القضاء العشائري في العراق أتى ثماره في لجم النزاعات، وهو أفضل، حسب كثيرين، من اللجوء مباشرة إلى الدولة الضعيفة حيث تتباطأ المحاكم في اتخاذ القرارات وتبقى القضية عالقة لفترة طويلة، ما يساهم في اشتداد النزاع.


بغداد: حصل سعد حسن الخزاعي على عطوة عشائرية لمدة شهر، لتسديد أربعة آلاف دولار ، بعد شجار حصل بينه وبين شخص آخر تحول نزاعًا عشائريًا وفرض غرامة يتوجب عليه دفعها. والعطوة بين العشائر العراقية فترة هدنة يمتنع خلالها المُعتدى عليه عن أي اجراء بحق المعتدي، مع اشتراط ابتعاده عن منطقة ارتكاب الجريمة.

يعايش الشيخ ماجد الكلابي هذه الظاهرة عن كثب، باعتباره وسيطًا في النزاعات الناتجة عن حوادث قتل أو ضرب أو اعتداء أو مساس بالعرض. يقول: quot;ازدادت العطوة في الفترة الاخيرة بسبب كثرة النزاعات، وهي أسلوب بدا ناجعًا لحل أي نزاع سلميًا، عبر هدنة بين الطرفين.

وفي خلال شهر واحد، توسّط الكلابي في ابرام خمس عطوات بحضور أبناء العشائر.

تطييب خواطر

تبدأ الوساطة في الغالب بالجاهة، أو زيارة أهل المعتدى عليه، ليتم الصلح عبر حصول المُعتدى عليه تعويضًا ماليًا. إلا أن الشيخ الكلابي يرى أن القضية لا تتعلق بالمال قدر تعلقها بالتوصل إلى الصلح بين طرفي النزاع عبر تطييب الخواطر، منتقدًا ما يدور من شائعات عن دور العشيرة السلبي في المجتمع.

ويؤكد الكلابي أن هذا الدور إيجابي في ظل النزاعات بين عشائر الطائفة الواحدة، أو بين عشائر من طوائف مختلفة.

يتابع: quot;يتعدى دور العشيرة حل النزاعات الفردية عبر الجاهة إلى لجم الكثير من النزاعات العشائرية والطائفية التي لم تستطع الدولة السيطرة عليهاquot;.

تجنبًا لصراعات أكبر

يقول عبد الجبار حسين، الباحث في الفولكلور العراقي وشؤون العشائر، إن العطوة لم تكن منتشرة في العراق قبل نحو عقد من الزمن، حين كانت الدخالة هي السائدة لحل النزاعات ونزع فتيل التوترات.

يتابع: quot;هذه العادة سائدة بين عشائر الاردن وسوريا والسعودية، ثم انتقلت تدريجًا إلى العراق، خصوصًا خلال حقبة الحصار الاقتصادي للعراق في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن صار المال يمثل قيمة مهمة بسبب الحاجة الاقتصاديةquot;.

وبحسب حسين، تمنح العطوة في قضايا القتل والعرض والاعتداء والإهانة، ولا تشمل القضايا الحقوقية والسرقات. يضيف: quot;في عشائر الاردن على سبيل المثال، تُعطى مهلة زمنية من قبـل عشيرة ذوي المجني عليه بواسطة مجموعة من الشيوخ والوجهاء الاجتماعيين الذين تتم الاستجارة بهم إثـر وقـوع الجريمة، وتتراوح الفترة الزمنية بين أيام وأشهر بحسب أهمية النزاع، بغية لملمة المشكلة وعدم انجرار العشائر إلى نزاعات اكبرquot;.

جاهة وتكافل

يتحدث الشيخ رضا الخفاجي عن عطوة قتل تمّت قبل أشهر، حينما قتل احد افراد عشيرته رجلًا من عشيرة أخرى، اذ نُظمت الجاهة بحضور عشيرته وذوي المتضرر، ومنح اهل القتيل مبلغًا قدره نحو سبعين ألف دولار.
يتابع: quot;تجمع عشيرة القاتل المبلغ عبر تبرعات افرادها، ليشكل ذلك نوعًا من التكافل الاجتماعيquot;.

