الاستبداد عمّ الجميع، الاسلاميين والليبراليين على السواء، فأتت الثورات العربية لتسلم الاسلاميين السلطة، وتدفعهم إلى لعب دور المستبد نفسه، ما أوقع المجتمعات بعد ثوراتها في شقاق قد يصل في لحظة تخلٍّ إلى صراع مسلح.
تونس: ثارت الشعوب العربية على حكّامها المستبدين من أجل الحرية والكرامة والتنمية. ولكن بعد مرور عامين على الثورات العربية، لم تحقق هذه الشعوب الكثير، بل سجلت بذور انقسام حادّ بين الإسلاميين والليبراليين، وارتفعت وتيرة الإستقطاب الذي قد يصل حدّ العداوة. فمن المسؤول عن هذا الإنقسام وهذا الإستقطاب السياسي؟ ولم لم تنجح أحزاب الإسلام السياسي في جذب الليبراليين الثوريين إلى صفوفها؟
الربيع ليس مسؤولًا
أوضح المحلل السياسي عدنان الحسناوي لـquot;إيلافquot; أن الثورات العربية أظهرت حقيقة المجتمعات العربية التي كانت غير واعية بما يدور في داخلها من إشكاليات مشروعة. فمنذ الحرب العالمية الأولى، تعيش الشعوب العربية نوعين من الأنظمة: أنظمة باسم الإسلام مارست الفساد فقمعت العلمانيين، وانظمة علمانية على شاكلة النظام السوري الذي قمع الإسلاميين وزجّ بهم في السجون، ومن هنا تخوف كل طرف من الآخر، وهذا الإختلاف طبيعي لأن الهوية العربية الإسلامية هي التي توحد الشعوب.
يقول الحسناوي: quot;لمشروع التحديث مشروعيته كذلك لأنّه ينقل الأمة من مرحلة التخلف والإستبداد إلى مرحلة الحداثة والديمقراطية، نتيجة التطور الإجتماعي والإقتصادي والثقافي والفكري، ونتيجة الإحتكاك بالغرب، فتطرح تيارات الحداثة أكثر من أخرى تميل إلى المحافظة، والربيع العربي ليس مسؤولًا عن هذا التجاذب، إذ قدم الفرصة للتعبير عن هذا التجاذب الحقيقيquot;.
وتساءل الحسناوي: quot;هل سيؤدي بنا هذا الإنقسام إلى التقدم نحو مشروع حضاري يضمن وجودهما معًا إلى جانب التداول السلمي والتعددي؟ أم سنخطئ من جديد فلا نقبل التعدد والديمقراطية، بل ننزلق نحو العنف والإقصاء، ونعود إلى مربع الإستبداد؟quot;
القمع عام
بيّن نبيل اللباسي، المحلل السياسي ورئيس الجمعية التونسية للتنمية السياسية، لـquot;إيلافquot; أن موضوع الإنقسام بين الإسلاميين و الليبراليين يعود إلى أيام الدكتاتورية، quot;ففي تونس مثلًا، في العام 1989، كان الصراع محتدمًا بينهما حول المسائل المطروحة حاليا فقضت الدكتاتورية على الصراع وعلى ما رافقه من حوار في المهد، فترك نوعا من التشنجات تعاظمت بعد ذلك، وكل طرف يرى نفسه مقموعًا، وبعد الثورة أحسسنا كأننا عدنا إلى سنوات التسعينات بالخطاب نفسه من دون تطورquot;.
يضيف: quot;الأحزاب التي تدّعي الديمقراطية تعيش الدكتاتورية في داخلها، كما أن تهميش الشباب جعله اليوم غير قادر على المشاركة في الحياة السياسية بسبب القمع الذي مورس عليه، إلى جانب نضجه الفكري المحدود، وبالتالي لم يكن قادرًا على توفير بدائل سياسية تمثل عمق الثورةquot;.
