رسم نادر الحاج قدّور مئات اللوحات لعائلة الأسد في سوريا منذ أن بدأ مهنته في السبعينات. اليوم، مزّق الثوار أعماله وأحرقوها، لكنّه غير حزين على الإطلاق، بل يدعوهم إلى تدمير ما تبقى منها.


في الطبقة الثانية من مدرسة حضانة في بلدة حدودية تركية، يفضّل الفنان نادر الحاج قدّور الحديث عن رسومات الفراشات، التي يخطها بريشته للأطفال السوريين، الذين لجأوا إلى البلاد، بدلًا من الحديث عن اللوحات التي رسمها للرئيس السوري بشار الأسد وأبيه حافظ الأسد، اللذين كانا الموضوع الرئيس للوحاته الفنية، لأربعة عقود مضت، عندما هيمنت وجوههم على الجدران وواجهات المتاجر ونوافذ السيارات في أنحاء سوريا كافة، لتكون إعلانًا بصريًا عن الولاء للطغاة.

كانت صور الرئيس وأولاده أولًا، ثم ولده الرئيس تاليًا، تختفي أحيانًا، ولو جزئيًا، وراء النظارات الشمسية، وترتسم أحيانًا أخرى في الزيّ العسكري، لكن ملامحهم قاسية وعابسة دومًا، للتذكير في كل مكان بأن الأخ الأكبر يراقب الجميع.

رسم الحاج قدّور المئات من هذه اللوحات، ولم يكن يجرؤ على الرفض خوفًا من العقاب. لكن عندما بدأت الانتفاضة قبل أكثر من عامين، ضعفت سيطرة الحكومة على بلدته في شمال سوريا، وقال إنه لم يحبّذ يومًا رسم هذه اللوحات، بل يفضّل رسم المناظر الطبيعية الجميلة. quot;أردت أن أرسم المناظر الطبيعية والحيوانات والأزهار، لكن طلبات الحصول على صور الرئيس لم تتوقفquot;، كما قال الحاج قدّور في حديث لصحيفة لوس أنجيليس تايمز.

في ظل الثورة المستمرة ضد الأسد، يشاهد الفنان، البالغ من العمر 66 عامًا، الصور التي أمضى حياته المهنية في إنتاجها، وقد مزّقت إربًا. في إحدى المرات، جاء رجل ذو شأن في المعارضة إلى منزله في سوريا، واعتذر عن تشويه لوحاته، فقال له: quot;ليس عليك الحصول على إذن مني... إذهبوا ودمّروهاquot;.

جعلوه إلهًا!

بدأ الحاج قدّور الخدمة العسكرية الإلزامية في العشرينات من عمره على مشارف العاصمة دمشق. عندها، طُلب من جميع المجنّدين الكشف عمّا إذا كانوا يمتلكون أية مهارات خاصة، فأبلغهم أنه ماهر في الرسم والتخطيط.

أما الجنرال، الذي أشرف على القاعدة العسكرية، حيث خدم الحاج قدّور، فقد قام بفرزه في حديقة الضباط، وقدّم إليه اللوحات والإمدادات والألوان. وطلب منه بانتظام رسم المناظر الطبيعية ليزيّن بها مكاتبه، حتى إنه طلب منه مرة إعداد نسخة طبق الأصل عن الموناليزا.

في العام 1970، حين كان الحاج قدّور في الجيش، أطيح بالرئيس السوري نور الدين الأتاسي، في انقلاب قام به قائد سلاح الجو، الرئيس حافظ الأسد. وكان جنرالات الجيش الأكثر حرصًا على إظهار دعمهم للرئيس الجديد، فطلبوا من الحاج قدّور صورة للأسد لعرضها خلال الكلمة التي ألقاها الرئيس الجديد في قصر العدل.

قال: quot;عندما رأوا اللوحة، وعرفوا أنني ماهر في رسم الرئيس، وجعله يبدو أفضل مما كان عليه، بدأوا بالتدفق إلى استوديو الجيش طالبين مني المزيد من اللوحاتquot;.

وسرعان ما انهمرت الطلبات عليه من أعضاء في الحكومة ومؤسسات حزب البعث ومخافر الشرطة والمنظمات أو الشركات التي تريد أن تظهر الولاء للرئيس الجديد.

اسخدمت لوحات الحاج قدّور أيضًا كرشوة خاصة، فكلما أراد أحدهم كسب ود الرئيس أو الحصول على خدمة من وكالة حكومية كان يحضر صورة رئاسية!. وقال قدور: quot;لقد جعلوه بمرتبة الإلهquot;.

كانت قبرًا

عندما ورث بشار الأسد الرئاسة بعد وفاة والده في العام 2000، إعتقد الحاج قدّور، كالكثير من السوريين، أن طبيب العيون، الذي أتى من لندن، سيحمل معه التغيير نحو الأفضل. لكن سرعان ما عادت الممارسات القديمة إلى الظهور، وبدأت طلبات صور جديدة تنهمر على الرسام، إلى أن بدأت الانتفاضة في آذار (مارس) 2011، كان الحاج قدور يتلقى نحو طلبين في الأسبوع لرسم صورة بشار الأسد.

المعارضة السورية لا تلوم الحاج قدّور على رسمه لوحات لعائلة الأسد، فهم يعرفون أكثر من غيره أن الرفض كان يؤدي إلى سجنه بتهمة معارضة الرئيس، في ذلك الوقت.

وعلى الرغم من أنه يحب وطنه، قال الحاج قدّور إنه شعر وكأنّ بلاده كانت قبرًا في عهد الأسد، حيث لا يمكن التنفس بحرية، وازداد هذا الشعور كلما ذهب إلى الخارج للدراسة أو لتنفيذ لوحة فنية. قال: quot;بعدما رسمت صورة بطول 10 أقدام للأسد كانت معلقة في مدينة إدلب، استدعيت إلى قصر الرئاسة في دمشق، حيث طُلِب مني رسم 20 صورة إضافية، لتعليقها في غرف ضباط الحرس الجمهوريquot;.

وكان يتلقى وعودًا يومية بأنه سيجتمع مع الرئيس، لكنه لم يفعل ذلك أبدًا، وقال: quot;الرئيس لم يكن يقدّر الفنquot;. وقبل سبعة أشهر، فرّ الحاج قدّور وعائلته من قرية بنش في محافظة إدلب شمال سوريا، حيث استقر ووالدته وأسرة أخيه في بلدة تركية تبعد 15 دقيقة عن الحدود السورية.

وعندما اندلعت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في مسقط رأسه، بدأ الحاج قدّور رسم الرئيس بطريقة مختلفة، وساعد النشطاء على رسم الرسوم الكاريكاتورية، يظهر فيها الأسد بآذان ضخمة، ووالده بأنف حاد وأذنين كبيرتين بشكل هزلي.

في إحدى المدارس الثانوية المهنية، القريبة في تركيا، أكمل الحاج قدور ثلاث جداريات في أقل من شهر، بما في ذلك واحدة لكمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة. وهناك قائمة انتظار للمدارس، التي ترغب في توظيفه، quot;لأنه فنان لا يسعى وراء المال، حتى بعد انتهاء الحرب، لن ندعه يعود إلى سوريا، وسوف نجد له زوجة تركية ليستقر هناquot;، كما قال نيسمتن يوموساك، مدير مدرسة مهنية في تركيا.