يقرأ سياسيون التناحر الأخير بين أنصار تياري المالكية والاباضية في منطقة غرداية الجزائرية على أنّه فتنة سياسية بتوابل رئاسية. وقد شككوا في الرواية الرسمية، ورأوا أن الصراع على السلطة خرج من الصالونات المغلقة إلى الشارع.

الجزائر: يرفض وزير الداخلية الجزائري الطيب بلعيز توصيف الذي يحدث في منطقة غرداية على أنّه أزمة خطيرة، قائلًا: quot;هناك نوع من أعمال شغب ونوع من العنفquot;، مناقضًا الوزير الأول عبد المالك سلال، الذي قال إن ما حصل في غرداية من تدبير جهات خارجية محرّكة للفتنة الطائفية هناك. لم يؤيد بلعيز كلام سلال، واتكأ على انتفاء وجود أدلة قاطعة حول المسألة، متهمًا أيادي غير أجنبية بركوب موجة التصعيد.
وقلّل المسؤول الحكومي ذاته من حدة ما يقع في غرداية، حيث نفى صحة أنباء تحدثت عن تعفن الوضع في جنوب بلاده، مشيرًا إلى أن الوضع جرى التحكم فيه أمنيًا بعد الاستنجاد بتعزيزات ضخمة من باقي المناطق، بالتزامن مع إبراز أدوار الحكومة في الصلح بين المتخاصمين، وإلحاحه على أن الميثاق المبرم أخيرًا لم يفشل وسيُسهم في إعادة الأمور إلى طبيعتها.
وهذا الكلام أثار حفيظة الزعيمة اليسارية لويزة حنون، التي اعتبرت الوضع استثنائيًا ويقتضي تشكيل خلية أزمة على أعلى مستوى، منبّهة إلى تورط ما سمتها أطرافًا خارجية في معضلة غرداية. قالت: quot;تقوم منظمات وهيئات خارجية غير حكومية بتحريك أياد آثمة لتغذية الصراع الطائفي في المنطقةquot;. وطالبت الدوائر الرسمية بتحريات جدية لكشف هويات الملثمين الذين زرعوا الرعب في حرب الشوارع التي كانت غرداية مسرحًا لها قبل أيام.
مخطط التفكيك
بنظر حنون، ما يقع في غرداية هو نتاج استفزازات داخلية وخارجية، ويندرج ضمن مخطط غربي لإغراق الجزائر في دوامة فوضى دائمة، عبر استغلال فداحة الراهن الاجتماعي لتجسيد ما سمته quot;مخطط التفكيكquot;.
بدوره، طالب أحمد بطاطاش، السكرتير الأول لجبهة القوى الاشتراكية المعارضة، رئيس البرلمان الجزائري بتشكيل لجنة تحقيق نيابية. وقال: quot;التطور المؤسف للأحداث لا يجب أن لا يُقابل بأيدٍ مكتوفة أمام إنزلاقات خطيرة وفشل السلطات في توفير الحماية للأشخاص والممتلكاتquot;. وعلى المنوال ذاته، ردّد نواب القوى الاشتراكية أن الوقت حان لمعرفة الأسباب والعوامل المؤججة للوضع في المنطقة. من جهته، لفت عبد المجيد مناصرة، رئيس جبهة التغيير، أن تجدّد الاقتتال في غرداية كشف مرة أخرى عجز الحكومة في معالجة النزاعات. وأهاب مناصرة بالرئيس بوتفليقة التدخل لحقن الدماء، بعدما حاولت جهات مشبوهة الاستثمار في المياه العكرة، عبر دعوة حركة quot;الماكquot; الانفصالية كلا من باريس والهيئة الأممية للتدخل.
وقدّر أحمد الدان، الأمين العام لحركة البناء الوطني، أن ما يحدث في غرداية يعكس عبثًا وتلاعبًا ومهاترات، يهدّد أمن الجزائر واستقرارها، ويمسّ بمكوناتها السياسية والمذهبية. وحمّل الدان السلطة المركزية والجماعات المحلية مسؤولية إيقاف هذا النزيف الخطير، مثلما أهاب بعلماء المنطقة إصلاح ذات البين.
شجرة تغطي غابة
يركّز الإعلامي الجزائري البارز إبراهيم قارعلي على أن منطقة غرداية المعروفة بكونها عاصمة وادي ميزاب، ليست وحدها من تشهد مثل هذه الاضطرابات، فالجزائر تسجل في كل يوم عشرات الحركات الاحتجاجية.
