كان العراقيون يعتقدون أن انتشار الرشوة في التسعينيات يعود إلى انخفاض دخل الموظف بسبب الحصار الاقتصادي، لكن الامر غير ذلك، فدخل الموظف مرتفع ومع ذلك تنتشر الرشوة تحت مسميات الهدية، التي تذلل العقبات أمام المعاملات.
بغداد: ركزت نتائج دراسة انجزتها لجنة النزاهة العراقية، بدعم من الجهاز المركزي للإحصاء، هذا الشهر، على الفساد والنزاهة في القطاع العام العراقي، فأتت متطابقة لاستطلاعات بين العراقيين تفيد بارتفاع معدلات الرشوة، حيث افادت أن نحو 60 في المئة من موظفي الخدمة المدنية يتعاطون الرشاوى، كما أن المواطن يضطر إلى دفع الرشوة اربع مرات في السنة.
وإذا كانت الرشوة في السابق تحدث بين الناس على استحياء، وتجري بمسوغات مختلفة تحت أساليب شتى مثل الهدية أو التكريم، فإنها اليوم تنتشر بلا خجل، بل أن كلاً من الراشي والمرتشي يتفقان على مقدار الرشوة، حسب العمل والانجاز.
مجتمع مادي
يقول احمد حسن، الذي دفع نحو ثلاثمائة دولار لغرض الاسراع في ملف توظيفه، إن اغلب الناس يلاحظون تحوّل المجتمع العراقي إلى مجتمع مادي بحت،على الرغم منأداء كثيرين للطقوس والشعائر الدينية، وفي هذا ازدواجية غريبة. وبالنسبة لحسن، فإنه يرى أن الطمع ورغبة الموظف أو المسؤول في جني اكبر قدر من المال هما السبب في ازدهار الظاهرة، ويترافق ذلك مع غياب الرقابة.
ويتابع: quot;أغلب الناس كانوا يعتقدون أن انتشار الرشوة في تسعينيات القرن الماضي يعود إلى انخفاض معدل دخل الموظف أو المواطن بسبب ظروف الحصار الاقتصادي التي مر بها العراق، لكن الامر بدا غير ذلك، ففي الوقت الحاضر دخل الموظف جيد جدًا، ومع ذلك تنتشر الرشوة على نطاق أوسع ولم يمنعها ارتفاع المستوى المعاشي وتحسن الحالة الاقتصاديةquot;.
إغراء الموظف
الباحث الاجتماعي سلمان علي يقول إن الفرد العراقي صار من اكثر المشجعين للرشوة والفساد، فهو في الغالب يبحث عن شخص أو واسطة قبل الشروع في معاملته، سعيًا لكسب الوقت وكسب امتيازات لا تنطبق عليه وفق القانون، لكنه يسعى إلى حيازتها عبر إغراء الموظف المكلّف بانجازها عبر الرشوة. ويرى علي أن الرشوة عادة اجتماعية قديمة تزيد وتقل بحسب الظروف السياسية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع، كما تتأثر بالمستوى الطبقي والأكاديمي للأشخاص.
ويتابع: quot;الرشاوى بين النخب والساسة وأصحاب المناصب ضخمة جدًا، بآلاف الدولارات إن لم تكن بالملايين، لكن بين الناس من محدودي الدخل لا تتجاوز العشرات من الدولاراتquot;.
وتؤشر حالات تعاطي الرشوة على ظاهرة بدت واحدة من سمات المجتمع، الذي تسوده قيم دينية واجتماعية من المفترضأن تحد من السلوكيات الخاطئة، حيث يتحدث التاجر رعد جاسم أنه تمكن عبر الرشوة من توظيف ابنه معلماً في احدى المدارس بعد أن ظل لسنوات عاطلًا عن العمل. ويرصد علي حالات الرشوة بصورة كثيفة في الدوائر التي على تماس مباشر يومي مع المواطن، مثل دوائر العقار والجنسية والمستشفيات. لكن الاخطر، بحسب سلمان انتقالها إلى المدارس، ما يخلق بيئة دراسية فاسدة تؤثر على المستوى العلمي وبناء شخصيتهم في المستقبل.
اعلانات ضد الرشوة
يعترف المواطن سعد الكلابي أنه مارس الرشوة بصورة طوعية، حين أهدى موظفًا ما يعادل الخمسمائة دولار لكي ينجز معاملته التقاعدية وهو خارج العراق. ويتابع: quot;في كل الدوائر التي زرتها لمست الرشوة تنتشر بشكل واسعquot;.
وفي اغلب دوائر الدولة، سعت الجهات المسؤولة وهيئة النزاهة إلى نشر اعلانات تحث على محاربة الفساد والرشوة والإبلاغ عن تلك الحالات. وأغرى كريم العتابي موظفاً في البلدية، بمائتي دولار لتمرير معاملته في الحصول على قطعة أرض. لكن العتابي لا يعتبرها رشوة بل هدية، ذلك أن أوراقه الرسمية لا يشوبها نقص، لكنه منح الموظف المبلغ لتذليل أية صعوبات محتملة، ولكي يسرع في تقديم الطلب ومتابعته داخل الدائرة البلدية.
وتفيد دراسة هيئة النزاهة إلى أن فئة الشباب هي الاكثر تعرضًا لابتزاز المرتشين، فيما جاءت شريحة كبار السن في آخر التسلسل. وترى الناشطة النسوية والمحامية كريمة لفتة أن الرشوة جزء من حالة الفساد العامة وأصبحت احدى وسائل الكسب اليومي، مع أن قانون العقوبات يوجب السجن حتى 10 سنوات لكل من الراشي والمرتشي. لكنها تعترف بأن قضايا الرشوة نادرة جدًا في المحاكم، لأنها في الغالب تجري بموجب اتفاق شفهي قائم على الثقة والمعرفة بين طرفين أو اكثر.
هدية وليست رشوة
ثمة من يمتهن الواسطة، مثل ابو عصام، وهو رجل في الستين يستطيع أن يذلل لك عقبات معاملتك مقابل مبلغ من المال تقدمه له كهدية، اضافة إلى حصة الموظف الذي سيعالج المعاملة ويذلل عقباتها. لكن ابو عصام يرفض أن يسمي ذلك رشوة بل هي تسهيل اعمال توفر على المواطن الوقت والجهد، ويرفض القول إنه ينجز معاملات غير صحيحة، فكل ما يفعله هو ضمن القانون حيث حرص على أن لا يتعداه.
وأكثر قضايا الرشوة التي تعاملت معها هيئة النزاهة هذا العام هي دعاوى على اناس تلقوا مبالغ مالية لأجل التوظيف في دوائر الدولة، ولأن الطرف الآخر لم يفِ بوعده، وفي الغالب يكون قد اختفى، يضطر المتعاملون معه إلى اقامة دعاوى قضائية في محاولة لاسترداد حقوقهم.
التعليقات