أما المحلل السياسي طارق السيد، فيؤكد أن الصراع في جوهره يدور حول هوية الأمة وعقيدتها. يقول: quot;لقد شعر علمانيو مصر أن البساط يسحب من تحت أرجلهم، وأن المجتمع المصري ينحاز شيئًا فشيئًا تجاه هويته الإسلامية، لذلك استنفروا قواهم وكونوا جبهة من شركاء مختلفين في كل شيء، إلا في عداوتهم للمشروع الإسلامي، وهم يدركون أن إعلانهم هذا الأمر بشكل سافر سيؤدي إلى لفظهم من الشارع المصري، فافتعلوا الأزمات والمشاكل ليبرروا معارضتهم للنظام المصريquot;.
ضمان التعددية
أكد الحسناوي أن النخبة السياسية منقسمة في حدّ ذاتها وأطرافا من التيارين تعمل على إيجاد أرضية الحوار، لكن هناك أطراف أخرى لا تؤمن بالتعدد، وبالتالي نجد متطرفين من الجهتين، quot;الأهم هو أن على النخب المعتدلة داخل التيارين الإسلامي و العلماني أن تتواصل وتبني بالحوار وتفرض القبول بالمسار الذي يضمن التعددية والقبول بالرأي الآخر والإحترام المتبادل وبناء دولة القانون، لأن الديمقراطية تعني وجود اختلاف البرامج والرؤى المختلفة، ولا سيادة إلا لسلطة القانونquot;.
يضيف: quot;أصابت حركة النهضة عندما منحت التأشيرة لحزب نداء تونس وإلا عدنا إلى منظومة بن علي، وعليها أن تختلف مع حركة نداء تونس على مستوى البرامج من دون عنف، فهذا مشروعquot;.
وقالت الإعلامية آمال موسى إن أخطر لعبة سياسية يمكن أن تمارس في أي مجتمع هي لعبة التقسيم، quot;فعلى امتداد المحطات التاريخية التي تمت فيها ممارسة لعبة التقسيم الخطيرة داخل أي شعب من الشعوب، كانت النتائج وخيمة وعميقة الجروح والتداعيات، ما يؤكد إفلاس هذه اللعبة، لأنها ضد فكرة المجتمع القائم على التضامن والوحدةquot;.
الوضع معقد
يؤكد الحسناوي أن الحركات الإسلامية لم تفشل في أدائها السياسي، بل هي اليوم في أوج هذا الأداء، quot;فالشعب التونسي في 1956 لم يصوت للحركة الوطنية ولكن للمواطنين الذين واجهوا الإستعمار واستشهدوا من أجل الوطن. واليوم، نجح الإسلاميون ومنحهم الشعب صوته لأنهم كانوا مضطهدين.
يقول: quot;لم تفشل الحركات الإسلامية في دول الربيع العربي، فبعد سنوات من النضال عليها أن تعود إلى التاريخ من بابه السليم، فالإخوان يريدون أن ينخرطوا في العملية السياسية وفي مشروع سياسي لدولة مدنية حداثية، وهذا إيجابي لأنهم يمثلون جزءًا من المجتمعquot;.
يضيف: quot;خلافات الإسلاميين معقدة كتعقيد الوضع التاريخي، فالخلافات بين الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية لا يمكن أن تجد الحلّ بمجرد بروز إرادة سياسية، وبالتالي لا يمكن طرحها بطريقة سطحيةquot;. فظاهرة السلفية الجهادية مرتبطة بصراع دولي قبل أن يكون إقليميًا حول النفوذ، ومن يحكم العالم منذ الحرب الباردة.
وأوضح اللباسي أن تأثير السلفية الجهادية كبير على الحركات الإسلامية المعتدلة، التي ساهمت في الإنخراط في اللعبة الديمقراطية. فقد وجدت حركة النهضة التونسية نفسها مجبرة على احترام قانون الأحزاب، وعدلت عن تواجد أئمتها في المساجد، وهو ما دفع السلفيين الجهاديين إلى احتلال العديد من المساجد وطرد العديد من الأئمة عن المنابر.
من خلاف فكري إلى عنف
رأى الحسناوي أن سبب تفشي الخلافات بين الإسلاميين يعود إلى أن الأمة لم تشهد تاريخيًا، منذ صدمة نابليون بونبارت واحتلاله لمصر، طرح المسائل الاقتصادية والاجتماعية على مستوى الشعب، على الرغم من أنها طرحت على مستوى النخب، كما أن الإشكال لا يتمثل في التجاذبات بل في إمكانية ان تؤدي هذه التجاذبات إلى استخدام العنف، وتبرير من هم في السلطة اعتمادهم القمع، ما يشير إلى نجاح مرحلة الإنتقال الديمقراطي أو فشلها.