ويعارض قارعلي القراءات السياسية والإعلامية التي ترى في ذلك صراعًا عرقيًا أو طائفيًا أو مذهبيًا، quot;فهي في الحقيقة تريد أن تقفز فوق الحقائق التاريخية والاجتماعية للشعب الجزائري الذي يتميز بالتنوع الثقافي مثل غيره من الأمم والشعوب في منطقة البحر الأبيض المتوسطquot;.
وإذ يرى قارعلي أن التوظيف السياسي لمطالب اجتماعية وحتى ثقافية وسياسية مشروعة هو الذي يؤدي بها إلى الانحراف، فإنّه ينفي صدقية وجود فتنة طائفية ما دام الجزائريون قد فصلوا في أمر الهوية منذ قرون، سواء تعلق الأمر بالدين أو بالعرق أو باللسان، ويشهد على ذلك التعايش الذي ساد الجزائر من آلاف السنين.
ويذهب قارعلي إلى أن طرح القضية من زاوية تغذية النعرات الجهوية أو العرقية أو المذهبية يعود إلى ضعف الدولة المركزية، مؤكدًا أن الأيادي الداخلية أخطر من الأيادي الخارجية.
ويرى قارعلي أن الصراع بين الزمر المتصارعة على السلطة خرج من الصالونات المغلقة إلى الشارع، quot;وهنا تكمن الخطورة، حيث جرى التعوّد في الجزائر على أن الخلافات السياسية الفوقية عندما لا تجد طريقها إلى الحل بالتوافق يزج بها في الشارع، وذلك ما حدث منذ أحداث تشرين الأول (أكتوبر) 1988 حينما تحول نظام الحكم من الأحادية إلى التعددية الحزبية. وينتهي النائب السابق عن حزب الغالبية إلى أن أحداث وادي ميزاب كشفت عُمق الوحدة الوطنية والأخوة الجزائرية، quot;وبالتالي فإن الأصوات الناشزة التي تريد أن تردد الأسطوانة المشروخة هي أصوات شاذة تريد مغالطة الرأي العام المحلي والدوليquot;.
حطب الصراع
بالنسبة للناشط جمال بن خلف الله، الحريق الذي يأكل الأخضر واليابس في غرداية هو مجرد مدفأة لأصحاب رؤوس الأموال من صقيع المفاوضات على خريطة مصالحهم، quot;فليست هذه المرة الأولى في الجزائر التي يستعمل فيها الشعب حطبًا لجحيم الصراع على السلطةquot;. وينبّه بن خلف الله إلى أن quot;لا تصدقوا أن المعركة مذهبية، كما لا تصدقوا أن مقابلة كرة قدم خلفت كل هذا الحريق اللعينquot;، وينتقد ما سماه quot;التعتيم الإعلامي المحكمquot; حول الصراع القائم وطبيعته، ما يجعل هناك مساحة لاستثمار هذه الأحداث التي لا يمكن أن تكون طائفية.
ويسجّل بن خلف الله أن الخلاف بين الإباضيين والمالكيين لا يرقى إلى منزلة اختلاف طائفي، quot;فهو لا يمس الجوانب العقائدية، بل مجرد خلاف في الفروع الفقهية وبعض الاجتهادات، ما يفرض توصيف الصراع بالعروشي، وهذا ما حدث ويحدث في المناطق التي لا تزال تحافظ على التنظيم العائلي لمصالحها وقوتها وانتشارهاquot;.
ويشير بن خلف الله إلى بروز نوايا بعض النشطاء لتضخيم الأحداث، وتصويرها على أساس انه أقلية يتم الاعتداء عليها من طرف أكثرية تساندها السلطة، إلى درجة أن الناشط كمال الدين فخار دعا إلى تدخل فرنسا وأميركا لفض النزاع، مع أنّ لا جزائري واحدا يملك الحس الوطني ينادي بحلول خارجية أو بالتدويل.
يضيف: quot;المشروع خفي، وجرى إخراجه استغلالا لحالة الصراع على مستوى السلطة في ما يخص مرشح النظام أو الكتلة المؤثرة داخله، واقتراب موعد الاقتراع الرئاسي، في وقت اكتفت الحكومة بتحليل الوضع بدل إعطاء الحلول ومحاسبة كل مسؤول على إراقة الدماء، ما يعني بنظر بن خلف الله أن هناك اهتزازات قوية داخل النظام مرتبطة عضويًا بمسألة الرئاسيات القادمة، ما يزيد من افتراض أن الأحداث تصب في خانة الاستغلال السياسي من أطراف تعرف متى تضغط ومتى تتراجعquot;.