأساس الذي ينهض عليه ما يسميه الفيزيائيون quot;النموذج المعياريquot; للفيزياء أم انه شيء أكثر تعقيدا. والنموذج المعياري هو مجموعة المعادلات التي تشرح كيف تتصرف جميع الجسيمات المعروفة.

ومن الاحتمالات الجائزة ان الجسيم المكتَشف واحد من عائلة أكبر من جسيمات هيغز. وللتوثق من ذلك، يتعين على العلماء ان يدرسوا بالتفصيل كيف يتكون الجسيم في صادم هادرون الكبير وكيف يتحلل الى جسيمات أخرى معروفة فور تكونه.

ونقلت صحيفة الغارديان عن الفيزيائي واينبرغ ان هذه عملية quot;تستغرق الكثير من الوقت ، لا أعني عقودا بل سنوات ، للتحقق من صحة كل التنبؤات التي يقول بها النموذج المعياري عن كيف يتكون الجسيم وكيف يتحللquot;.
وكان السباق على اكتشاف جسيم هيغز جرى بروح علمية ودية على ضفتي الأطلسي منذ عقد التسعينات ، بين صادم تيفاترون الاميركي في شيكاغو وصادم هادرون الكبير الأوروبي في مختبر quot;سيرنquot; على الحدود الفرنسية ـ السويسرية.

ويجري السباق الآن في quot;سيرنquot; لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن جسيم هيغز قبل أن يُغلق صادم هادرون الكبير لمدة عامين في اواخر 2012 حين يبدأ المهندسون تصليحات لتمكين الماكنة العملاقة من العمل بكامل طاقتها. فبعد انفجار ناجم عن احتراق غاز الهليوم دمر جزءا من الصادم في عام 2008 ، مُنع تشغيله بأكثر من نصف طاقته حتى اكتشاف بوزون هيغز أو التأكد من عدم وجوده.
وقالت الفيزيائية تارا شيرز التي انتدبتها جامعة ليفربول البريطانية للعمل في صادم هادرون الكبير ان اكتشاف جسيم جديد هو quot;في الحقيقة بداية رحلة طويلة لفهم ما اكتشفناهquot;. واضافت quot;ان الأمر شبيه بالتوجه الى محطة القطار للقاء شخص لم تره من قبل في حياتك. فتصل الى المحطة ويصل القطار وهناك شخص يقف على الرصيف. وتتساءل أهو الشخص الذي جئت للقائه ولكنك لن تعرف، الى ان تتوجه اليه وتكتشف بنفسكquot;.

ويتوقف الكثير على ما تكتشفه quot;سيرنquot; أو ما لا تكتشفه. ويخشى بعض الفيزيائيين ألا يكتشف مختبرها إلا الشكل الأبسط من جسيم هيغز ولا شيء أكثر إثارة. ومن شأن هذا ان يسد ثغرة في نموذج الفيزياء المعياري ولكنه لا يضع بيد العلماء خيوطا تساعدهم على فهم أسرار أخرى ملحة في الطبيعة ، منها على سبيل المثال ، ما هي المادة الداكنة غير المرئية التي تلتصق بالمجرات وتشكل ربع كتلة الكون؟ وما هي الطاقة الداكنة التي يعتقد العلماء انها القوة الدافعة وراء توسع الكون؟ ولماذا نحن نتكون من المادة بدلا من المادة الضد؟ ولماذا تكون الجاذبية بهذا الضعف؟ ليس لدى النموذج المعياري ما يقوله عن هذه الأسئلة وليس لدى العلماء اجابات عنها.
وقال استاذ الفيزياء في جامعة تكساس ستيفن واينبرغ quot;كان كابوسي ان تكتشف سيرن بوزون هيغز ولا شيء آخر. فإن اكتشاف جسيم هيغز ، وإن كان يبعث على الارتياح فانه لا يوفر مفتاحا الى المضي أبعد من النموذج المعياريquot;. ورغم الجهود المكثفة، فإن صادم هادرون الكبير لم يعثر على أي شيء غير متوقَّع حتى الآن. واضاف واينبرغ quot;أجد مما يبعث على الاكتئاب الشديد ان هذا قد يكون آخر الاكتشافات الكبرى لعدة عقود قادمةquot;.

ولكن فرانك ويلتشك وهو بروفيسور في معهد ماسيشوسيتس للتكنولوجيا فاز بجائزة نوبل للفيزياء عام 2004 متفائل بآفاق عمل quot;سيرنquot;. وقال ويلتشك quot;ان هذا ينسجم حتى الآن مع الحد الأدنى ، المقتصد للنموذج المعياري ، وليس هناك ما يشير الى شيء مثير ولكن هناك مجال واسع له ، فهي منطقة غير مكتَشفةquot;.
وتتوقع نُسخ عديدة من نظرية تُسمى نظرية التناظر الفائق وجود عائلة من جسيمات هيغز. وتذهب هذه النظرية الى ان كل انواع الجسيمات المعروفة في الطبيعة لديها توائم ثقيلة غير مرئية لم تُكتشف حتى الآن. ولم يكتشف صادم هادرون الكبير حتى الآن جسيمات ذات تناظر فائق لها اسماء مثل سكوارك squark وستوب stop وغلوينو gluino . ومن أكثر العناصر إثارة في نظرية التناظر الفائق انها تبين كيف ان ثلاثا من قوى الطبيعة الأربع كانت قوة واحدة في المراحل المبكرة من عمر الكون وانفصلت لاحقا لتبقى قوة الجاذبية القوة الوحيدة التي لا يعرف العلماء شيئا عن نشوئها. وتترشح بعض الجسيمات التي تتنبأ نظرية التناظر الفائق بوجودها لأن تكون هي المادة الداكنة.

والحق أن صادم هادرون الكبير لم يكن قط مجرد ماكنة لاصطياد جسيم هيغز. فهو ينفذ مشاريع بحثية اخرى يأمل العلماء في أن تؤدي الى فهم المادة الداكنة والطاقة الداكنة والمادة الضد ، الى جانب البحث عن أبعاد اضافية للفضاء غير ابعاده الثلاثة المعروفة. وتتداخل الأبعاد الاضافية الخفية في النظرية الخيطية التي تقول ان الجسيمات خيوط طاقة صغيرة متذبذبة.
وقالت الفيزيائية شيرز من جامعة ليفربول quot;ان هناك الكثير مما لا نفهمه البتة ومن هذه الناحية فان صادم هادرون الكبير هو في بداية المحاولة الرامية الى فهم ما لا نعرفه في الكونquot;.