يجيد الإيطاليون الكلام الإيمائي، أي التواصل مستخدمين أيديهم وأجسادهم، وهي لغتهم اليومية، وكأنهم ممثلون على مسرح الحياة الكبير الذي اسمه روما.


في المسرح الكبير، الذي اسمه روما، يتحدث الممثلون بأيديهم بقدر ما يتحدثون بأفواههم. فالإيطاليون يستخدمون أياديهم بتنسيق متقن يُحسدون عليه، سواءً أكانوا يتحدثون بحمية على هواتفهم الخلوية أو يدخنون أو حتى عندما يبدلون سرعة سياراتهم الصغيرة لشق طريقهم في الازدحام.

وهناك بلاغة في كل حركة تؤديها يد الإيطالي، حتى عندما يعقف سبابته وإبهامه على شركة قرصة ليقول quot;ماذا تريد مني؟quot;. وفي ثقافة تثمن الخطابة منذ أيام القيصر، لا شيء ينافس البلاغة الخطابية كما تنافسها حركة الأيدي. وتكون بعض الحركات بسيطة.

لا تليق
عندما يضع الإيطالي أحد وجهي اليد على المعدة، يريد بذلك أنه جائع، وعندما يثني سبابته على وجنته فإنه يعبّر عن تذوقه طعامًا لذيدًا، وحين ينقر على رسغه فإن هذه إشارة عامة معناها: quot;هيا لنسرع قبل أن يفوتنا الوقتquot;. لكن هناك حركات أشد تعقيدًا، تعبّر عن التسليم بالقدر أو التعب من هذا العالم، وهي حركات لا غنى عنها يستخدمها الإيطالي كما يتنفس الهواء.

قد تكون اليدان المفتوحتان سؤالًا عمّا يجري. وحين تسأل إيطاليًا في روما عن موعد وصول الحافلة، يأتيك الجواب بهزة كتف وصوت كصوت محرك ينطفئ، وبيدين مرفوعتين إلى السماء، بما مؤداه quot;فقط عندما تسمح العناية الإلهية بمجيئهاquot;.

يمارس الإيطالي حركات اليد بالسليقة. وحين سألت صحيفة نيويورك تايمز سائق سيارة أجرة في روما عن هذه الحركات تساءل: quot;هل يعني هذا أن الأميركيين لا يحركون أيديهم؟ ويتحدثون هكذاquot;، ثم تجمد مادًا يديه على جنبيه قائلًا quot;أهكذا يتكلمون؟quot;. وكان السائق باسكوالي غارانسينو جالسًا وراء المقود يتحدث مع صديق خارج السيارة، وأياديهما تشتغل في حركات منسقة كأنها بتوجيه من مخرج مسرحي. وحين سُئل السائق غارانسينو عن حركته المفضلة، قال إنها لا تليق بأن توصف في وسيلة إعلام مطبوعة.

منذ قبل الولادة
في إيطاليا، الأطفال والشباب والشيوخ يتكلمون بالأيدي، ويمزح الإيطاليون قائلين إن حركة الأيدي تبدأ حتى قبل ولادة الإيطالي.وقالت لورا أوفيندو، وهي امرأة من روما تحرك يديها أكثر من لسانها: quot;عندما تُفحص الأم الحامل بالموجات فوق الصوتية يظهر الطفل قائلًا دكتور، ماذا تريد مني؟quot;، قارصة إصبعي السبابة والإبهام، ومحرّكة يدها إلى الأعلى والأسفل.

الطريف أن الإيطاليين يستخدمون حركات الأيدي بحميتهم المعهودة حتى وهم يأكلون الآيس كريم، من دون أن يقع شيء منها. وقال أليساندرو، الذي كان يتحدث مع صديقه محرّكًا الآيس كريم بيده ذات اليمين وذات الشمال، إن شباب اليوم يستخدمون حركات لم يستخدمها جيله، مثل رسم علامة الاستفهام في الهواء تعبيرًا عن التهكم.