واعتبر اللباسي الخلافات طبيعية، quot;لكن الخطر يكمن في أن يتحول من خلاف فكري إلى عنف بين الأحزاب الإسلامية التي انخرطت في اللعبة السياسية وبين الحركات التكفيرية التي ترفض الديمقراطية وتمارس العنف، وتشكل خطرًا كبيرًا على الديمقراطية وعلى الحركات الإسلامية نفسهاquot;.
ويشدد اللباسي على أن حالة القهر والإستبداد هي المسؤولة عن هذا الخلاف، فالتعبيرات المتطرفة تجد الفضاء للنشاط في ظل الأنظمة الديكتاتورية التي منعت الحركات المعتدلة من النشاط السياسي، وهذا ينسحب تمامًا على التيارات اليسارية المتطرفة.
تبادل المخاوف
قال الدكتور أحمد منسي، الخبير في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام، في حوار متلفز: quot;هناك مخاوف متبادَلة بين الإسلاميين والليبراليين في هذه المرحلة من تاريخ مصر، فلكل منهما مبرِّراته، مؤكدًا أن مصر لم تشهد من قبْل انتخابات حرّة تبيّن وزْن كل تيار سياسي، وهو ما يجعل كل تيار يخاف من سيطرة الآخر على الحياة السياسية وتفرّده بهاquot;.
وشدّد الناشط السياسي الدكتور عمرو حمزاوي على أن الليبراليين يتخوفون من الأسئلة التي تنتظر الأجوبة، ومنها مدى التِـزام الإسلاميين بالدولة المدنية موضحًا أن الدستور هو مرجعية الدولة المدنية النهائية، مع إمكانية استدعاء الدستور للإسلام كمرجَعية. ويتخوّفون كذلك من الخلْـط بين الدِّيني والسياسي، حيث يتم اختصار الدين في رأي الجماعة.
وحذّر عبدالحكيم بلحاج، قائد المجلس العسكري للثوار في طرابلس العلمانيين، من محاولات تهميش الإسلاميين، مشددًا على التزام الإسلاميين بالديمقراطية. وهو كتب في صحيفة بريطانية: quot;قصر النظر السياسي لدى هؤلاء الذين يحاولون استبعادنا يجعلهم غير قادرين على رؤية المخاطر الضخمة جراء هذا الاستبعادquot;.
أضاف بلحاج أن المسؤولية مشتركة في غياب الوعي السياسي الشعبي بين مختلف الأطراف، إلى جانب الأنظمة المستبدة، فالمعرفة تتطلب إرادة وحبًا للعلم.
مختلف في سوريا
شدّد الحسناوي على أن الصراع في سوريا إقليمي ودولي، quot;فمشكلة سوريا ليست شعبًا يريد أن يغير نظامًا مستبدًا فقط، بل هناك أطراف دولية نافذة لا تريد لهذا الشعب أن يحقق التغيير، والتسوية ستتم بين روسيا وأميركا على حساب الإرادة الحقيقية للشعب السوري، وإسرائيل تعمل على إفشال الثورة العربية في سورياquot;.
أضاف: quot;دمر السوريون سوريا، وبشار الأسد أصبح ضعيفًا، وبقاؤه سيجعل منه دمية يسهل التحكم بها، وسيبقي لروسيا قاعدة عسكرية في طرطوس، وهي غنيمة استراتيجية، أما إسرائيل فلا يهمّها أن تحقق روسيا الفوز ولكن الأهم هو أن بشار لا يمكن أن يمثل تهديدا في المستقبل لها، كما أن هذه التسوية بين روسيا وأميركا ستعطي روسيا من خلالها الضوء الأخضر لإسرائيل لضرب إيران، وبالتالي تحقق إسرائيل أهدافها الإستراتيجية، فتوقف توسع الإسلاميين في نواة دولة إسلامية تمتد من سوريا إلى مصر و المغرب العربيquot;.
التعليقات