مظاهرة ترفض مهاجمة العشائر العراقية
العشيرة مجتمع مصغّر للمجتمع العراقي، تنقسم بين أفخاذ سنية وأخرى شيعية، إلا أن الكلمة الفصل فيها لشيخها المؤتمن على قيمها وضوابطها، لهذا لعبت دورًا في تجنيب العراق صراعات طائفية مريرة.

من أبرز صفات العشيرة العراقية تنوّعها الطائفي، إذ يندر أن تجد عشيرة من لون طائفي واحد، ما يضفي عليها صفة الجامع والمشترك بين مكونات تختلف اعتقاداتها الدينية. إلا أنّ هذا القول مثار خلاف أيضًا. ففي الوقت الذي يؤمن به الكثير ممن تشبع بالثقافة العشائرية، يبدو مجانبًا الصواب بالنسبة إلى متطرفين دينيين يقدّمون الولاء للطائفة والمذهب على أي ولاء آخر. فهؤلاء يرون في العلاقات العشائرية والقبلية قيمًا جاهلية يجب ألا تسود، باعتبار أنهاتعصب أعمى للقومية والقبيلة يبزه الاسلام ويرفضه .
لكن، مهما بلغ الخلاف حول دور العشيرة والطائفة والمذهب، تبقى الكلمة العليا والأخيرة في هذه المرحلة للعشيرة، بحسب آراء الكثير ممن التقتهم إيلاف. والدليل على صواب هذا القول، بحسب الشيخ ماجد الكلابي، شيخ أحد أفخاذ الجلابيات في واسط، نجاح العشيرة في بسط نفوذها مجددًا على الحياة العراقية بعد صراع طائفي امتد لسنوات، ولجمها هذا الصراع في المناطق الموجودة فيها.
المسلحون يغتالون العشائر
سعت الحكومات التي تعاقبت على العراق إلى بناء علاقات وطيدة مع شيوخ العشائر، لأنها تدرك الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المكونات الاجتماعية. ففي زمن الرئيس العراقي السابق صدام حسين (1937 - 2006) كانت الأجندة السياسية تسعى الى تسخير دور العشيرة لخدمة السياسات الرسمية، وكان النظام السياسي يتبنى فكرة دور العشيرة في تجنيب البلد بلاء الفتن الطائفية .
وبعد العام 2003، عملت الحكومة العراقية على تشكيل مجالس إسناد في كل انحاء العراق، بغية جر العشائر إلى دعم مساعي الحكومة في لجم نشاطات التنظيمات المسلحة التي تقوم على أسس طائفية.
يقول سعد العلواني، الجندي في الجيش العراقي الذي كان منتميًا الى مجالس الصحوات لمدة سنتين، إن الكثير من ابناء العشائر الذين انتموا الى التنظيمات المسلحة أنهوا علاقتهم بها بسبب التأثيرات العشائرية، لا سيما في غرب العراق، quot;استجابةً منهم لدعوات شيوخ العشائر في انهاء ارتباطاتهم بتلك التنظيماتquot;، بحسب العلواني. فنفوذ العشيرة قلّص نفوذ التنظيمات المسلّحة، ما جعل العديد من رؤساء وشيوخ العشائر أهدافًا للمسلحين، نجحوا في اغتيال بعضهم.
ويعترف الكلابي بأن دور العشيرة تقلّص في وقت من الأوقات، مع تصاعد المد الطائفي، لكن ذلك حصل في المدن حيث يضعف التأثير العشائري وفي المناطق التي تشهد فراغًا عشائريًا، لتعود العشيرة بعدها إلى عزّها. يقول: quot;ليست الصحوات في الحقيقة إلا فعالية عشائرية بدأتها عشائر الأنبار في غرب العراق، نجحت في ضم ابناء العشائر المغرر بهم من قبل التنظيمات المسلحة التي تجاوزت دور العشيرة، ومصطلح الصحوات من وجهة نظري يُطلق خطأ على هذه التنظيماتquot;.
اتهام بالرجعية
حاولت الحركات السياسية، بحسب ما يرى الشيخ جلال الجبوري، الخبير في الانساب وأصول العشائر في المحمودية، إلغاء دور العشيرة منذ عقود عديدة. يقول: quot;في فترة سبعينيات القرن الماضي، حين طغى المد اليساري والقومي على العراق، اعتبر سياسيو تلك المرحلة أن التمسّك بالعلاقات العشائرية وقيمها ردة رجعية عن العصرquot;.
