مشهد الاحتفالات بأعياد الميلاد المجيد،احياء ذكرى ميلاد السيد المسيح، رسول المحبة والسلام.صحيح أن الاحتفالات بأعياد المسيحيين ليست بجديدة أو غريبة على حياة السوريين، لكن احتفالات الميلاد هذا العام كانت متميزة، على المستوى الرسمي والشعبي، وبالمشاركة اللافتة من مختلف الطيف السوري. مشهد الاحتفالات هذا العام، بث مشاعر الارتياح والطمأنينة في المجتمع السوري، وبشكل خاص لدى أتباع الديانة المسيحية.

وعزز قيم التسامح الديني الذي تعيشه سوريا وتميزت به،ماضياً وحاضراً،عن كثير من دول المنطقة.واذا ما حافظت هذه الاحتفالات على الصورة الوطنية التي ظهرت فيها مع مزيد من الاهتمام والرعاية الحكومية والتغطية الاعلامية لها في مختلف المحافظات والمناطق السورية،أستطيع القول،أنها ستعيد،شيئاً فشيئاً، الاعتبار والمكانة الوطنية المفقودة للوجود المسيحي في سوريا،فضلاً عن أن استمرار هذه الاحتفالات ستحصن المجتمع السوري وتحميه من مخاطر الاصولية الاسلامية ومشاريعها الظلامية. ولنا الأمل بأن يكون هذا الاهتمام اللافت، من قبل الحكومة السورية في العهد الجديد بأعياد الميلاد، مقدمة لإخراج المسيحيين السوريين من دائرة التهميش السياسي ولتعزيز دورهم ومشاركتهم في بناء سوريا وتقرير مستقبلها والارتقاء بهم وبحقوقهم الى مرتبة المواطنة من الدرجة الأولى.

تزداد أهمية تعميم ظاهرة الاحتفالات الشعبية والرسمية بأعياد المسيحيين في سوريا وتكريس بعدها الوطني والانساني في هذه المرحلة،حيث تخيم على المنطقة أجواء التعصب الديني والاحتقان الطائفي والمذهبي،فضلاً عن استهداف المسيحيين من قبل التنظيمات الاسلامية المتشددة والمتطرفة،والتضييق على حرياتهم الدينية بطرق وأساليب مختلفة.فقد أصدرت بعضquot; المشايخ والمرجعيات الاسلاميةquot;،أصحاب المدارس الظلامية والتكفيرية، في العديد من الدول العربية والاسلامية،أصدرت فتاوى تقضي بتحريم احتفال المسلمين بأعياد المسيحيين وعدم جواز تهنئتهم بأعيادهم.لذلك نقول،حسنناً فعلت سوريا هذا العام.فقد شكلت الاحتفالات بأعياد الميلاد رداً مناسباً وقوياً على أصحاب هذه quot;الفتاوى التكفيريةquot;التي توفر بيئة ثقافية وتربة اجتماعية خصبة ومناسبة لنمو بذور التعصب الديني ولنشر ثقافة الحقد والكراهية الدينية بين شعوب المنطقة والعالم.

ان الطريقة التي احتفل بها السوريون بأعياد الميلاد،أعطوا لشعوب المنطقة نموذجاً حضارياً يحتذى به في التسامح الديني والوئام الاجتماعي والتعايش الوطني.وأثبت هذه الاحتفالات على أن ظاهرة التنوع،الديني والقومي والثقافي، التي يتصف به المجتمع السوري، هي غنى حضاري ووطني لسوريا،اذا ما أحسن التعاطي والتعامل معها.من هذا المنظور،أرى ضرورة أن يشمل الاهتمام الحكومي أيضاً بالاعياد والاحتفالات القومية والمناسبات الخاصة لمختلف القوميات في سوريا،مثل احتفالات الأكراد بأعياد quot;نوروزquot; واحتفالات الآشوريين بأعياد quot;أكيتوquot;،وتصنيفها ضمن الأعياد الوطنية لسوريا. وهنا اعتقد بأن ايجابيات ومفاعيل التسامح القومي والاحتفال الرسمي بهذه الأعياد القومية على التماسك المجتمعي وعلى اللحمة الوطنية السورية،لا تقل أهمية عن مفاعيل التسامح الديني والاحتفال بالأعياد الدينية،ان لم تزيد عنها أضعافاً.

بموازاة هذا المشهد الاحتفالي الوطني الذي يبعث على التفاؤل والأمل بمستقبل سوري أفضل،ثمة مشهد quot;مأساويquot; بكل معنى الكلمة. مشهد مثير للتشاؤم واليأس والحزن الوطني، لجهة الحريات السياسية والفكرية والوضع المزري لحقوق الانسان السوري عموماً،وحقوق القوميات الغير عربية،من آشوريين وأكراد خصوصاً.مشهد أنتجه وصنعه quot;النظام الشموليquot;،الذي جاء به حزب البعث الى السلطة، الرافض لـquot;الديمقراطيةquot;، بما هي حرية التطور والممارسة التاريخية للشعب ليصنع حاضره ومستقبله.نظام حول الدولة السورية من دولة مدنية لتنظيم وادارة العلاقة بينquot;المجتمع المدنيquot; وquot;المجتمع السياسيquot; الى quot;دولة أمنيةquot;لعزل الشعب عن الحياة السياسة وابتلاع quot;المجتمع المدنيquot;،وذلك بطرق ووسائل مختلفة وممنهجة.منها استمرار فرض quot;حالة الطوارئquot;على البلاد، وتشديد الخناق على المطالبين بالديمقراطية والحريات السياسية وعلى نشطاء المجتمع المدني والحراك الديمقراطي.وزج،بكل من يتجرأ في الدفاع عن حقوق الشعب السوري في الحرية والديمقراطية،في السجون لسنوات طويلة.

