تتفرع من الكبرى بعض العناوين التي تُسّير النظم والمعتقدات التي مرت بها البشرية منذ أن وجد الإنسان الأول وإلى يومنا هذا، وهذه التفرعات الصغرى منها ما يرتبط بجذور عامة تظهر في مختلف الإتجاهات التي يؤمن بها الإنسان المجرد عن العلائق الروحية المستمدة من الشرائع السماوية، ومنها ما يرتبط بنفس الإتجاه إلا أن أتباعه أوهموا أنفسهم بامتلاكهم بعض العلائق المفقودة لدى الصنف الأول، وبهذا يكون هؤلاء قد فقدوا المنهجية مما أدى إلى إبطال أسبابهم التي تمسكوا بها وإن كانت تحت عنوان الشرعية الإلهية.
ولهذه الأسباب ظهرت المدارس المختلفة التي نسبت إلى الله تعالى بعض ما في نفوس أصحابها من معتقدات باطلة لا تمت للحقيقة بأي شكل من الأشكال، وأخطر هذه الإتجاهات يتمثل في المدرسة الجبرية التي تنسب أفعال البشرية إلى الله تعالى، سواء كانت تلك الأفعال ترسم الإتجاه الباطل الذي هو من صنيع الإنسان نفسه، أو المجازاة الناتجة عن الفعل الحاصل من العمل الذي قام به.
وعند التسليم بهذا النهج تكون الحياة أشبه بالسجن الكبير الذي لا يقوى أصحابه على فرض ما في نفوسهم وبهذا تكون إرادتهم تابعة للسجان الذي يتولى أمرهم في إرسال ما يلزمهم الأخذ به، وهذا المثال أجدى من وصف البشرية بأحجار المارد التي ليس لها قرار إلا اتباع من يحركها حين يريد نقلها من مكان إلى آخر.
من هنا يظهر أن الإنسان مخير في أعماله التي يقوم بها وإن كان يسير ضمن اللوازم التي ركبها فيه الحق (جل شأنه) وهذا ما يؤكده القرآن الكريم في متفرقات آياته، حيث نجد أن العقوبة المفروضة على الإنسان لابد أن تكون وسائلها نابعة من النهج الذي يسير عليه حتى تصبح المجازاة تابعة لنوع الفعل الذي قام به، وما يثبت صحة هذا الطرح هو إتفاق أصحاب الحل والعقد على مدح أصحاب الأفعال الحسنة وذم الصنف الآخر.
وبناءً على هذا سنت القوانين الوضعية التي تلزم الجناة بالعقوبة التي يستحقونها، فيما يثاب من يأتي بالأفعال الحسنة، وهذا ما يوافق نهج الله تعالى كما هو ظاهر في قوله: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره***ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة 7-8.
وبهذا تكون النتائج مرتبة على الأفعال كما في قوله تعالى: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة 26. وقوله: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف 5. وكذلك قوله: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) التوبة 127. وغير ذلك من الآيات التي تؤكد هذا النهج القويم.
وبناءً على ما مر يكون الوعيد المرتقب في قوله تعالى: (عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً) الإسراء 8. يأخذ هذا الإتجاه المقرر في الآيات آنفة الذكر، وفي الآية مجموعة من المباحث أعرض لها:
المبحث الأول: ذهب جماعة من المفسرين إلى أن (عسى) على بابها وهي أقرب للترجي، فيما ذهب آخرون إلى وجوبها إذا كانت من عند الله تعالى، كما ورد ذلك عن ابن عباس من أن كل عسى في القرآن واجبة، وهذا هو الأقرب لأنها من الإنسان تبنى على التردد وتبنى على القطع إذا كانت من عند الله تعالى، فهي شك وظن وعلم ويقين باختلاف الموارد، ونسبها البعض للترجي في طلب المحبوب دون دفع المكروه، إلا أن القرآن الكريم استعملها في الموضعين مما يبطل هذا الإدعاء، وذلك في قوله: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة 216.
المبحث الثاني: قوله تعالى: (وإن عدتم عدنا) فيه إشارة إلى العقوبة الدنيوية التي ذيلها بعقوبة الآخرة في قوله: (وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً) وهذا يدل على أن عقوبة الدنيا لا تجزي عن عقوبة الآخرة، وبهذا يكون المعنى: إن عدتم للمعصية عدنا للعقوبة، وما يؤكد أن الآية ناظرة إلى عذاب الدنيا قوله تعالى: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) الأعراف 167. وقوله تعالى في آخر آية البحث (وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً) أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم، وبهذا يكون فعيل على بابه، ويمكن أن يكون فعيل بمعنى مفعول، أي جعلناها مكاناً محصوراً وهذا أقرب لما قدمنا قياساً إلى عذاب الدنيا الذي لا يقع على جميع من يحل بهم أو ربما تتفاوت فيه درجات التعذيب حسب الزمان والمكان أو الحالات التي تطرأ على نوع العذاب المعد لأصحابه، لذا عقب تعالى بجعل جهنم حصيراً لهم حتى تكون المقابلة أبلغ في البيان.
المبحث الثالث: قال ابن عطية في المحرر الوجيز: الحصير: فعيل من الحصر فهو بمعنى السجن أي يحصرهم، وبنحو هذا فسر مجاهد، وقتادة، وغيرهما، ويقال الحصير: أيضاً من الحصر للملك ومنه قول لبيد:
ومقامه غلب الرقاب كأنهم......جن لدى باب الحصير قيام
ومنه قول الطرماح:
قليلاً تتلى حاجة ثم عوليت......على كل معروش الحصيرين بادن
وقال الحسن البصري: أراد به ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عند الناس، وقال القاضي: إنه مأخوذ من الحصر.
المبحث الرابع: يقول الطوسي في التبيان: (عسى ربكم أن يرحمكم) إن أقمتم على طاعته وترك معاصيه و(عسى) من الله واجبة ويجوز أن تكون بمعنى الإبهام على المخاطب، وقوله (وإن عدتم) يعني في معاصي الله والكفر به وجحد أنبيائه (عدنا) في عذابكم والتسليط عليكم، ثم ذكر قول لبيد الذي نقلناه آنفاً عن طريق ابن عطية، وأضاف أن الحصير هو البساط المرمول، يحصر بعضه على بعض بذلك الضرب من النسج ويقال للجنبين: الحصيران، لحصرهما ما أحاطا به من الجوف، ويسمى البساط الصغير حصيراً، وحصير بمعنى محصور، كرضي بمعنى مرضي. انتهى.
فإن قيل: ذكرت في معرض حديثك، بأن القوانين الوضعية تلزم الجناة وهذا يدل على مطابقتها للشرائع الإلهية، في حين أننا نجد العكس من ذلك لدى بعض من وضع تلك القوانين؟ أقول: الأفعال الوضعية هي عين الأفعال التي أودعها الله تعالى في خلق الإنسان، والتي عبر عنها القرآن الكريم بـ (فطرة الله) ومخالفة ذلك توجب التبعية المتجسدة في بعض الأهواء التي يجعلها الإنسان في قوانينه غير المنصفة، وهذا ما يخالف الوضع الطبيعي الذي أراده الله تعالى. لذلك نجد أن الحق تبارك وتعالى قد نسب من يحكم بغير شرعه إلى الكفر والظلم والفسوق، كما في قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة 44. (الظالمون) المائدة 45. (الفاسقون) المائدة.47.
عبدالله بدر اسكندر المالكي
التعليقات