يستعيد نوري المالكي أخطاء الولايات المتحدة في العراق، فيعادي السنة والأكراد من خلال احتكار السلطة، ما ينذر بحرب طائفية قومية جديدة في العراق.


لندن: قتل وأُصيب المئات من العراقيين في احدث موجة من اعمال العنف أعقبت الاشتباكات، التي وقعت بين قوات الجيش ومحتجين ومسلحين في مناطق ذات اغلبية سنية الشهر الماضي، عندما فقدت حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي سيطرتها لبعض الوقت على مراكز مدن واحياء في محافظات كركوك ونينوى وديالي.

في هذه الأثناء، تراكمت المؤشرات السلبية، إذ عادت ميليشيات مدنية إلى الظهور وتزايدت التفجيرات والتفجيرات المضادة مستهدفة مساجد السنة والشيعة، وأخذت بعض قوات الجيش العراقي تتفكك إلى مكونات مذهبية وقومية، أو تعاني غيابات مزمنة في صفوفها. وتشعر اوساط سياسية مختلفة من السنة والشيعة والكرد بالاستياء والسخط من عجز الحكومة عن تسوية الخلافات السياسية وإزالة الفوارق الاقتصادية بين مكونات المجتمع العراقي. ويدور حديث جدي في هذه الأوساط عن تقسيم العراق.

تفكك عراقي
وكان جيش السلطة اخطأ الحساب في 23 نيسان (ابريل)، عندما تحول اقتحامه ساحة الاعتصام في قضاء الحويجة في محافظة كركوك إلى مواجهة دامية أوقعت عشرات القتلى المدنيين.

وتنذر الواقعة بأن تتحول صرخة حرب تستغلها جماعات مسلحة مثل تنظيم القاعدة في العراق وجيش الطريقة النقشبندية البعثي الجديد، الذي سيوظف أخطاء الحكومة في خدمة دعوته إلى مقاومة الاحتلال الصفوي للعراق، في اشارة إلى وقوع الحكومة التي تسيطر عليها احزاب شيعية في بغداد تحت النفوذ الايراني.

ويتبدى تصاعد العنف في العراق خلال الفترة الماضية بوضوح في المعايير المستخدمة لقياس قوة الجماعات المسلحة. فإن القاعدة البيانية للعنف في العراق لدى معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى رصدت اعمال العنف منذ العام 2004.

وتبين ارقامها للربع الأول من العام 2011 أن المتوسط الشهري للحوادث الأمنية كان 358 حادثًا امنيًا، لكن المتوسط الشهري ارتفع إلى 539 حادثًا امنيًا في الربع الأول من 2012، وبنهاية الربع الأول من 2013 بلغ هذا المتوسط 804 حوادث امنية في الشهر.

ولا تقدم هذه الأرقام دليلًا على تزايد الهجمات والتفجيرات فحسب، بل وعلى الاستعاضة عن الأهداف الاميركية التي لم تعد متوفرة بعنف عراقي ـ عراقي، على حد تعبير مجلة فورين بوليسي.

الاخطاء نفسها

ينظر مراقبون متمرسون مثل راين كروكر، السفير الاميركي السابق في العراق، إلى الفترة الحالية على انها عودة إلى اوضاع العامين 2006 و2007، عندما وقع العراق في دوامة من العنف الذي كاد يتصاعد إلى حرب أهلية شاملة.

لكن هناك مقارنة لا تقل أهمية بالفترة التي اعقبت احتلال العراق مباشرة في العام 2003، عندما أدت اخطاء الاميركيين إلى تنامي الجماعات المسلحة. واليوم ترتكب حكومة المالكي الأخطاء نفسها التي ارتكبتها الولايات المتحدة وقتذاك، باستعدائها السنة واحتلال مناطقهم بحملات عسكرية وأمنية غاشمة، لا تميز بين المسلحين المتطرفين وجمهرة المدنيين السلميين.

وحاولت حكومة بغداد ترحيل فشلها في التعامل مع مشاكل شعبها إلى الانتفاضة السورية، متذرعة بأنها تعاني تداعيات العنف المحتدم على اعتاب العراق. لكنها ذريعة واهية تدحضها حقيقة أن الوضع الأمني توقف عن التحسن قبل اندلاع الانتفاضة السورية في العام 2011. كما لا يمكن أن يُعزى تصاعد أعمال العنف إلى نعرات وعداوات قديمة بين السنة والشيعة. فإن ما أجج نيران الطائفية من جديد هو امتناع حكومة المالكي عن تلبية المطلب الداعي إلى انهاء العقاب الجماعي الذي يتلقاه السنة عن جرائم ارتكبها النظام البعثي السابق.