ويرى الخفاجي أن هذا المنهج العشائري أتى ثماره في لجم النزاعات، وهو أفضل في رأيه من اللجوء مباشرة إلى الدولة حيث تتباطأ المحاكم في اتخاذ القرارات وتبقى القضية عالقة لفترة طويلة، ما يساهم في اشتداد النزاع.

وحتى في الحالات التي يقضي فيها المحكوم فترة السجن المقررة ويخرج بعدها إلى الحرية، فإن العطوة تبقى الحل الامثل لتجنب الثأر من القاتل.

بت في الفصل

في الشهر الماضي، خرج أمين حسن من السجن بعد أن قضى فيه سنتين، بسبب قتله رجلًا بطريق الخطأ، وهو يؤدي واجبه في احدى نقاط التفتيش الامنية. وعقب خروجه من السجن مباشرة، عقدت عشيرتا القاتل والمقتول جلسة عشائرية تم فيها البت في الفصل لعائلة القتيل، وهو مبلغ عشرين الف دولار، ليتم الصلح بموجب ذلك.

ومن القضايا المثيرة التي شهدها العام 2012، ما يرويه الشيخ علي الياسري عن حضور اجتماع عشائري في محافظة كربلاء، لحل نزاع خطير بين عشيرتي الثراون واليسار، وهما من قبائل بني حسن وطي المنتشرة في منطقة الفرات الاوسط.

يقول الياسري: quot;اندلع النزاع اثر صدور كتاب من قبل أحد ابناء عشيرة الثروان تضمن معلومات تاريخية عن الانساب عدّها البعض مغلوطة وتسيء إلى عشيرة اليسار. وتمت تسوية النزاع عبر التهدئة اولًا بالعطوة لمدة خمسة ايام، ليتبعها اجتماع للصلح حضره شيوخ العشائر، حيث اتُفق على سحب الكتاب من الاسواق، والاعتذار من عشيرة اليسار، ومنح ديّة عشائرية بلغت زهاء 350 ألف دولارquot;.

وسائل ابتزاز

يقول عامر ثجيل، الناشط الاجتماعي والأكاديمي في التاريخ: quot;على الرغم من أن العطوة اسهمت في لجم الكثير من النزاعات العشائرية، إلا أنها تشكل من جانب آخر أحد وسائل ابتزاز الآخرين لغرض كسب الاموال.

وأحد الامثلة على ذلك ما تعرّض له الطبيب حميد كاظم من النجف، الذي تلقى تهديدًا عشائريًا من قبل عشيرة مريض تُوفي في المستشفى حيث يعمل.

يقول كاظم: quot;منحت عطوة لمدة أسبوع، يتوجب عليّ خلالها دفع مبلغ مالي بسبب موت المريض، على الرغم من أنني اقترحت تحويل المريض إلى مستشفى آخر في العاصمة تتوافر فيه الاجهزة المطلوبة والعلاج الفعال لإنقاذه، لكن أهله أبوا، ويحملونني مسؤولية موتهquot;.

قضاء رديف

يشير القاضي المتقاعد ابراهيم عبد إلى أن القضاء العشائري كان رديفًا دائمًا للقضاء الرسمي، ولم تتمكن الدولة من لجمه بصورة كاملة.

يتابع: quot;انخفض الاعتماد على القضاء العشائري في منتصف السبعينات، حين قويت مؤسسات الدول القانونية والأمنية، حتى منتصف الثمانينات حين شهد العراق عودة قوية إلى الاعراف والتقاليد العشائرية والقبليةquot;.

يضيف: quot;في الوقت نفسه، تحوّلت المدن العراقية إلى أرياف تحكمها عادات وتقاليد القرية، وينتقد العطوة وفض النزاعات بين الناس عبر العشائر، حتى وإن كان لها بعض الجوانب الايجابية، لأن مضارها أكثر من منافعها، وتُضعِف الدولة والسلطات الشرعيةquot;.

ويدعو عبد الدولة إلى بسط سيطرتها القانونية ومنع شيوع ممارسات حل النزاعات بقوة العشائر، لكي ينال المعتدي جزاءه والمظلوم حقوقه، عبر مؤسسات الدولة القضائية.