نقرأ بين حين وآخر تعليقات على ما ينشرُ في ايلاف، بعضها ذو مغزى موضوعي سليم ينمّ عن ذائقة متفتحة وفكر رصين..ونقرأ أيضاً غثاءً شوكيّاً جارحاً خارج اُطر الحوار المتمدن، ينمّ عن غرض دفين، لا يزالُ راسباً في دم صاحبه من أزمنة الأحقاد الماضية. وأغلبُ منْ يرمي الكاتبين بكمّ جارح من التُهمات هم مثقفون عراقيون بكلّ أسف. يستغلون هذه النافذة الفسيحة المطلة على فضاء المحبة والتوادد. يرمون عبرها بقايا ضغائن صدئة تجاوزها الزمنُ والإنفتاحُ المتحضر الذي تعتمده المواقع الإلكترونية . ولا سيما quot; ايلافquot; .
بدءاً اُعلن عن مسرتي لعود الكاتب والشاعر عبد الرحمن طهمازي الى الواجهة، بعد احتجاب طويل واحجام عن النشر. لكنّه لم يكن منطوياّ على ذاته بعيداً عن المتابعة والمثابرة والإبداع. وكتاباته في ايلاف ستغني رصيد الصفحة الثقافية. أنا لا اعرفه شخصياً لكني التقيته مصادفة في منتصف السبيعينيات من القرن الماضي في مكتبة المثنى في البصرة قبل أنْ تُغلق وتتحوّل الى دكان لبيع الأحذية. كان برفقة محمد جبار المعيبد على ما أظنّ، سلمتُ عليهما، ولم اُرد قطع حديثهما، وغادرتهما.وما كانت لي علاقة صداقة معه مثل محمود عبد الوهاب والبريكان والصكار ومحمد خضير، وعبد الكريم كاصد.كانت مكتبة المثنى معلماً ثقافيّا يلتقي فيها مثقفو البصرة: اساتذة ُالجامعة وقصاصون وشعراء وفنانون تشكيليون ومسرحيون وموسيقيون، والبصرة أيامئذٍ حاضنة الإبداع. علاء بشير كان طبيباً فيها، معروفاً على صعيدي الطب والفن التشكيلي، أقام أكثر من معرض فيها، أظنّ أنّ علاقة طهمازي بدأت به من هناك، واستمرّت. فهو عليم ومطلّعٌ على مسيرته الفنيّة. اذاً بشيرُ ليس هاوياً على درجة متواضعة في شأن السوريالية وتقنيات الرسم ، كما يزعمُ احدُ المعلقين. ولمَ يجامل هذا الفنان لسبب لا يفهمه؟ وفي صعيد الثقافة ثمة َ مبدعون متميّزون فناً وخلقاً، يتحلقون في علياء الفضائل. وطهمازي أحدُ هؤلاء، أنا اُتابعُ بشغف ما يكتبه ، وما كتبه هنا وهناك. ويُعدُ كتابه عن البريكان مصدراً مهماً لدراسة هذا الشاعر. وحين كتب عن علاء بشير كان أميناً وجريئاً وصادقاً وحداثياً، فليس غريباً أنْ يكتب أديب في الفن التشكيلي، وكلّ شاعر وكاتب هو فنان تشكيلي يرسُم بالكلمة، فثمة قواسمُ مشتركة بين مُحترِفَي الكلمة واللون، وإذْ يُرى الى القصة والقصيدة فكلتاهما لوحة تنطوي على ثيمات ومفردات وتفاصيل اللوحة التشكيلية. نعم كان علاء بشير جراحاً بارعاً استقدمه صدام حسين في مبتدأ التسعينيات ليكون ضمن طاقمه الطبي، وما يُقالُ عن مساهمته في اطالة نظام الدكتاتور محض ُهرطقة وجهل. كلّ العراقيين خدموا نظام صدام من أصغر موظف في الدولة حتى الوزير. ألم يكنِ المدرّسون واساتذة الجامعة والجيش بكلّ مراتبه وموظفو الدولة في خدمة النظام؟؟ وكان المدرسون والمعلمون يدرّسون مناهج البعث. اذاً ،كان العراقيون جميعاً في خدمة النظام السابق. فهل العاملون الآن في زمن الإحتلال هم عملاء للأمريكان؟ وهل جميعُ الجالسين تحت سقف البرلمان الذي تحميه قواتٌ امريكية عملاء؟؟ الأنظمةُ تأتي وتذهب، ويبقى الموظف في أيّ موقع كان يخدم وطنه وشعبه. لم يكن بوسع علاء بشير أن يرفض طلب صدام للإنضمام الى كادره الطبّي الخاص. كما أنه لم يكن هاوياً، ولو كان كذلك لما كتب عنه طهمازي ، الذي يفكر إبان الكتابة ويتريثُ فلا يُخاطر بسمعته جرياً وراء النشر. ربّما كان اعتراض المعلق أنّ علاء ليس سوى طبيب، ولمَ لايكون الطبيبُ تشكيلياً، وقد كان الراحل الدكتور قتيبة الشيخ نوري طبيباً، ويوسف ادريس وعبد السلام العجيلي طبيبين وكلاهما ابدعا في القصة والرواية، وآخرون كثرٌ لا تسعفني الذاكرة الآنَ على تذكرهم. ومن المؤسف أنْ يقرأ مثقفو العالم العربي هذه التعليقات الجارحة التي تنمّ عن الضحالة وضيق الاُفق، ولمَ التسترُ تحت اسماء والقاب كاريكاتيرية مضحكة ومثيرة للشجن؟ وإنْ قيل شيءٌ ينبغي أن يكون مفيداً يُغني تلك الكتابة ويقوّمها ولا يبخسُ حقها. والكتابةُ في أيّ موضوع شأنٌ شخصي ، فلا يُمكن أنْ يكتبَ الناس وفقَ ما ترضاه أنت، ووفقَ معاييرك وثوابتك، نحنُ نختلفُ اذاً اننا على صواب. لقد خُلقنا هكذا ، وينبغي لنا أنْ نتفهّم ونعي ونتقبل هذا التنوع والإختلاف المتناغم الذي يسود ساحة الفكر. أنا على يقين أنّ منْ يكتبُ هذه التعليقات هم مثقفو الخارج ممّن يعيشون في أصقاع الغربة، وفي دول متقدمة ذات أعراف ونظم ديمقراطية، وقد أمضوا أكثر من عقدين في تلك البلدان لكنهم لمّا يزالوا يعيشون بعقلية عشائرية وحزبية أشدّ سلفية من السلف. ففيهم بقايا جمود وتخلف وتحجر، نعم أخطأ نظام صدام ، وأساء لكلّ العراقيين، فمنْ لم يصبه الضرر، فلمَ نذكر فقط ضحايا السياسة ولا نذكر مئات الاُلوف من ضحايا الحروب ، قتلى ويتامى وأيامى ومعاقين ومفقودين. ولا أرى سبباً الآن بعد زوال الكابوس ليرجمَ بعضُنا البعض الآخر. كيف سيكون ملمحُ عراق الغد الذي نتطلع اليه ومثقفونا من هذه الشرائح التي تحمل سكاكين الوغر ويوجهونها الى هذا وذاك، لأنه يختلف معهم في الموقف والفكر والرأي؟؟ منْ منا كان بلا خطيئة؟ مِنْ أكبر الأحزاب حتى أصغر فردٍ في المجتمع. آمُل أنْ ننسى الماضي، وتتصافح القلوب ، ومنْ أخطأ فلنسامِحْه، ومنْ بقي داخل العراق في ظلّ النظام الدكتاتوري هو أنبلُ وأكرم وأشجع منا جميعاً. نحنُ صادفتنا ظروفٌ وضعتنا خارج الوطن، ومنْ بقي فيه عانى ما عانى من تبعات النظام البائد. ولا يُمكن نعته بالخائن . يجبُ أنْ نُلغي من معجماتنا رشقَ الآخرين بالسوء والتجريح. علينا أن نحترم الكتّاب وانْ اختلفوا معنا، وليكتبوا في أيّ موضوع يشاؤون، وليزهرْ في ساحات الحياة ألفُ زهرة وزهرة، هي جميعاً تلوّن واجهة الوطن ، ولنحترمْ هذه النافذة التي أتاحتها لنا ايلافُ لئلا تنفذ من خلالها رياحُ السموم والغبار الخانق ، دعوها مسرباً للضوء والهواء الأنقى. ومعذرة ،لقد توخيتُ الإشارة الى ظاهرة تتقاطع مع معطيات الزمن الجديد وغدنا المُرتجى الذي لم يزلْ طيّ الغيوب:
كلانا حُطام / كلانا بضعة ٌ من عظام / كلانا تهزّ بنا الريحُ / تهزأ بقامتينا / ونحنُ بلا ظلّ / غريبينِ / هنا وهناك /الى أين تُفضي بهيكلينا الدروبُ؟ / أمسنا غارقٌ في الظلام / غدُنا عاتمٌ / يمضغُ سرّه طيّ الغيوب / ونحنُ، اليتامى، أبناؤه / تلقفنا التيهُ / فيا رفيقَ الطريق / أتعلمُ أنّ الحياةَ ضبَب / وما بين الولادة والموت صفرٌ هباب / لماذا، إذاً ، نتراشقُ بالوغر؟ /...
التعليقات