في مشهد جديد وحلقة جديدة في مسلسل سوري طويل لانتهاكات حقوق الانسان،قامت مؤخراً نقابة المحامين بشطب المحامي quot;مهند الحسينيquot;،رئيس المنظمة السورية لحقوق الانسان، من فرع نقابة محامي دمشق في الرابع من آب الماضي، أي بعد أيام من اعتقاله على خلفية نشاطه الحقوقي في الحقل العام وحضوره جلسات محكمة أمن الدولة العليا لمعتقلين سياسيين.هذا الاجراء التعسفي الغير مسبوق في تاريخ النقابة، يتنافى مع أبسط حقوق الانسان التي يكفلها الدستور السوري، فضلاً عن أنه يتنافى مع مهمة ووظيفة نقابة المحامين التي من المفترض أن تشكل حصناً قانونياً يلجأ اليه المحامون، وأن تكون في مقدمة المدافعين عن حقوق أعضاءها وحريتهم بممارسة نشاطهم الحقوقي.وفق العديد من المصادر، وجه نقيب المحامين الفرنسيين quot;كريستيان شاريير بورنازيquot; رسالة شديدة اللهجة إلى نظيره السوري quot;وليد التشquot; احتجاجاً على موقف نقابته من قضية الحسيني، جاء فيها: quot;ان شطب المحامي مهند الحسني من فرع نقابة محامي دمشق من قبل مجلس نقابتكم يعد عملاً شائناً أحرص على الاحتجاج عليه باسم نقابة محامي باريسquot;.

ثمة مشهد سوري آخر، لكن من خارج حدود وسلطة الدولة السورية. مشهد تكريم المحامي السوري المعتقل quot;أنور البنيquot;، من قبل شخصيات ومنظمات ومؤسسات دولية عديدة، وذلك تقديراً لعمله الاستثنائي ولتضحياته من أجل الدفاع عن حقوق الانسان السوري على مدى سنوات طويلة،حيث برز أنور كأحد أشجع المدافعين عن حقوق المستضعفين في سوريا.فصدى إدانته لاستخدام التعذيب في السجون السورية وصدى تصريحاته الجريئة،عقب كل جلسة محاكمة صورية لمعتقلي الرأي والضمير ونشطاء الحراك الديمقراطي وعقب كل انتهاك جديد لحقوق الانسان، كان يخترق الجدار الأمني والصمت المخيف اللذان يحيطان بالواقع المزري لأوضاع حقوق الانسان في سوريا، لجهة الحريات السياسية والديمقراطية.ورغم عدم التزامه بأي من الأحزاب السياسية السورية المعارضة، وضع quot;البنيquot;على عاتقه الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية للشعب السوري ورفع الغبن القومي عن أبناء القوميات الغير عربية في سوريا.في هذا الاطار، بادر الى تأسيس quot;المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونيةquot;.

وأنشأ quot;مركزاً لحقوق الإنسانquot; في دمشق، بمساعدة من الاتحاد الأوروبي من أجل دعم عمل المدافعين عن حقوق الإنسان، أغلقته السلطات بعد أسبوع واحد.وترأس quot;لجنة تحرير السجناء السياسيينquot;.كان عضو فعال فيquot; جمعية حقوق الإنسان السوريةquot; الى جانب المحامي المخضرم quot;هيثم المالحquot;،المعتقل هو الآخر منذ أشهر على خلفية نشاطه الحقوقي المتعلق بالدفاع عن حقوق الانسان والحريات في سوريا. تميز أنور بكل شيء. بحبه لوطنه وبإيمانه وبنظرته للحياة. بشجاعته و بصلابة ارادته وقوة معنوياته.تميز بعلمانيته وليبراليته وديمقراطيته.أنه يرفض التعاطي مع قضية quot;حقوق المواطنةquot; على قاعدة الأغلبية والأقلية.فـquot;المواطنةquot;هي القيمة العليا والمقدسة لديه.