لكن إيماءات اليد تفلت أحيانًا من السيطرة، وتوقع صاحبها في متاعب. وقررت المحكمة العليا الإيطالية في العام الماضي فرض غرامة على رجل ضرب عجوزًا في الثمانين من العمر، أثناء تحريك يده بعنف، لإيصال ما يعنيه إلى صديقه وسط ساحة عامة في منطقة بوليا في جنوب إيطاليا. وقال القاضي: quot;ليس الشارع العام غرفة معيشة، وعادة اقتران الكلام بحركات اليد مباحة بكل تأكيد، لكنها ممنوعة في سياقات معينةquot;.

بلا قواعد
وفي العام 2008، رفع أمبرتو بوسي، زعيم حزب رابطة الشمال المحافظ، إصبعه الأوسط خلال عزف النشيد الوطني الإيطالي.ولكن الإدعاء العام في مدينة البندقية قرر أن الحركة، وإن كانت بذيئة وأثارت غضبًا عارمًا بين الإيطاليين، فإنها ليست جريمة.
وتشكل حركات اليد جزءًا من المشهد السياسي الإيطالي منذ زمن بعيد. والمعروف عن رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني أنه يكثر من حركة اليدين. وحين التقى الرئيس الأميركي باراك أوباما وزوجته ميشيل خلال قمة مجموعة العشرين في العام 2009، مدّ يديه وراحتيهما قبالة وجهه، ثم قرص أصابعه ماسحًا قوام ميشيل أوباما بنظراته من قمة رأسها إلى أخمص قدمها، في حركة فُسّرت بأنها تقول: quot;يا سلام على هذه الحلاوةquot;.

وأحصت إيزابيلا بوجي، أستاذة علم النفس في جامعة تري في روما والخبيرة المتخصصة في إيماءات اليد، نحو 250 حركة يستخدمها الإيطاليون في أحاديثهم اليومية.

وقالت بوجي لصحيفة نيويورك تايمز: quot;هذه الحركات تعبّر عن تهديد ما أو أمنية أو يأس أو خجل أو فخرquot;. وأضافت أن الفارق الوحيد بينها وبين لغة الإشارات التي يتواصل بها الصم والبكم هو أنها تُستخدم فرديًا، وتفتقر إلى القواعد اللغوية.

نظريات الإيماء
تذهب إحدى النظريات إلى أن الإيطاليين طوّروا إيماءات اليد، لتكون شكل تواصل بديلًا حين كانوا تحت الاحتلال النمساوي والفرنسي والإسباني من القرن الرابع عشر حتى أواخر القرن التاسع عشر، كطريقة للتواصل لا يفهمها المحتل.

وتقول نظرية أخرى إن إيماءات اليد في مدن مكتظة بالسكان، مثل نابولي، أصبحت طريقة للتنافس، يقول بها الفرد quot;هذه رقعتيquot; في حلبة مزدحمة. وقالت بوجي: quot;للفت الانتباه، كان الناس يستخدمون حركات اليد والجسدquot;. ولاحظت بوجي تطور اللغات على مر العصور، فيما بقيت حركات اليد بلا تغيير، قائلة: quot;الإيماءات تتغير أقل من تغير المفرداتquot;.

واهتم الفلاسفة بحركات اليد منذ زمن طويل. وقال الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو، الذي عاش في القرن الثامن عشر، وعمل أستاذًا للخطابة في جامعة نابولي إن حركات اليد شكل من أشكال التواصل أقدم من اللغة.

وتذهب روايات إلى أن الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين راجع نظريته القائلة إن اللغة تُستخدم لتثبيت حقيقة ونقل معلومة، أو على الأقل قام بتنقيحها، بعدما رد الاقتصادي الإيطالي بييرو سرافا على النظرية بحركة واحدة، كانسًا حنكه بأصابعه في إشارة تعني quot;لا آبه لما تقولquot;. وقالت بوجي إن مثل هذه الحركة لا تنقل معلومة، بل هي تمرد على السلطة، طريقة يستخدمها المرء لاسترداد كرامته.