ما زلت، منذ قرار المحكمة الدستورية في تركيا بحظر حزب المجتمع الديمقراطي الكردي، أفكر مليا ً بخطوة البرلمانيين الكرد التي تمثلت في البقاء في البرلمان، و ليس الإستقالة، مع إن خطوة من هذا القبيل كان من شأنه، أن تبعثر الأوراق، على طاولة الساسة الأتراك، و تضعهم في موقف حرج للغاية.

ما زلت أفكر في جدوى بقاء هؤلاء النواب في البرلمان التركي، إثر حظر حزب المجتمع الديمقراطي، سيما و أنها أتت في مرحلة أخيرة، إتسمت بإنتكاس الإنفتاح الديمقراطي، إن لم نقل فشله.

حسب القانون التركي، إذا قدم خمسة بالمائة من أعضاء البرلمان إستقالاتهم، فإن الأمر يستدعي، إما إجراء إنتخابات جزئية في المناطق التي إنتخب فيها النواب المستقيلون، أو أن تجرى إنتخابات عامة، في مدة ثلاث أشهر على أقصى حد. و حسب كل المعطيات المتوفرة، كان من الممكن أن تكون الإنتخابات، الجزئية أو العامة، في مصلحة الكرد. صحيح أن الكرد في إنتخابات فرعية لن يتمكنوا إلا من إعادة نفس عدد النواب الى البرلمان، إلا إنها كانت فرصة، لو تمت، للحزب الجديد، حزب السلام و الديمقراطية، لتأكيد و تجسيد حضوره في المرحلة القادمة. القذف من نوافذ البرلمان من جانب الدولة بحق ممثلي الشعب الكردي، كان سيقابله إستعادة شرعية الدخول من الأبواب، و من خلال أصوات المواطنين الكرد. كان من الممكن أن تكون فرصة، لتصعيد و تعزيز الحراك الديمقراطي الكردي، و مناسبة لفضح سياسات الدولة، و مناورات الحكومة. و نظرا ً لأن النواب ينحدرون من المناطق الكردية في شمالي كردستان، فإنها كانت من الممكن، و من المؤكد أن تصبح إنتخابات كردستان، و ليست مجرد إنتخابات فرعية.

و لكن، مع ذلك، كان من الممكن أن تكون حتى إنتخابات عامة مبكرة، في مصلحة الكرد. فالكرد، اليوم، أقرب من أي وقت، الى نسبة عشرة بالمائة، التي حدده القانون التركي، لتمثيل حزب في البرلمان التركي، و تشكيل كتلة برلمانية حزبية. الوصول الى نسبة 10 %، أو تجاوزه، يعني تمكين ما يقارب 100 نائب كردي من الوصول الى البرلمان، و هي قوة سياسية هائلة، بحاجة لها الشعب الكردي في البرلمان التركي، اكثر من حاجته الى خدمات 21 نائبا ً برلمانيا ً، دخلوا الى البرلمان بصفتهم مستقلين.

إذا كانت الإنتخابات في كلتا الحالتين في خدمة مصالح الشعب الكردي، و قضاياه العادلة، فلماذا، قرر النواب الكرد البقاء في البرلمان، علما ً أنهم في أول رد فعل على قرار المحكمة، أعلنوا إنسحابهم، و إحتمال تقديم إستقالاتهم؟! الإعتقاد بأن حزب العدالة و التنمية ليس وراء قرار حظر حزب المجتمع الديمقراطي، و ليس من مصلحته إجراء أي إنتخابات في الوقت الراهن، فضلا ً عن إحتمال وجود مؤامرة خبيثة، خططت لها دوائر متعددة في الدولة، لتصفية حركة التحرر الكردستانية، و تسويق المخطط على أن مصدره الحكومة، ومحاولة ربط حظر الحزب، مع محاولة إغتيال مستشار أردوغان أرينج، المعروف بموقفه المرن و المتفهم من حل القضية الكردية في تركيا، ربما تكون معطيات واقعية، دفعت الى مطالبة النواب الكرد للبقاء في البرلمان. و السؤال : هل الخشية و الخوف من خسارة العدالة و التنمية في إنتخابات عامة، كان الناقوس الذي دق من أجل عودة النواب؟. الإنتخابات البلدية الأخيرة أظهرت تراجعا ً لحزب الحكومة، ليس فقط في العديد من المناطق الكردية فحسب، و إنما في بعض المدن الرئيسية في تركيا أيضا ً. لعل الخوف من عودة المعارضة التركية، المناهضة لكل الحلول السلمية للقضية الكردية في تركيا، الى الحكم، هو ما دفع النواب الى العودة الى البرلمان. الحكومة الحالية، و في ظل برنامجها للتقرب من حل المسألة الكردية، و رغم خطواتها السلحفاتية، إلا إنها تؤمن قدر من النقاش العام في أوساط الرأي العام، و هو ربما ما يجد فيه، أوجلان، فرصة لا يجب إضاعتها في الوقت الراهن.

و مع ذلك، هنالك، من يعتقد من جهة أخرى، و لا سيما بعد أن أضحت القضية الكردية في تركيا، تشغل حيزا ً مهما ً، في إهتمام الراي العام التركي، و دعما ً غير مسبوقا ً في إتجاه الحل، على الصعيد الدولي، أنه كان من الضروري الدفع في إتجاه إجراء إنتخابات عامة مبكرة، من أجل تمييل الموازين في البرلمان الى صالح القضية الكردية، من خلال تمكين أكبر عدد من النواب الكرد من الوصول الى قبة البرلمان التركي. و حسب هؤلاء، و من بينهم صاحب الأسطر هنا، فإن المعارضة التركية، المتمثلة في الحزب الجمهوري، و حزب الحركة القومية، لا يمكنها إستلام الحكم في تركيا، من حزب العدالة و التنمية، بالرغم من إحتمال تسجيل نتائج افضل، من نتائج الإنتخابات البرلمانية السابقة، و بالتالي ربما يضطر أردوغان لتشكيل إئتلاف حكومي، بعد أن يفقد أغلبيته البرلمانية، و يكون أمام خيارين : إما إئتلاف حكومي يكون الطرف الأخر في معادلته، الجانب الكردي، أو إئتلاف يضم المعارضة.

لذلك، لا أخفي شكوكي، من قيام أردوغان و حكومته، من خداع الساسة الكرد، في هذه المرحلة، و تحذيرهم، من مغبة دفع الأمور في إتجاه إنتخابات مبكرة، بذريعة أنها ستشكل، نهاية مشروع الحكومة للإنفتاح على الكرد، و مطالبهم الديمقراطية. أعتقد أن خلط الأوراق في بعض الأحيان، تنعكس إيجابا ً لا سلبا ً. و من هذا المنطلق، ربما، كانت إستقالة النواب الكرد، و رفضهم العودة الى البرلمان، في صالح القضية الكردية في تركيا، و ليس العكس.