لا بل أن انتماءه المسيحي عزز لديه الروح الوطنية والنزعة الانسانية أكثر فأكثر.فهو نذر حياته للدفاع عن جميع المظلومين والمستضعفين السوريين،بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية وخلفياتهم السياسية. ليس من المبالغة القول،أن المحامي quot;أنور البنيquot; ارتقى بنضاله وتضحياته وتطوعه في الدفاع عن حقوق الانسان السوري الى درجة quot;نكران الذاتquot;.هذا ليس بغريب على ابن عائلة سورية أصيلة تميزت بوطنيتها وبالنضال السياسي لأبنائها وتضحياتهم لأجل حقوق الشعب السوري في الحرية والديمقراطية.فقد أمضى أبناء هذه العائلة(يوسف وأنور وأكرم وابراهيم وسحر) حتى الآن ما مجموعه أكثر من نصف قرن في سجون السلطة. تجدر الاشارة هنا الى أن شقيقه quot;أكرم البنيquot;،الكاتب المتميز والناشط الفاعل في لجان احياء المجتمع المدني، هو الآخر معتقل حالياً من ضمن معتقلي اعلان دمشق. لهذا استحق أنور واستحقت عائلة البني، احترام وتقدير وتعاطف الكثير من الشخصيات السياسية والمنظمات الاقليمية والدولية.من أهم الجوائز التقديرية الدولية التي منحت للمحامي أنور البني، جائزة (فرونت لاين (quot;الخط الأماميquot;لعام 2008، التي تمنح سنوياً لمدافعين عن حقوق الإنسان الذين يعرضون حياتهم الى الخطر في سبيله.منحتها له quot;ماري ماكاليزquot;، رئيسة ايرلندا، في دبلن.وقد تسلمت الجائزة عنه زوجته السيدة راغدة العيسى.

في كلمتها وصفت الرئيسة،ماكاليز، أنور بالقول: quot;قلة، أمثال أنور، تنكر ذاتها في مواقف بطولية، و ترفض القبول بخنق الحريات، و إسكات الأصوات التي تحتج على الانتهاكات و تدافع عن حقوق الإنسان. إن لمثل هؤلاء الأفراد قوةً معنوية استثنائية تجعل حياتهم في خطر..quot;. وقبل أسابيع منح أنور جائزة quot;اتحاد القضاة الألمان لحقوق الإنسانquot;،منحها له اتحاد القضاة الألمان في احتفال كبير خاص أقيم في العاصمة الألمانية برلين. وبهذه المناسبة، أعربت وزيرة العدل الألمانية quot;سابينا لويتهويزرquot; عن تضامنها الكامل مع المحامي السوري المعتقل أنور البني.كما استقبل رئيس الدولة الألمانية quot;هورست كولرquot; في قصر الرئاسة،quot;كمال البنيquot;،الذي تسلم الجائزة عن شقيقه، ليؤكد له تضامنه مع المحامي أنور وتعاطفه مع القضايا التي يدافع عنها والتي اعتقل بسببها.

أما الكاتب البارز quot;ميشيل كيلوquot;،رئيس quot;مركز حرياتquot; في سوريا،الذي اعتقل مع أنور وآخرين في أيار 2006 وحكم ثلاث سنوات وخرج قبل أشهر من سجنه، في كلمة له أرسلها لحفل التكريم قال عن أنور:quot;كان أنور واحدا من أعلى الأصوات ومن أصلب المناضلين بحيث أصبح اسما على شفاه جميع السوريين... أنه عمل كمحامي لنصرة الضعفاء والمظلومين والدفاع عن الذين لا يجرأ أحد على الدفاع عنهم، وكان معظم عمله دون مقابل... إذا كانت السلطة غيَّبته في السجون فلن تستطيع تغييبه عن وعي الناسquot;.

أن يحظى المحامي السوري المعتقل quot; أنور البنيquot; بكل هذا الاهتمام والتقدير الدوليين في الوقت الذي يذل ويهان ويعامل في بلده معاملة مجرم خطير على وطن أحبه،مشهد يستحق التوقف عنده كثيراً و التأمل فيه بعمق.

مبروك لـquot;أنور البنيquot; أوسمة الشرف التي نالها واستحقها بجدارة وهو في معتقله.مبروك لأسرته وزوجته العظيمةquot;راغدة العيسىquot; التي تقف خلف هذا الرجل العظيم،وتحملت ومازالت تتحمل معه الأعباء المادية والضغوط النفسية لنضاله واعتقاله.وقد تم طردها من عملها بوزارة الاتصالات بعد اعتقال أنور لزيادة الضغوط عليها ومحاربتها بلقمة عيشها.مبروك لعائلة البني، لهذه المدرسة الوطنية، التي أعطت نموذجاً يحتذى به في الأخلاق الوطنية وفي حب الوطن.

بمناسبة أعياد الميلاد المجيد،أطيب التحيات الوطنية الى أنور البني في معتقله والى زوجته وأسرته والى عائلة البني الكريمة.

ميلاد مجيد وعام سعيد لجميع معتقلي الرأي والضمير والكلمة الحرة في سجون السلطة والى أسرهم وعائلاتهم التي حرمت من بهجة العيد.

ميلاد مجيد وباقة حب الى أطفال المعتقلين الذين خطف الاستبداد بسمة العيد من شفاههم وهم بانتظار فرحة الاحتفال بعودة أبائهم.

ميلاد مجيد وتحية الى كل من يناضل من أجل سوريا بلا سجون وبدون معتقلات وخالية من الفقراء والمقهورين.

سوريا

مهتم بقضايا الأقليات

[email protected]