ويرى محللون أن القوة الحقيقية المحركة للعنف في العراق هي تركيز السلطة بيد حكومة المالكي المصابة برهاب طائفي، بحسب فورين بوليسي. وكان المفترض أن تُطبق صيغة مشاركة في السلطة في حين أن الدستور العراقي نص على اعتماد النظام اللامركزي، مانحًا المحافظات والاقاليم صلاحيات واسعة. وكانت هذه السياسة تعكس حقيقة لا مفر منها، وهي أن العراق بعد صدام حسين ليس ناضجًا لاستيعاب نظام سياسي فيه رابحون بالمطلق وخاسرون بالمطلق.

طغيان السلطة التنفيذية

لكن المالكي شرع في العودة إلى النظام المركزي وتركيز السلطات ابتداء من العام 2008، معتمدًا بصورة متزايدة على حلقة ضيقة من الشيعة المعارضين للنظام الدكتاتوري السابق. لكن هذه الزمرة، مثلها مثل جميع المعارضين الذين يأتون إلى السلطة، مصابة بوسواس مرضي من الثورة المضادة، وراحت تبني نسخة من النظام السلطوي الذي حاربته طيلة عقود حين كانت في موقع المعارضة.

وتحتكر حلقة المالكي الداخلية صلاحية تعيين القادة العسكريين وتسيطر على المحكمة الاتحادية وبسطت سيطرتها على البنك المركزي. وتطغى السلطة التنفيذية على كل الآليات الرقابية التي أُنشئت لضمان عدم ظهور مستبد جديد. وهذا يعني أن جذر العنف في العراق ليس احقادًا قديمة بين سني وشيعي أو بين عربي وكردي، بل بين قوى تمركز السلطة بيدها وأخرى تريد تطبيق اللامركزية في مناطقها، وبين من يريدون أن يخلفوا عنف الماضي وراءهم واولئك العازمين على مواصلته.

لا يمكن للمطالب التي دأب الأكراد وسنة العراق على طرحها أن تقبل اللبس. فالمعارضة تطالب بتطبيق اللامركزية المالية التي يمنحها قانون تقاسم الثروات لاقليم كردستان والمحافظات، وينص القانون على تخصيص نسبة من الميزانية للاقليم والمحافظات.

وثانيًا، تطالب المعارضة بتطبيق نظام المحاسبة والرقابة على أداء السلطة التنفيذية وخاصة تمكين البرلمان من الاضطلاع بدوره في هذا المجال وضمان استقلال القضاء. وثالثًا، تدعو المعارضة إلى عملية مصالحة حقيقية تحقق العدالة لضحايا النظام الصدامي، من دون معاقبة السنة عمومًا بجريرة آثامه.

إخضاع الحاكم

في هذه الأثناء، يرجح المراقبون أن يزداد الوضع الأمني في العراق ترديًا، مع تمادي المالكي في عودته إلى المركزية السابقة. ويحتاج الأكراد والسنة الآن إلى سبب قوي حقًا لإقناعهم بالبقاء في العملية السياسية المتداعية وفي الإطار المفكك للدولة العراقية.

تتيح الانتخابات البرلمانية في العام 2014 فرصة لاستئناف إعادة بناء العراق. ومن الجائز أن يخرج المالكي منتصرًا من هذه الانتخابات، فهو سائر اليها متمتعًا بأفضليات عديدة، بينها السيطرة على غالبية الوزارات الاستراتيجية والحساسة وعلى كل الاجهزة الأمنية والاستخباراتية وعلى المحكمة الاتحادية والقضاء عمومًا. والمفتاح إلى انقاذ العراق من التفكك هو إخضاع حاكم العراق بعد انتخابات 2014 ايًا يكن إلى ضغوط قصوى يمارسها عليه المجتمع الدولي وممثلو مكونات الشعب العراقي، للعودة إلى اطار أكثر ديمقراطية وتحررًا ولامركزية.

وإذا اختارت الولايات المتحدة أن تدعم المطالبين بمثل هذا الاطار، فإنها لن تكون وحيدة، بل إن كل المفاعيل التي لها دور في العراق تتطلع إلى حكومة أقل تقسيمية في بغداد.

إن تجربة صنع رجل قوي يمسك كل السلطات بيده في بغداد لم تسفر عن عراق أكثر استقرارًا. وان إرخاء الأواصر التي تبقي العراق موحدًا مخاطرة، لكن شدها بمركزية مفرطة خطر أكبر، كما ترى مجلة فورين بوليسي.