اذ ساد المد الديني ومنذ التسعينيات، اشاع رجال دين جوًا مناهضًا للعشائر والانتماء العشائري، إذ قالوا إن التمسك بالعشيرة يناقض مفاهيم الاسلام، ولم تكن هذه العشائر إلا حجر عثرة أمام أسلمة المجتمع المدني في العراق. ويتابع الجبوري قائلًا: quot;لكن مساعي اليساريين والقوميين والاسلاميين باءت بالفشل، واضطرت القوى الدينية تمامًا كقوى اليسار للرجوع الى العشيرة من جديد بعدما شهد الجميع ارتفاع شعبيتها، وإحكام قبضتها على مقاليد السلطة والنفوذquot;.
التزاوج بين السنة والشيعة في العشيرة الواحدة أو العشائر المختلفة مثالٌ صارخٌ على الانصهار المجتمعي الذي يحول دون تفشّي الفتن المذهبية. هذا رأي أبو عماد الشمري السني المتزوج من شيعية تنتمي إلى عشيرته، وهو يؤكد أن حالته quot;عادية ومنتشرة في أنحاء العراق.

أفخاذ سنية وشيعية
في العراق طوائف عديدة، لكنّ الطائفتين الأساسيتين هما السنية والشيعية. وغالبية العشائر، بين تلعفر شمالًا والفاو جنوبًا، لا تنتمي إلى لون طائفي واحد، لا تتعدّد في أعضائها الانتماءات الطائفية، بحسب ما يقول أحمد عجة، مدرس التاريخ والباحث في المجتمع العراقي.
ويؤكد أحمد أنه يندر وجود عشيرة عراقية أحادية الطائفة والمذهب، رادًا السبب في ذلك إلى اتساع الرقعة الجغرافية التي تتمدّد عليها العشائر، وتفرض عليها هيبتها. فالهيبة العشائرية موجودة دائمًا، تتخطى المسافات الشاسعة، التي تعجز عن تخطيها الانتماءات المذهبية، المرتبطة بمكانية التواحد. من هذا المنطلق، يرجّح أحمد غلبة النفوذ العشائري ذات النطاق الواسع، على النفوذ الطائفي المحدّد بمكان، إلا أنّه يستدرك قائلًا إن quot;هذا محسوسٌ أكثر في القرى والأرياف، وبدرجة أقل في المدن حيث تصبح النعرات الطائفية أكثر حدة، والتأثير المذهبي أكثر حضورًاquot;.
يقول عصام الجبوري، رئيس فخذ في عشيرة الجبور، أن في عشيرته أفخاذاً سنية وأخرى شيعية، لان تواجدها الجغرافي يمتد في الجنوب والوسط والشمال. وينطبق الأمر نفسه على عشائر أخرى مثل البوعلوان، المنقسمين بين سنة وشيعة، بحسب سلمان العلواني من منطقة البوعلوان في شمال مدينة الحلة.
العشيرة مصدّ الطوائف
لقد عايش أحمد الكثير من الحوادث الطائفية في الأعوام السابقة، وجدت لها العشيرة حلولًا، لأن مكانة شيخ العشيرة تتيح له فرض كلمته على الجميع. يروي: quot;في العام 2005، كانت ثمة حوادث قتل في جنوب بغداد لأسباب طائفية، وهي مناطق مختلطة طائفيًا، لكنّ أغلبها سُوّي عشائريًا، ومن دون تدخل الدولة في أحيان كثيرةquot;.
انتعشت هذه الحوادث الطائفية العنيفة ، كما يقول أحمد، بعد تشكيل مجلس الحكم في تموز (يوليو) 2003 على أساس عرقي وطائفي. يضيف: quot;لو تم تعزيز العامل العشائري في المعادلة السياسية لما تصاعدت وتيرة العنف بالمستوى المعروف منذ العام 2004quot;. ويعاضده في هذا الرأي أمين العتابي، وهو باحثٌ اجتماعي، إذ يقول إن مشروع الفتنة يبقى قائمًا في العراق، طالما ضعف دور العشيرة. ويتابع: quot;حين تضعف الحكومة المركزية، يأتي دور العشيرة التي تمثل مصدًا للصراعات الطائفية. فيقظة العشائر من أسباب فشل مشروع الفتنة، لا سيما في المناطق الغربية من العراق، إذ قاتلت التنظيمات الطائفية المسلحة ومنها تنظيم القاعدةquot;.
على الرغم من أهمية الدور العشائري، لم يكن تعدد الانتماء الطائفي في العشائر العراقية محط اهتمام الدولة، لذا تغيب الاحصائيات التي يمكن أن تشير إلى حجم المكونات الطائفية للعشائر العراقية. إلا أن مشايخ العشائر يملكون الحد الأدنى والأبسط من المعلومات في هذا الشأن. فالشيخ مزهر الأسدي من كربلاء يعدّد الكثير من العشائر المختلطة طائفيًا، كعشائر شمر والجبور والسعدون والدليم والجنابيين، يتوزّع أفرادها بين سنة وشيعة.